الضابط الشيوعي بدري ستراك [(1924 ــ 2005)، خدم في منصورية الجبل وشارك في حرب 1948 في فلسطين، وكان ضمن تنظيم الضباط الاحرار، الذي فجر ثورة تموز1958، اعتقل بعد عودة البعث للسلطة في 1968 بتهمة مفبركة عقوبتها الاعدام، واطلق سراحه بتدخل من نوري عبدالرزاق حسين، جرى تسريحه من الخدمة العسكرية، وهو والد كل من الشهيدين الرفيق صباح بدري الذي اختطفته قوات الكتائب اللبنانية أثناء حصار بيروت عام 1982، والرفيق ثائر بدري الذي اعتقل في 24/9/1980، وتمت تصفيته على يد السلطات الامنية العراقية، واكتُشف لاحقاً في المقابر الجماعية] (1).
[من مواليد بغداد، لأُمٍ موصّلية وأبٍ من اصولٍ ارمنية، ينحدر من عائلة اوهانيس اسكندريان، وهي من اشهر العائلات الثرية في بغداد فترة أواخر الحكم العثماني، وقيام الدولة العراقية في العشرينات وما تلاها من القرن المنصرم. ولديهم اقطاعيات زراعية في مدينة الحلة والكوت ومدن عراقية اخرى، من بينها قرى في دشت الموصل، اضافة الى عقارات وبساتين في قلب مدينة بغداد. ولم يحصل على شيئ من ثروة العائلة "الضائعة قسراً" كواحد من الورثة الشرعيين، إطلاقاً] (2).
وكانت اسرة الفقيد تتكون من الوالدين، وثلاثة ابناء، بدري، جميل، واسكندر. توفي الوالدان مبكراً، كما قضى الشقيق اسكندر غرقاً في نهر دجلة، قرب الاعظمية، عندما كان صبياً يسبح مع اقرانه في النهر. وتعهدت خالتهما احتضان وتربية الاخوين بدري وجميل على افضل وجه.
انهى بدري تعليمه في مدارس بغداد، ودخل الكلية العسكرية، وتخرج منها ضابطاً في الجيش العراقي في بداية اربعينات القرن الماضي، وكان إنساناً متعدد المواهب، ولديه حساً فنياً عالياً، حيث كان رساماً ويعشق الموسيقى، كما كان رياضياً ايضاً، حيث ممارسة التمارين الرياضية الصباحية، تقليداً حافظ عليه بإنتظام طيلة ايام حياته. وفي تكوينه العام كان شخصية شعبية اجتماعية متفتحة، محباً ومتعاوناً مع الاخرين، كما كان دقيقاً ومنضبطاً، بعيداً عن الصرامة والتجهم، التي تضفيها نمطية الرتبة العسكرية في التقاليد السائدة آنذاك.
وعلى الرغم من انه عاش طفولته وصباه ميسوراً من الناحية المالية والاقتصادية، الا انه كان يعي بحسه العفوي المظالم الاجتماعية والسياسية التي يئن منها الناس من حوله، وقد ساعده حبه للقراءة والثقافة في التقاط الوعي الوطني في شبابه المبكر وكان يرى في انحيازه الى جانب الفقراء مسؤولية سياسية و انسانية اخلاقية في آن واحد، وكان يرفض بشدة الفوارق الطبقية والاجتماعية ، ولهذا اختار بوعي الانضمام الى الحزب الشيوعي العراقي.
تدرج في المراتب العسكرية، حتى وصل الى رتبة عقيد، وواصل تعليمه المهني، وتعين آمراً للكلية العسكرية، واستاذاً في كلية الاحتياط، وقد احيل الى التقاعد لاسباب سياسية في العهد الجمهوري الاول 58 ــ 63 ، كما كان احد معتقلي سجن رقم 1 الذي كان يضم الضباط الشيوعيين ، وكان ضمن السجناء الذين زج بهم انقلابيو شباط في قطار الموت الشهير في محاولة للابادة الجماعية لدى نقلهم الى سجن نقرة السلمان.
