تقسّمت المنطقة العربية بعد انهيار العثمانيين بحرب احتلال و محتل جديد من ديانة اخرى . . الى دول رُسمت حدودها باتفاق القوى العظمى على اساس النفط و الثروات و اهمية المواقع الستراتيجية، و بطرق تنوّعت بتنوع الواقع الجاري في تلك المواطن آنذاك من ثورات و هيجانات شعبية ، تمردات عسكرية، احتلال، مواقف جوار وصولا الى تحقيق الهيمنة.
و قد لعبت الدور الاساسي في ذلك التقسيم على الارض، جيوش الاحتلال التي حاربت ضد العثمانيين و ضد اهالي بلدان و دول قائمة منها . . و فيما ابقت على مناطق لم تحدد عائديتها لأسباب تنوعت من صعوبات البت حينها، الى تركها كنقاط خلاف بين جيران لأنها اعتاشت و تعتاش على نزاعات الاطراف المحلية و توظيفها لمآربها ، فإنها تركت نزاعات لتأخذ مداها و لعبت دور المراقب و الخبير و المستشار للاطراف المتنازعة لتتدخّل في اللحظة المختارة، و حرصت على سرية مواقفها تلك كي لاتدخل بصراعات مباشرة مع شعوب المنطقة.
الأمر الذي يتكرر الآن في اعادة تقسيم المنطقة لأسباب عديدة بإعلان ( دولة خلافة) داعش الإرهابية، كدولة هلامية متحرّكة لاتحتاج حدود، المهم عندها هو ( البقاء و التمدد ) : بقوات من متطوّعين عالي التدريب و الإستعداد، نسبة كبيرة منهم كانوا قادة و افراداً في الجيوش الجرارة (1) التي انحلت باحتلال العراق و بهبّات و عصيانات و انتفاضات (الربيع العربي) التي اسقطت دكتاتوريات عسكرية خنقت الشعوب . .
حيث تشكّلت هذه المرّة، باموال طائلة لسرقات كبيرة، نفط و آثاريات و اسلحة متطورة، و بملفات معلوماتية عالية التصنيف موروثة، حققت لها اعداداً كبيرة من المجسّات الإستخبارية، اضافة الى امكانيات اعلامية قلّ توفرها خارج ستوديوهات هوليوود، تتمتع بحرية اعلامية قلّ نظيرها و كأنما لاحرب دولية هناك ضد الإرهاب و انما حريّات نشر ؟؟، دولة تستفيد و توظّف ازمات عالمية لبطالة الشباب و لأمراض الجنس و الكبت الإجتماعي.
داعش التي يصفها كثيرون بكونها، ناتج و توظيف لإفرازات واقع دولنا العربية و الإسلامية في مسيرتها التي غلب عليها الاستبداد و الوحشية و الظلم الإجتماعي بمختلف التسويغات و التنظيرات، و كسعي لمراكز قوى عظمى دولية و اقليمية لبلورة تلك الإفرازات بشكلها القائم المعلن، مدعوماً بسياسات دولية متناقضة تناقض اجهزتها التنفيذية ذاتها، كالتناقض و الصراع بين البنتاغون و المخابرات الأميركية (2) . .
و محاولة استخدامها بشتى الوسائل المباشرة، و غير المباشرة ـ بغض نظرٍ عن اعمالها ـ، كأداة لإعادة تقسيم المنطقة وفق المصالح الجديدة، بدون الحاجة الى جيوش احتلال عالية التكاليف كما جرى في السابق . . وفق ابرز وكالات الأنباء العالمية و الإقليمية المحايدة، و تصريحات وجوه سياسية بارزة من قادة الإدارة و مرشحي الرئاسة الأميركية ذاتها .
و يصف خبراء تباطؤ التحالف الدولي في محاربة داعش رغم انواع الضجيج، بكونه لترك داعش تعمل كوحدات قذرة تقوم بأحطّ الأدوار السياسية في واقع اليوم، بأهداف بعيدة و خيالية . . لسد الفراغات و لتلبية حاجات الاقطاب الإقليمية و الدولية المتصارعة بانواعها عند حاجتها ـ الاقطاب ـ في اللحظة المعيّنة(3)، مقابل تأمين تمويلها و تسليحها و تدفق متطوعيها بغض النظر عن ذلك التدفق، وصولاً الى الاهداف المرسومة بالتوقيت المناسب .
