اعتمد اغلب سكان البلدات والقرى الصغيرة الواقعة في اطراف مدينة البصرة، وعلى تخومها، من جهة قضاء ابي الخصيب، على الزراعة كمصدر رئيسي للعيش مدعوماً بأعمال ثانوية اخرى، وكثيراً ما إجتمع العامل والفلاح في شخصية واحدة، تضطر لتوفير لقمة العيش الشريفة لافراد العائلة العمل ساعات غير محدودة يومياً. والحديث هنا عن مدينة البصرة قبل خرابها الناجم عن الحرب العراقية الايرانية 1980ــ 1988 والنتائج الكارثية التي تلتها.
وبسبب من تأثر الانتاج الزراعي غالباً بالظروف الطبيعية غير المستقرة، ولغياب المكننة الزراعية، وهيمنة مالكي الاراضي على الجزء الاكبر من المحاصيل الزراعية ، يحاول المزارعون اقتناص فرص العمل التي توفر مورداً ثابتاً للعائلة، كعمال في الموانئ ، او شركات النفط وغيرها من المؤسسات الخدمية الاهلية والحكومية.
وعموماً فان الطبقة العاملة العراقية التي تشكلت مع نشوء الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي، تعتبر فلاحية المنشأ كما تشير عدد من الدراسات. والشهيد علي باقر ينحدر من تلك العوائل الكادحة، التي جمعت بين الفلاحة والعمل المأجور، حيث ساعات العمل اليومي تمتد لاكثر من 12 ساعة يومياً.
ابوالخصيب، مدينة النخيل التي تعانق جدائلها الشمس. يحتضنها شرقاً، شط العرب القادم من ملتقى النهرين شمالاً، متجهاً صوب البحر. في رحلته الازلية هذه، ظل يروي اراضيها الشاسعة، موزعاً تدفق أمواجه في شرايينها التي تنتشر على مساحة المدينة بأكملها، ليمدها بطاقة الحياة، محولاً اياها الى بستان مثمر، بالخيرات والازاهير والمحبة، مانحاً لها بسخاء اخضرار ردائها الزاهي.
في ركن من جنة البستان (1)، ما بين الماء، وبين الماء ولد الفتى (علي باقر) ابنا بكراً لعائلة تسكن جزيرة البلجانية المسوّرة بإستدارة شط العرب ونهر بلجان المتفرع عنه، والذي يفصل بين قرية البلجانية ــ الجزيرة ــ وقرية بلجان التي تتصل باليابسة. وقد حل الوليد ضيفاً على دُنْيانا، في عام 1951، في 1/7 منه، حسب تسجيل النفوس ، مثل اغلبية العراقيين المولودين خارج المراكز الصحية.
وربما، لانه ولد ونشأ وترعرع بين الخضرة والماء، اكتسب نقاءه وطيبة سريرته من تلك الطبيعة الوادعة حيناً والقاسية غالباً، وتشبّع بطيبة اهلها، وبساطتهم، وبالكرم وغنى النفس والصبر على احتمال الشدائد. ذلك ما أهلّه ان يتعامل مع تحديات الحياة بايجابية، وان يكون جديراً بأعباء المسؤولية منذ سنوات الصبا والشباب الاولى.
عاش طفولته في البلجانية واكمل الدراسة الابتدائية في مدرسة الفياضي الابتدائية الواقعة في قرية الفياضي المجاورة، بعدها انتقلت العائلة الى مركز قضاء ابي الخصيب حيث اكمل الدراسة المتوسطة وانتقل الى اعدادية التجارة في مركز مدينة البصرة. وتحت تأثيرات الاقارب والاصدقاء وزملاء الدراسة في الاعدادية، تعرّف على السياسة وانضم الى الاتحاد العام للطلبة، وهي منظمة طلابية ديمقراطية ينظمها ويشرف على عملها الشيوعيون واصدقاؤهم، وكانت بمثابة المدرسة التي اعدتة للعمل الحزبي والسياسي اللاحق.
بعد اكمال الدراسة الاعدادية، دخل كلية الادارة والاقتصاد في البصرة، وحصل على شهادة البكلوريوس وعمل بعدها محاسباً في معمل الاسمدة الكيمياوية في منطقة ابوفلوس الى الجنوب من قرية باب سليمان المتربعة بدلال على شط ابي الخصيب المتفرع من شط العرب. وخلال سني الدراسة والتوظيف، حرص على الإستمرار في نشاطه المهني الديمقراطي والحزبي بهمة عالية ونكران ذات منقطع النظير.
تعرّفت عليه اول مرّة في بداية سبعينات القرن المنصرم، زميلاً في اتحـــــاد الشبيبة الديمقراطي العراقي ، المنظمة الديمقراطية التي كان الشيوعيون يلعبون الدور الاكبر في قيادتها في العهدين الملكي والجمهوري. وكثيراً ما كنت اصادفه في قضاء ابي الخصيب متنقلاً بدراجته الهوائية التي لا تفارقه على الدوام، شخصاً باسم المحيّا، يجمع ما بين الهدوء والجدية والنشاط بدرجة عالية من الاتقان.
كان الابن الاكبر لعائلة من اصول فلاحية، يعمل والده في الارض حسب نظام المغارسة ( التعبة )، اي ان على الفلاح ان يتحمل كافة نفقات خدمة وغرس الارض باشجار النخيل، على ان يتقاسم المحصول مع المالك، اي ان المالك يحصل على نصف العائدات دون عناء ودون توظيف اي مبلغ كان. ورغم انه ينطوي على استغلال سيئ لجهد المُزارع، الا انه افضل نسبياً من الفلاحة في الملكية الصرفة.