وعن قصة اعتقاله في عام 1969، كان يسكن قريباً من ساحة كهرمانة، وبينما كانت العائلة قد وصلت لتوها الى البيت بحدود الساعة 12 منتصف الليل، عائدة من زيارة لعائلة صديقة، سمعوا طرقاً غريباً على الباب، وعند فتح باب الدار، وجدوا ان البيت مطوقاً بقوى الامن، اخبره الضابط المكلف بالعملية، نحن بحاجة اليك، وعندما استفسر عن الامر اخبره الضابط بأن عليه ان يأخذ ما يحتاجه من ملابس لان القضية قد تطول. ومنذ تلك الليلة تم احتجازه في قصر النهاية، وبقي معتقلاً لمدة سنة ونصف تعرّض فيها الى اشد صنوف التعذيب، واحيل الى محكمة عسكرية بتهمة مفبركة، هي زيارة اسرائيل وحكم عليه بالاعدام، وقد رفض التهمة الموجهه اليه، بالادلة القاطعة التي تثبت عدم مغادرته بغداد في التواريخ المثبتة في لائحة الاتهام، وخاطبهم قائلاً: لو حكمتم بإعدامي بتهمة الشيوعية لقبلت حكمكم، أعرف انكم تريدون اعدامي لكوني عسكرياً شيوعياً، وهي تهمة اتشرف بها، وانا لا أهاب الموت دفاعاً عن وطني، عن كرامتي وشرفي العسكري، وعن انتمائي الشيوعي، وارفض ادعاءات محكمتكم الملفقة بالكامل. وقد نُشر قرار المحكمة في حينها بأعدامه في الصحف الرسمية، وقد تأخر تنفيذ الحكم، ومن ثم، تم اطلاق سراحه لاحقاً بتدخل الحزب، خلال فترة حوارات الحزب الشيوعي العراقي مع البعث في بداية السبعينات التي مهّدت لقيام التحالف بين الحزبين في عام 1973.
عمل في دار الرواد للصحافة والنشر التابعة للحزب الشيوعي العراقي مديراً للتوزيع في عام 1976 ، ثم تحوّل الى وظيفة اخرى بناء على رغبته في احدى المؤسسات التي يديرها الحزب آنذاك ولغاية اشتداد هجمة البعث على الحزب ومحاصرة مقراته ومؤسساته العلنية في عام 1979. وان تمكن شخصياً من الافلات من قبضة السلطات الامنية في حملتها الشرسة تلك. غير انه فجع بفقده ولديه، صباح مواليد 1958، والاصغر ثائر مواليد 1959، حيث تم اختطاف ثائر من قبل القوى الامنية في بغداد في عام 1980 عندما كان طالباً جامعياً في الفنون الجميلة، وتغييبه الى الابد. وصباح في عام 1982 في بيروت.
ومن سماته الشخصية، انه متحدثاً لبقاً، وعلى اطلاع واسع في شؤون السياسة والاقتصاد، ولديه دراسات بشأن تطوير الانتاج الزراعي في البلد، وقد ساهم في اقتراح مشاريع لتطوير الزراعة في البلد، وكذلك بشأن اقامة حزام اخضر لمدينة بغداد، قام بتقديمها للجهات الرسمية ذات العلاقة. وقد تبنت وزارعة الزراعة المشروع في حينها، على اعتباره من نتاج مراكز بحوثها، سارقة جهوده الفكرية .
كان وطنياً واممياً من طراز رفيع، وانسانياً في التعامل مع مرؤوسيه من الضباط والجنود، وتقدمياً في نظرته الى المرأة، وقد جسد ذلك عملياً في سماحته وتواضعه، وفي مشاركته ببعض الاعمال المنزلية، حيث كان يحرص شخصياً على اعداد وجبة فطور العائلة. وعلى الرغم من التهديدات والملاحقات الامنية، وفجعيته بتغييب واستشهاد اثنين من اصغر اولاده في عزّ الشباب، بقي منسجماً مع قناعاته، متعلقاً بالمدينة التي يعشقها بغداد، وملتصقا بوطنه حتى الرمق الاخير.
(*) عن طريق الشعب - الأثنين 6 / 4 / 2015
(1) فقرة من حوار منشور في طريق الشعب العدد 217، بتاريخ 3 تموز 2014.
(2) المادة هي ملخص حوار مع السيدتين نهلة عربو وزينة جاكوب، وهن من اقارب الفقيد الراحل، وعلى صلة مباشرة مع عائلته.