قد يبدو عنوان المقالة مجافياً لتسمية الواقع المعلن من قبل الحكومة العراقية، فكلمة "الحرب" تبدو هنا أكثر من غيرها إستفزازاً في سياق الكلام الهادف لمعالجة حالة من فقدان الأمن التي باتت حقيقة واقعة لايمكن التغطية عليها بغربال..!
فالمسلسل الإجرامي من التفجيرات الدموية التي إستهدفت المئات العديدة من الأبرياء من المواطنين العراقيين، وخلال فترة وجيزة من الوقت، لا يمكن أن توصف في عرف القانون والسياسة للدول، بأنها مجرد أعمال مخلة بالأمن، حيث يصبح من الممكن إحتوائها بمجاميع محددة من أفراد الشرطة، إن لم تستنفر جرائها البلاد ، وتحدد المسؤوليات، ويقاضى بسببها من يقاضى، وينحى من مواقع المسؤولية من ينحى، وتعلن الحكومة نفسها، مسؤوليتها بشفافية عالية، لا تتطلب منها التفتيش عن المبررات، أو التعكز على ما يدعى بالإختراقات الأمنية، أو الذهاب بعيداً في توجيه الإتهامات ذات اليمين وذات الشمال، ومنذ اللحظات الأولى لوقوع الأحداث، وحتى قبل أن تقوم الجهات ذات الإختصاص القضائي بتحديد جهة الإتهام..!
فحقيقة ما دار ويدور على المستوى الأمني في البلاد لا يعكس إلا حالة من "حرب إفتراضية"، يخوض أطرافها ومن جهة واحدة، تنظيم هذه الحرب تخطيطاً وإعداداً وتعبئة لوجستية، ومعلوماتية إستخباراتية، وأخيراً تنفيذية، فيبدو وعلى مستوى التشابه التقني والتعبوي والتنفيذي بين جملة تلك التفجيرات، وكأنها تقاد من قبل مصدر واحد وبأهداف محددة المرامي سلفاً، وإن ظهرت في المحصلة الأولية لحصاد تلك العمليات، وكأنها ذات طابع تدميري بحت، وأحياناً قد يبدو عبثيا، وربما يبدو أيضاً وكأنه يتعارض من هذه الناحية ومن حيث الحجم والإعداد والكلفة الإنفاقية، مع ما يمكن أن يتوقعه المرء من أهداف يبتغيها المخطط لمثل تلك الأعمال..!
ومع ذلك وإستطراداً للحديث، فإنه من غير المتصور ستراتيجياً، وعلى مستوى طويل من الوقت نسبياً، حيث أن أعمال التفجيرات والمفخخات الإجرامية، قد توالت لوقت غير قصير وتعايش معها المواطنون وكأنها قدر محتوم، وعملياتياً على الصعيد اليومي، أقول أنه من غير المتصور، أن تبدو الصورة واضحة لتحديد معالم الطرف المقابل في هذه "الحرب الإفتراضية"، والتي تبدو في إستمرار تكراريتها وكأنها حرب حقيقية على صعيد الملموس، ولكن من حيث الواقع الحسي، لا يمتلك أحد من الدلائل والإثباتات المادية والحسية ما يشير الى معالم الطرف الفعال في هذه "الحرب"، وتظل الصورة تدور في فلك من ضبابية وإحتمالية أستنتاجية غير موثقة..!
ولكن ومن خلال نظرة عامة لكل محددات الأطراف الفاعلة في الساحة، فإن هناك من الحقائق الثابتة ما لا يمكن تجاهلها عند التطرق لما يدور في متاهات الشأن الأمني منذ فترة ليست بالقصيرة، حيث يمكن الإشارة اليها وبإقتضاب، بإعتبارها تشكل عوامل فاعلة سلباً أم إيجاباً في تحديد مسارات وأهداف ما يكمن وراء كل هذا المسلسل الإجرامي المنتظم، والذي لا يمكنه أن يكون بأي بحال من الأحوال، بعيداً عن أهداف سياسية متداخلة، يفترض إحتمالاً أنها تتقاطع مع طبيعة مسيرة العملية السياسية في شكلها وحدودها المعلنة الحالية..!