و على ذلك يراها قسم آخر بكونها كيان حدودي يتمدد في مناطق الحدود القصيّة المهملة للبلدان في بقع متفرقة من ؛ العراق و سوريا، الى سيناء و ليبيا و تونس و غيرها، و ينطلق منها الى الاعماق في لحظة ارتخائها بعد اعمال تمهيدية سريّة تنفذ من خلال الفساد القائم . . لينسحب سريعاً الى الحدود محتفظاً بقواه و كأنه كيان سحري يتحرّك بقدرة قادر الهي يجعل من مقاتلي داعش و كأنهم خارقي القوة. فيما يصفها آخرون بأنها أداة لإعادة تقسيم المنطقة باستهلاك و تدمير قواها باشعال حروب بينها ذاتها، و بادامة و دعم تلك الحروب بشعار (محاربة الإرهاب ) .
و على ماتقدّم تأتي التصريحات متناقضة لقادة التحالف الدولي حتى العسكريين منهم، فبعد ان تعهدوا بانهائها بأشهر بداية، ليصلوا كما عبّر الرئيس الأميركي اوباما الى ان المعركة قد تطول لسنين، في اجواء تثير الدهشة من قيام الدوائر الاميركية ـ و ايرانية ايضاً ـ بالتشاور و محاولة التفاهم و حتى التأهيل للاشتراك في الحكم، مع طالبان الافغانية و الباكستانية و النصرة السورية.
فيما يرى قسم آخر بأن داعش هي تعبير عن ظهور المخفي و المكبوت الوحشي لأمراض المنطقة، الذي صار يطفو على السطح في خضم التغييرات و التحديات العاصفة الهائلة التي تجتاحها، مجسداً الجاهلية العائشة في حياتها و عقول فئات واسعة بسبب الدكتاتوريات العسكرية الدموية الحاكمة التحريمية التي سقطت . .
و ان الصراع مع داعش هو صراع مديد بين ماضي جامد وحشي، و بين الحداثة التي لابدّ ان تتثبّت ببدائل وطنية مدنية متحررة كلّما اشتد الصراع، الحداثة التي تستطيع ان تحقق العدل و المساواة بين كلّ مكوّنات مجتمعاتنا بأطيافها، و تحقق النصر على الفساد الإداري . . لأنها البديل الوحيد القادر على لمّ قوى الشعوب المدنية و المسلحة كقبضة واحدة على اسس علمية فاعلة مجرّبة و ليس على الغيبيات و الخيال الفارغ غير البنّاء، لمواجهة داعش و اخواتها و الأنتصار عليهم، و ان الحداثة ستبرز كما يبرز القادة الكفوئين في ميادين الصراع.
و اخيراً فان الصراع مع داعش هو صراع عنيف بين اسلام جامد يجري تشويهه على ايدي مجرمين و مشعوذين، و بين اسلام عصري بنّاء يواكب الحياة و العلم و المعرفة، حيث لم يكن نبي الإسلام الاّ مجدداً في زمانه و عالمه .
10/ 7 / 2015 ، مهند البراك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. كما ينعكس في تكتيكاتها و اساليب قتالها المتطورة، اشاعتها افانين الارهاب الفردي و الجماعي لمتخصصين بالاجهزة الارهابية.
2. فالبنتاغون يقصف و المخابرات تمد يد الدعم في الظلام .
3. كحالة حرجة لنظام ما لمواجهة خصوم، و كالفراغات الناشئة من عدم قدرة نظام معيّن على ملئها، او التي تتيحها أنظمة أو منظمات عاجزة عن التجذر والاستقرار . . كحاجات و اهداف الأسد او خصمه اردوغان، جهة ايرانية او خليجية في مرحلة ما !!