إن إمكانية قيام نظام حكم ديمقراطي على أنقاض الدكتاتوريات التي تسلطت على رقاب الشعب العراقي لآماد زمنية طويلة، وعلى الخصوص بالكيفية والآليات التي جرت فيها في العراق، تبدو بعيدة المنال راهناً وفي المستقبل المنظور، ولا اظن ان الولايات المتحدة والتحالف الدولي الذي شارك في الحرب على العراق واطاح بشخص الدكتاتور والدولة بمرافقها ومؤسساتها، كان جاداً في الامر، مهما قيل عن تطابق المصالح، وحاجة الغرب الى عراق مستقر. كما ان الولايات المتحدة ومراكز أبحاثها ليست على هذه الدرجة من السذاجة لتتوهم ان الديمقراطية بأبسط اشكالها ممكنة من الناحية العملية بدون اساس اقتصادي اجتماعي وثقافي ينمو ويتجذر عبر مخاض تاريخي ينتج وعياً جمعياً وطنياً، يؤسس لممارستها.
وعموماً فإن ما يحدث في العراق ينطبق على الواقع العربي إجمالاً. إذ ان البنى الاقتصادية الاجتماعية والثقافة السياسية، تكاد تكون متشابهة في كافة المجتمعات العربية رغم التباينات المحدودة الناتجة عن اقتصاد الريع النفطي. وعليه فإن الديمقراطية عملية تاريخية طويلة المدى، وهي تاريخياً ابنة الحضارة الغربية ونتاج العصر الصناعي والاختراعات، والتطورات الكبرى في مجال العلوم والفنون والثقافة، والابداع الفكري والفلسفي، وبالتالي فهي ابنة المجتمعات المنتجة مادياً ومعرفياً، والقائمة على احترام العقل والحريات بأعتبارهما حاجات انسانية ضرورية لإستمرار تطور الفرد والمجتمع.
اين نحن من ذلك ؟، للاجابة على هذا السؤال المؤرق اقتطف نصاً من كتاب الاستاذ شوقي جلال (الفكر العربي وسيسيولوجيا الفشل)، "نحن لا نفكر بحرية ذلك لان ثقافتنا الاجتماعية المتسقة مع البنية السياسية وليدة حضارة الزراعة البدائية او الرعي علمتنا ان نخضع للمركز ــ السلطة ــ القوة. عيون المثقفين ترنو اليها في خضوع نظراً لما تملك من قدرة على الترغيب والترهيب والثواب والعقاب.... وعيون المثقفين تفيض طمعاً وخوفاً في آن واحد، والطمع والخوف محورهما الأنا الفردية. ومثلما السلطة ترى نفسها هي الامة ــ المجتمع ــ الدولة، وكذلك المثقف او المفكر يفكر في الامة من منظور السلطة ويرى حريته في تبعيته لها وليس في اكتشاف الحقيقة." (*)
ان الاستغراق في دائرة التخلف يعود بشكل رئيسي الى ثقافة الخضوع والتبعية، القائمة على اجترار مسلمات الماضي و العمل على إدامتها والحفاظ عليها كمطلقات مقدسة. ضمن هذا المناخ يتعطل الدور الريادي للمثقفين والمفكرين، ويحتل رجال الزوايا وفقهاء الظلام مكان الصدارة في المشهد الثقافي، مساهمين في تخريب الوعي الفردي والجمعي.
ويغدو شيخ العشيرة، رئيس الطائفة، زعيم الجماعة وقائد الحزب، حاكماً مطلقاً وسيداً مطاعاً ومهيمناً، يلوذ به الناس للتقرير في شؤونهم الروحية والدنيوية. وفي هذا المسار النكوصي تكمن قتامة الحاضر وبؤس المستقبل. وهو بالضبط ما يؤدي الى شلل الحياة الاجتماعية، وانفراطها الى كتل وجماعات يُقصي بعضها البعض الاخر، تحت ذريعة امتلاكها وحدها للحقيقة، وبذلك يتشظى الوطن وتنهار الدولة.
ودرءاً لكل ذلك، وحفاظاً على وحدة الوطن والمجتمع وكسراً لقيود التخلف المستحكمة في كافة مناحي حياتنا، يتطلب الأمر منا، محاكمة الثقافة التقليدية المتراكمة والموروثة منذ عصور، محاكمة نقدية صارمة، وبعث ما هو اصيل وتقدمي منها، وتجاوز ما لا يتلائم مع قيم العصر، وتبني المنهج العلمي الديمقراطي في كافة مناحي الحياة.
وعلى صعيد التجربة العراقية الملموسة بعد 2003 ، فإن المسار المتعثر لآليات الديمقراطية المولودة قيصرياً، يعود الى إرتهان اطراف اساسية من المعارضة العراقية للنظام الدكتاتوري المقبور، للعوامل الدولية والاقليمية، وغياب ثقافة الديمقراطية لدى القطاع الاوسع من النخب السياسية التي هيمنت على سلطة الدولة، وحاولت في ذات الوقت تغطية الفقر الشديد لكفاءتها السياسية وضعف قدرتها في ادارة الدولة على إستثمار فكرة المظلوميات وتقاسم تمثيل المجتمع اثنياً وطائفياً في الخطاب التعبوي والممارسة السياسية، الامر الذي ادى الى إفراغ الديمقراطية من محتواها الحقيقي.