هنا تقف الحكومة الحالية في مقدمة تلك العوامل التي أشرت اليها، وهنا يبرز دور هذه الحكومة عملياً، فيبدو وكأنه دور هامشي في مجمل ما يدور على الصعيد الأمني وعلى مستوى الوطن، ومما يشير الى سمة هذه الهامشية، هو ذلك الدور المرتبك للنشاط الأمني للحكومة، والذي يتجلى في تكرار الحدث وضمن نسق متشابه في أغلب تفاصيله وبمسافات زمنية متقاربة، وفي ما تعكسه ردود فعلها المتأخرة على مثل تلك الأحداث، وما ينتابها من إختلاط مؤسساتي عند وقوع الحدث، مقروناً ذلك بتعدد المراكز الأمنية المسؤولة، وضعف وحدة التنسيق فيما بينها، وما ينتابها من ضعف في الخبرة والمجال المهني، كما كشفته الأحداث الأخيرة؛ ومن هنا لا يبدو دور الحكومة محسوساً عملياً، وكأنها طرف فاعل يقف في الجانب الثاني المتصدي من هذه "الحرب الإفتراضية" كما يفرضه عليها الواجب الدستوري، أو بمعنى آخر فإن دورها في هذا الجانب لا يعدو عن كونه دوراً إنتظارياً لساعة الحدث، كي يجري تحركها ورد فعلها متأخراً في هذه الحالة وبعد أن تكون الكارثة قد وقعت، وهنا يكمن مستوى القصور في أداء الحكومة ظاهراً للعيان، خاصة ما يتعلق بإجراءاتها الإحترازية، ما يترتب عليه من مسؤولية قانونية ودستورية، متروك أمر تقديرها للجهات البرلمانية والآليات الدستورية، ولست بصدد التوسع في هذا المجال لما يتسم به من مهنية عالية..!؟
العامل الثاني والذي يمكن الإشارة اليه في هذه المعادلة وبإختصار، فهو ما يتعلق بدور السلطة التشريعية ودورها الرقابي والتشريعي في هذه العملية، وهذا العامل من الناحية الموضوعية، يتداخل عملياً مع العامل السابق، كون الحكومة تعتبر وليدة مجلس النواب، وكون المجلس نفسه يمثل مجموعة كتل سياسية، وما الحكومة إلا إنعكاس لهذا التجمع، وبالتالي ومن هذه الحقيقة، يمكن الإشارة الى أن ما ينعكس من أداء سلبي لأداء الحكومة في المجال الأمني، لا بد وأن يجد صداه في مستوى فعالية مجلس النواب نفسه، ومستوى أداء دوره الرقابي للنشاط الحكومي؛ ومن هنا فلا غرابة في أن يكون دور مجلس النواب هو الآخر سلبياً، ولا تتضح فعاليته ودوره كطرف ناشط ومعاكس في هذه "الحرب الإفتراضية" من الجانب الثاني، وهذا ما حول دوره الى مجرد دور إنتظاري هو الآخر، كما تجلى في جميع الحالات التي تعرضت فيها البلاد الى مثل تلك الهجمات الإجرامية، وكذلك ما تعكسه أحيانا المناقشات التي تدور في رحاب المجلس نفسه، ومنها على سبيل المثال الجلسة التي إستضافت السادة الوزراء الأمنيين ليوم 12/12/2009، والأيام التي لحقتها، والتي كشفت في معظم تداولاتها حجم التناقض بين أقوال السادة الوزراء الأمنيين، ولا يريد المرء هنا سبق الأحداث فجلسات المجلس لم تنتهي بعد، ولم تتضح بعد صورة موقف مجلس النواب من كل ذلك ..!
الى هنا يمكن القول بأن "الحالة الأمنية" بشكل عام ؛ هي الشكل المعلن لما أسميناه "بالحرب الإفتراضية"، وهي في واقعها حرب حقيقية خفية وبأشكال تختلف عن طبيعة الحروب التقليدية، والتي لم يسفر أصحابها ومثيروها عن أسبابها وأهدافها، عدا عن ما يعلن في وسائل الإعلام الرسمي والعام من تصريحات المسؤولين الحكوميين، وأغلبها تتسم بالتناقض، وتعتمد التفسيرات والتأويلات التي تعوزها الدلائل والأدلة القاطعة..!؟
ولعل أهم ما يميز تلك "الحرب"، هو ضبابية معالم وشخوص الأطراف المشاركة فيها، والتي كثيراً ما تضيع معرفة حقيقتها، في ذلك التشابك والإختلاط التي تمارسه الجهات الحكومية والإعلامية المختلفة، في عملية تحديد معالم تلك الأطراف، ولذلك فهي تدور في دائرة واسعة من الإتهامات الموجهة الى عدة جهات داخلية منها وإقليمية وحتى دولية، والمقصود هنا تلك الأطراف التي تخطط وتنفذ كافة الأعمال الإجرامية، هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى، فإن الجهات الرسمية بإعتبارها الطرف المقابل في عملية التصدي لتلك الأعمال الإجرامية، فهي الأخرى تتسم بضبابية نشاطاتها وإجرائاتها المعاكسة، وردود أفعالها المتأخرة وتعدد أجهزتها الأمنية المفتقدة للتنسيق المعلوماتي والإستخباراتي فيما بينها، وحالة التعارض فيما بينها على صعيد الإجراءات كما بيناه فيما تقدم..!
