يبغي مخططو ومقترفو الجرائم الشنعاء أن تكون كل أيام الأسبوع أياماً دامية، فهذا وحده ما يشفي غليل الوحوش، بينما ساستنا المهيمنون على المشهد السياسي يخوضون معارك الكراسي، ويتقاتلون على الامتيازات، تاركين الضحايا الأبرياء يحترقون بنيران المفخخات، فيما يغيّبون إرادة الملايين، ويدفعونهم الى مزيد من المعاناة والحرمان واليأس.
ولم يعد من الغريب أن يقترن هذا المشهد المأساوي المحبط بالتجاذبات السياسية والصراعات المتفاقمة بين القوى المتنفذة، ومثيلها ما حدث بشأن التعديل المجحف لقانون الانتخابات، الذي أعقبته جريمة الثلاثاء الدامي، وكانت بتحفيز من عواقب النزاعات السياسية التي وفرت الفرص والأجواء لاضافة القتلة صفحة أخرى سوداء الى صفحتي أحد وأربعاء الدم. ولم يكن من دون دلالة أن يقول رئيس الوزراء، وهو القائد العام للقوات المسلحة، في جلسة الخميس الماضي المغلقة للبرلمان العراقي، إن "كل هذه الجرائم الأخيرة بسبب الخلافات السياسية والطائفية ...".
أما التناقضات في التصريحات، وهي تناقضات باتت جزءاً من ثقافة تسود الحياة السياسية في البلاد، فترسم، على الدوام، أشباحاً بريشة طمس الحقائق المقصود والادلاء بكلام حمّال أوجه يكشف عن استحواذ وتخندق وضيق أفق، في سياق أحاديث منفعلة عمومية واتهامات متبادلة سرعان ما تخفت، ليعود مطلقو التصريحات الى "شغلهم" الأساسي الشاغل، وهو حصد مزيد من الامتيازات على حساب مآسي الملايين المروعة.
وتتكرر نغمة تحميل البعث والقاعدة المسؤولية بصورة آلية جاهزة، مع أن أي امريء منصف لا يشك ببشاعة ذئاب البعث والقاعدة وطبيعتهما الاجرامية الوحشية. ويعود الخدر بعدئذ في تكرار للتجربة كل مرة، بعد أن تنزوي الاتهامات وتهدأ الأجواء المشحونة، ربما في أعقاب حديث عن إجراء تحقيقات وضرب بيد من حديد. أما أهالي الضحايا الأبرياء والملايين ممن لم يعودوا يثقون بوعود الحكومة والبرلمان والسياسيين المتنفذين، فيعرفون، بالتجربة المريرة، أن هذا ليس سوى ذر للرماد في العيون، تضطر الجهات المسؤولة الى ممارسته كتبرير لمواقفها في صراع السلطة المحتدم، فلا تحقيقات ولا نتائج، ولا ضرب ولا حديد، ولا هم يحزنون !
وإذا كانت "الدولة" بسياسييها المتنفذين المتصارعين وحكومتها وبرلمانها، تحاول إيهامنا بأن مخططي ومقترفي الجرائم هم مجرد حفنة من بقايا البعث الصدامي وفلول القاعدة، فلنقرأ على هذه الدولة السلام. إن كل ذي بصيرة يعلم أن هؤلاء القتلة هم، في الواقع، وقبل كل شيء، مشروع إرهاب له ثقافته وفكره وبيئته وعناصره وتنظيمه وتمويله وأنصاره واختراقاته الأمنية وسوى ذلك من الامكانيات التي تكفل له إشاعة الموت والرعب في دورات يبدو أنه القادر على التحكم بزمانها ومكانها في بلاد دولتها "مشلولة". وليس من المفاجيء أن يؤكد بعض المحللين المطلعين على أن لدى الارهابيين من يمثلهم في العملية السياسية ومن يدعمهم في البرلمان.
واذا كان المنطق يقضي بعدم المبالغة في تقييم قدرة "أهل الظلام" فان هذا المنطق ذاته يقضي بعدم الاستهانة بهذه القوة، خصوصاً اذا ما أخذنا بالحسبان أن "أهل النور" منشغلون بصراع السلطة والامتيازات، وهو صراع يوفر، من بين نتائج أخرى، أثمن الفرص للارهابيين من أجل الايغال في تنفيذ مشروعهم الساعي الى إجهاض العملية السياسية وإعادة البلاد الى ظلام الاستبداد.
ومما يلفت الانتباه أن تداعيات الثلاثاء الدامي كانت سريعة ومحاطة بالانفعالات على مختلف المستويات، وهو ما تؤكده الكيفية التي تعامل بها نواب في البرلمان مع هذه الأحداث المأساوية. وقد وصل الأمر الى حد أن أحد النواب قال إن الأميركان أبلغوا رئيس الوزراء في صباح الثلاثاء الباكر عما يحتمل أن يحدث، لكن التفجيرات وجدت، مع ذلك، طريقها الى التنفيذ، وهو أمر في غاية الخطورة.
هكذا فجرت هجمات الأسبوع الماضي الخلافات داخل الحكومة والبرلمان والقوى السياسية المتنفذة، بينما رأى محللون أن مثل هذه التهديدات تدخل في باب المزايدات التي يلجأ اليها سائر المتصارعين في سياق توجيه وتبادل الاتهامات والمتاجرة بالدماء والفواجع.
وقد يبدو عسيراً على المرء أن يفهم لماذا "تسيّس" أيضاً، موضوعة علنية وسرية جلسات البرلمان، ولماذا جرى الاصرار على أن تكون جلسة الخميس الماضي سرية، بينما تسربت أهم نقاشاتها الى وسائل الاعلام التي راحت تنشر التقارير عنها كاشفة أسرار البرلمان. واذا كان من المنطقي الاعتراف بحقيقة أن بعض الجلسات لابد أن تكون سرية، فان جلسة مثل جلسة الخميس التي ناقشت الاخفاقات الأمنية لا تستدعي حجب الشفافية عن الناس الذين يحق لهم معرفة الحقائق التي تعنيهم، وليس إبقاء هذه الحقائق حبيسة كراسي البرلمان وأدراجه.
* * *
الضحايا هم ليسوا أطفال ونساء المتصارعين في مناطق "خضراء" بل هم الأبرياء من المحرومين والمعوزين ومغيّبي الارادة ومن دفعتهم النوائب الى اليأس .. أولئك الذين بحّت أصواتهم من النداء، حتى لقد باتوا يرتابون بأصواتهم المحبَطة، وربما يرون أن الصمت أصدق أنباءً من أجراس تقرع دون أن يسمعها "مقررون" ..
السؤال الحارق الموجه الى القوى السياسية المتنفذة والبرلمان والحكومة هو: هل سيتوقف مسلسل الاجرام؟ متى وكيف ؟.
طريق الشعب 16/12/ 2009
كتب بتأريخ : الثلاثاء 15-12-2009
عدد القراء : 2699
عدد التعليقات : 0