كما ادى الى تعطيل نمو وتراكم الوعي الديمقراطي لدى الاغلبية الواسعة من المجتمع العراقي الخارجة تواً من أسر الدكتاتورية، وتحويل انظارهم نحو تحديات وهمية من الموروث المتخلف، بديلاً عن تحديات التنمية والحداثة، التي بدونها لا يمكن الولوج في ديمقراطية عصرية توفر الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين بصرف النظر عن الجنس والدين والعرق والطائفة واللون والمعتقد الفكري والسياسي.
كما ان التشابك الشائك بين الدين والسياسة، في نمط بناء الدولة وفي إدارة وظائفها في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كان وما يزال من اهم عوامل تعثر العملية السياسية والنزوع الشعبي المشروع نحو الحياة المدنية الديمقراطية. ويتوقف على حلحلة هذه العقدة مصير ومستقبل العراق كوطن وشعب ودولة.
سأحاول مغامرة الخوض في هذا الاشكالية ذات الحساسية العالية، بتكثيف شديد. تاريخياً ومنذ قيام دولة الخلافة الاموية حتى سقوط دولة الخلافة العثمانية، ارتبط الدين بالسياسة ارتباطاً وثيقاً، بهدف تبرير مشروعية ولاية أمر المسلمين الدينية والدنيوية، ولاضفاء صفة "القداسة" على طابع السلطة وضمان خضوع الرعية.
وقد تعاقب على سدة دولة الخلافة ــ مع استثناءات محدودة ــ سلسلة من الحكام الطغاة، ساموا رعاياهم المسلمين ابشع انواع المظالم والعذابات، وأُريقت انهار من الدماء في حروب وصراعات اسلامية - اسلامية، طمعاً في السلطة والجاه والمال، وكان وراء الخليفة المستبد سلطة فقهية تؤول الاحكام والنصوص الدينية بما يتناسب مع نزواته واهوائه الشخصية ونمط حكمه.
أن هذه السلطة، ذات التوجه الفكري ــ الفقهي الاتباعي ــ قامت بإعلان حد الردة على الحركات الفكرية والفرق الاسلامية المتنورة، المتفاعلة مع الظروف التي فرضتها التطورات التاريخية وتوّسع الدولة الاسلامية وازدهارها. وختمت بالشمع الاحمر على حرية التفكير وسدت منافذ التواصل مع ابداعات الشعوب والاقوام التي ساهمت اساساً في قيام الحضارة العربية الاسلامية، وادخلتنا عصوراً من الظلام والانحطاط، لم نقوَ على الفكاك منها حتى اللحظة.
و قد تم كل ذلك بحد السيف، وكان مصير المفكرين واصحاب المذاهب العقلية، التعذيب والموت بتهمة الزندقة. وعليه، فإن ثقافة التكفير والاقصاء والكراهية التي يختزنها التاريخ العربي الاسلامي، مازالت تمارس تأثيرها الضار في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومع المختلف على الصعيد السياسي والاجتماعي، وهي التي شكلت المنهل الايديولوجي للسلفية والتطرف والعنف، الذي يضرب اطنابه اليوم ناشراً الرعب والدمار والموت.
إن الاحباطات الفكرية والسايكولوجية التي سبّبتها هزيمة مشاريع الحداثة العربية في مطلع القرن العشرين وأحلام الثورة والتحرير المصاحبة لها ــ اضافة الى عوامل موضوعية اخرى خارجية وداخلية ــ هيأت المناخ من جديد لأنبثاق تيار ماضوي، كان يرى في سقوط دولة الخلافة العثمانية نهاية حكم المسلمين، حاملاً راية استعادة مجدها الغابر. وقد تمكن بفعل الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والصراع على طريق التطور اللاحق في النصف الثاني من القرن الماضي، من النمو والتغلغل والانتشار في الاوساط الشعبية، مؤطراً نشاطه السياسي بشعارات دعووية اسلامية.
وبطبيعة الاحوال فان هذه الاثام لا تنسجم مع المبادئ السامية للدين، ذلك لان الاديان بشكل عام، والدين الاسلامي بشكل خاص جاءت كثورات اجتماعية لتنظيم المجتمع واقامة سلطة العدل. ولذلك فإن العقيدة الدينية، أمتلكت قدراً من الثبات والرسوخ في وجدان الملايين من المؤمنين، وأضحت حرية الضمير والاعتقاد علامة مميزة في لوائح حقوق الانسان على الصعيد العالمي.
وهذا يعني ان قداسة العقيدة الدينية ورفعتها وحصانتها لا تمت بصلة للاحزاب والحركات السياسية المتلفعة بعباءة الدين، بل وتختلف جوهريا عنها، وعن مشروعها السياسي والغايات النفعية للقائمين عليها. ويكفي ان نتمعن في الارقام الفلكية لحجم الفساد في العراق لتأكيد سلامة هذا الاستنتاج.
ولكي احاور السؤال : اين نحن من ذلك ؟ مرة اخرى، لابد من الاشارة الى ان ثقافة الكراهية الموروثة من كهوف التاريخ، وعقدة رهاب الهوية في عالمنا العربي الاسلامي، يستحكمان كحلقة مغلقة في الوعي الجمعي، ويحولان دون الاغتراف من طوفان المعرفة الذي يقدمه التطور العلمي والتكنولوجي في كل يوم وفي كل لحظة، ويحجبان نور الحرية الذي لا بديل عنه لإستنبات شروط الابداع المعرفي اللازم لاستعادة لحمة المجتمع وحس الانتماء الوطني، واقامة نظام ديمقراطي يوفر الخبز والكرامة لمواطنيه.
(*) شوقي جلال "الفكر العربي وسيسيولوجيا الفشل" ص14، الطبعة الالكرونية - الطبعة الاولى ـ الورقية ـ 2002 الناشر : مكتبة مدبولي