وفي جميع الأحوال، فإن اي تفكيك لمفردات ما يحصل في نطاق الملف الأمني وما يمكن أن تسفر عنه تداعيات الأحداث الإجرامية على صعيد المواطن العادي، وما قد يبني عليه من تكهنات إفتراضية في ظل غياب المعلومة الخبرية الصحيحة، وتعدد مصادرها، لا يمكنه أن يذهب بعيداً عن الإشارة، الى حقيقة ما يدور من صراعات داخلية بين مكونات الكتل السياسية الحاكمة نفسها في إطار العملية السياسية، والذي بدوره يجعل الطريق مفتوحاً أمام أية قوى أخرى في الداخل أو الخارج ممن يقف بالضد من مسار العملية السياسية الحالي، بأن تستفيد من حالة الخلل والإرتباك السائدة في (الملف الأمني) في جميع أشكالها الإدارية واللوجستية، وقدراتها الفنية، وكذلك في طبيعة السياسة الأمنية الإستراتيجية المرتبكة، وهذا عامل غاية في الأهمية، لتوظفها لمصلحتها، بل وتخطط على ضوء ذلك، كل ما يمكنه من إظهار حالة الوضع القائم سياسياً وأمنياً بالصورة التي تعبر عن ضعف الحكومة وعجزها، بل وحتى فشلها في إدارة البلاد سياسياً وأمنياً، وهذا ما لا تريد أن تدركه الحكومة الحالية؛ وما كشفته جلسات مجلس النواب الحالية، وحده كافياً للتدليل على حجم القصور الحكومي الأمني، وما تتحمله الحكومة من مسؤولية إزاء ذلك، بإعتبارها الجهة الرئيسة في إدارة الملف الأمني والمحافظة على أرواح المواطنين..!
إن كل ما تبديه تلك الحكومة والظاهر للعيان على الصعيد الإعلامي، من خلال خطب وتصريحات السادة المسؤولين، هو فقط رضاها عن الحالة السياسية الراهنة والهشة، وإعلانها المستمر لإنجازاتها على كافة الأصعدة ومنها الصعيد الأمني، بعيداً عن حقيقة الواقع القائم وما يعكسه على الصعيد المادي والمعنوي للمواطن العراقي، وتراها متمسكة بنهجها المذكور، طالما هي لا زالت في دست الحكم، حتى لو كان ذلك على حساب المزيد من بحور الدم التي تغرق بها بغداد والمدن العراقية الأخرى بين حين وآخر، وهذا ما أوحى به السيد رئيس الوزراء نفسه في خطابه حول تفجيرات يوم الثلاثاء الدامي في 8/12/2009 من إحتمالية التكرار، وهذا ما يبعث على الأسى والإستغراب..!؟؟
ويبقى أمامنا العامل الثالث والمهم في كل هذه المعادلة، والمقصود به موقف المواطن العراقي من هذه "الحرب الإرهابية"، ومن كل ما يدور حوله طيلة كل هذه السنوات الكالحة، التي خيمت عليه وكأنها كابوس خانق في عتمة الظلام، فلا يجد أمامه سوى أنه الطرف الضحية في كل ذلك، وهو وحده من يتحمل وزر نتائجها دموعاً وأنهاراً من الدماء، رغم كل ما قدمه ولا زال متمسكاً به، من فوارض العملية السياسية، بأمل بناء حلمه في دولة الديمقراطية المنشودة، الذي ظنه قادماً بعد كل عقود الظلم والإستبداد، ليجد نفسه أخيراً طعماً سائغاً للمشاركين في هذه "الحرب القذرة" ، وطرفاً يحترق في لهيب نارها المستعرة؛ تمحقه البطالة جوعاً، وتسحقه أزمة الماء الصافي والكهرباء نفسياً، وتخنقه غيوم التلوث، وتهدر كرامته فلول الإحتلال..!!؟
وها هو المواطن العراقي يضع نفسه قريباً، في عملية مخاض جديد، ليمارس بنفسه عملية الإنتخابات؛ ليؤدي "فرضاً ديمقراطياً" مهماً من فروض العملية السياسية، وليختار بنفسه أيضاً، إذا ما صح القول، حكامه الجدد، لأربعة سنوات أخرى جديدة بالتمام والكمال، وليسأل نفسه بعد ذلك، الى أين قد قادته قدماه، وهل كان ما فات من الماضي القريب، فيه من العبر والدروس، ما يستحق فعلاً التأني في الإختيار واستلهام دروس المحن والإعتبار..؟!!
كتب بتأريخ : الثلاثاء 15-12-2009
عدد القراء : 2599
عدد التعليقات : 0