عمل والده اضافة الى فلاحة الارض، اعمالاً اخرى، لاعالة اسرته المتكونة من اربعة ابناء وبنت واحدة. وبحصول (علي) على الوظيفة، قدم دعماً اضافياً لاقتصاد العائلة. تزوج من ابنة عمه وعاشا سوية مع العائلة حتى مغادرته العراق في آواخر عام 1978 الى بلغاريا، ابان الحملة الفاشية التي قامت بها سلطة البعث الدكتاتورية ضد منظمات الحزب الشيوعي العراقي في بغداد والمحافظات، صار لهما بنتان وصبي واحد.
ترك الزوجة والاطفال صغاراً، كما ترك والديه واخوته واصدقاءه، ترك حياته كلها وذكرياته وعمله، ووطنه الذي احبه من الاعماق، تركهم جميعاً مرغماً، لانه كان يواجه المطاردة والموت في كل يوم وفي كل لحظة، وكان لابد له من الاختفاء او السفر. وقد استثمر سفره وغربته في اكمال دراسته العليا في بلغاريا حاصلاً على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد بوقت قياسي.
الشهيد علي باقر (ابو أياد) الواقف من جهة اليسار ضمن أحدى مفارز الانصار الشيوعيين في كردستان
عاد بعدها ثانية الى الوطن الذي كان يحمله معه، في شغاف قلبه، ولكن العودة كانت الى كردستان مقاتلاً مع رفاقه الانصار الشيوعيين. وصل الى قاطع بهدنان آواخر عام 1982، وتم تنسيبه الى الفوج الثالث، وكان يشغل موقع مستشار سياسي لاحد الفصائل.
"إستشهد الرفيق علي باقر (ابو اياد) عام 1985 ، بعد إصابته بجرح بليغ في الفخذ، حيث كان ضمن مفرزة انصارية تحركت لنجدة موقع كيشان، ولم يستطع طبيب المفرزة الدكتور جاويد إنقاذه رغم الجهود التي بذلها بسبب حدة النزف، كما استشهد الرفيق محمد ابراهيم جاسم (ابو اذار)، وكان قد تعرض الى اصابة بليغة في الرأس. وجُرِحَ الرفيقان ابو الحق، لقمان ايضا، في معركة قرية ديرشك. وقد تمكنت المفرزة من فك الحصار عن القرية بمبادرة شجاعة من البطلين يوسف وسليم بعبورهما النهر وقيامهما بحركة التفافية، إستطاعا من خلالها السيطرة على القوة المهاجمة بالكامل."(2)
كما تحدث عن ظروف استشهاده ايضاً، القائد الانصاري الراحل الرفيق توما توماس في مذكراته المنشورة في موقع الناس الالكتروني. (3)
كان الشهيد في حياته بالنسبة لي مثلاً اعلى في الالتزام والضبط الحزبي، متجرداً من الذاتيات بدرجة غير معقولة. وباستشهاده ترك في قلبي وجعاً ما زلت اعاني منه حتى الان. في اواسط السبعينات كنت عضواً في لجنة حزبية تتكون من ثمانية رفاق على ما اتذكر، والجميع مازالوا احياء، باستثناء شقيقي الشهيد قصي عبدالواحد (4)، وكانت لجنتنا تقود خلايا بعدد اعضاء اللجنة، وكان الشهيد عضواً في احدى الخلايا التابعة، ولا اتذكر بالضبط مسؤوله المباشر.
وبموجب التقاليد الحزبية، فان من مهام لجنتنا دراسة محاضر وتقارير ورسائل رفاق الخلايا، واتخاذ قرارات بشأنها وارسالها للهيئات الاعلى. في يوم ما في اجتماع اللجنة الحزبية وصلتنا رسالة من رفيق يقول فيها، انه انهى دراسته الجامعية وحصل على بكلوريوس في المحاسبة، وتتوفر لديه امكانية الحصول على عقد عمل في احد دول الخليج لمدة سنة او سنتين، يطلب رأي الحزب في الامر، ويضع نفسه تحت تصرف الحزب هنا او هناك.
درسنا الرسالة ورفضنا الفكرة بالاجماع، من منطلق ان اللحظة التاريخية التي نعيشها في العراق تتطلب منا جميعاً، خوض الصراع كل من موقعه لتعميق المنجزات التقدمية ومواجهة خطر ارتداد البعث. كان صاحب هذه الرسالة هو الرفيق الشهيد البطل علي باقر، وقد التزم بالقرار عن طيب خاطر، وواصل عمله الحزبي بذات الهمة وذات النشاط السابقين. وكان في اعتبار اللجنة في حينها ايضاً، انها لا تريد التفريط بكفاءة حزبية، كانت اوضاعنا بأمس الحاجة اليها، من اجل مبلغ من المال لا يساوي شيئاً، خصوصاً وان معدلات الاجور في العراق هي الاخرى كانت قد تحسنت بوتائر جيدة.
وفي كل الاحوال فان الذهنية التي قادتنا جميعاً لرفض طلب الرفيق وبغض النظر عن صحة قرارنا من عدمه، هي ذات الذهنية تقبلت مبررات القرار بقناعة. ما كان لنا في تلك المرحلة، وبذلك الوعي ان نفكر بغير تلك الطريقة. جانبنا الصواب؟... نعم. غير ان هاجسنا الاوحد كان وسيظل حرية الوطن وسعادة الشعب.
* طريق الشعب - الخميس 30 / 4 / 2015
(1) استعارة من الشاعر الراحل مهدي محمد علي (البصرة جنة البستان)
(2) الرفيق ملازم وردا عوديشو (ابو ميسون)، احد قادة المفرزة القتالية في معركة قرية ديرشك
(3) أوراق توما توماس - الحلقة 32
(4) اعتقل في حزيران عام 1980 وتم اعدامه بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي العراقي