زارع الامل ــ الشهيد جبرائيل بولص متي
بقلم : عبدالمطلب عبدالواحد
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

ادرك العامل الشيوعي جبرائيل بولص متي (ابوسمرة) الصراع الطبقي منذ سنين تفتحه الاولى، حيث رأى بأم عينيه بشاعة الاستغلال والظلم الطبقي الذي مارسه الاقطاعيون على مزارعي قريته الفقراء، على عائلته، وعلى ابيه بالذات كواحد منهم. ومذّاك، لحظ بفطرته تمرد والده وشكواه ورفضه للاستغلال، محرضا جموع الفلاحين لانتزاع حقوقهم المشروعة في الحصول على نسبة عادلة من المحصول الذي يذهب بقضه وقضيضه الى جيوب الاقطاعيين ووكلائهم.

وعندما بلغ مرحلة الصبا والشباب، وجد اخوته الاكبر سنا، منشدين طواعية وحماساً لقضية الوطن، ولمصيره، ولاحداثه، راهناً ومستقبلاً. منغمرين في قلب الصراعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، متطلعين للتغيير نحو عالم العدالة الاجتماعية والحياة الانسانية، حيث الاجتماعات والتثقيف والنشاط الحزبي والنقابي ، مداهمات الشرطة للبيت بين فتره واخرى، وام تتنقل بين مراكز التوقيف والاعتقال لمواجهة ابنائها المختطفين، ما اشعل جذوة الحماس في قلبه وروحه وعقله، حيث قاده وعيه المبكر الى الانتماء للحزب الشيوعي العراقي مثله مثل اخوته الاكبر سناً، واقرانه من الشغيلة والكادحين ومن مثقفي ابناء جيله.

ولد الشهيد جبرائيل بولص متي عام 1947، في بلدة كرمليس الواقعة في سهل نينوى، على بعد 15 كم من مدينة الموصل لابوين يمتد نسبهما الى مدينة القوش، موطن الاباء والاجداد، ينحدر الاب بولص متي من عائلة رمو، والام من عائلة جما وهم اخواله في ذات الوقت، اذ كانت هاتين العائلتين ترتبطان بمصاهرات عديدة.

وبسبب من الاضطهادات والنزاعات الدينية والطائفية في القرن السادس عشر هاجر عدد غير قليل من العوائل الالقوشية المسيحية الى كرمليس، التي لا تبعد عنها كثيرا، وتمتاز كرمليس بكونها منطقة سهلية تتوافر فيها المياه والاراضي الخصبة، وتشكل بذلك احد عوامل الجذب للانتقال اليها والاستقرار فيها.

انتقل الاب المولود في مدينة القوش الى كرمليس وعمره سنة واحدة، اذ توفي والديه فأخذه عمه الى هناك وتعهد تربيته، وعندما اشتد ساعده عمل في زراعة الارض كحال الاخرين، وفيها اقترن بقريبته، واعطيا للحياة سبعة ابناء يتوسطهم جبرائيل (ابوسمرة)، سبقه ثلاث اخوة، وجاء بعده اثنان من الاخوة واخت واحدة.

في عام 1956 انتقل نصف العائلة الى بغداد (الاب والابنان الكبيران) بحثاً عن فرص افضل لحياة العائلة، ونشداناً للامان. حطوا الرحال في سكن ملحق بكنيسة مار يوسف اول الامر. اشتغل الوالد شماساً اضافة الى اعمال اخرى، والتحق الولدان بالدراسة مساءاً، وفي سوق العمل نهارا، حيث حصل الاخ الاكبر على عمل في شركة للحدادة والتحق معه اخوه بعد ذلك في نفس الشركة، واستطاعا بفعل اجتهادهما والتدريب العملي الذي حصلا عليه التحول الى عمال مهرة.

بعد ذلك التّم شمل العائلة عندما استكمل النصف الثاني من العائلة الهجرة الى بغداد في نهاية عام 1959، لتسكن بادئ الامر في منطقة الكرادة - البولسخانة ثم تنقلت في بيوت مستأجرة في مناطق بغداد الشعبية .. كان عكد النصارى آخرها، قريبا من دار عم الاولاد، الذي يدير ويملك محل خياطة للبدلات الرجالية في نفس المنطقة، في شارع فرعي قريباً من ساحة الغريري.

حينها توفرت للشهيد ابوسمرة فرصة عمل مع عمه في محل الخياطة نهاراً، وواصل مساءاً دراسته المتوسطة واكمل الدراسة الثانوية في الاعدادية المركزية. واستطاع من خلال محل الخياطة تعلم المهنة واتقانها ومواصلة العمل فيها بحرفية عالية.

وكان ما يحصل عليه من اجر يدفعه لتغطية النفقات الاقتصادية للعائلة، منطلقاً من شعوره الذاتي بمسؤوليته تجاه العائلة، كما كان يعي في اعماقه بأن المسؤولية الوطنية تحفزه للانتماء للحزب الشيوعي العراقي للمساهمة في عمل جمعي يفضي الى حياة افضل لكل المجتمع. ومنذ شبابه المبكر تحوّل سنداً لوالده في دعم اقتصاد العائلة، وبسبب من هذا الدعم والتلاحم العائلي استطاع الاب ان يشتري قطعة ارض في مدينة الدورة، شيّد عليها داراً، وانتقلت العائله اليها في صيف عام 1963.

استمر عاملاً في محل خياطة عمه طيلة فترة السبعينات، ولم يستجب ابداً لنصائح وتشجيع الاقارب والاصدقاء لفتح محل خياطة خاص به، معتقداً انه سيكون منافساً لعمه وهذا ما لم يقبله على الاطلاق، ولكنه اضطر في النهاية لترك المهنه والعمل في الحدادة في اواخر السبعينات في معمل حدادة اخيه الاكبر، متخذاً من معمل الحدادة الواقع في منطقة بساتين بأطراف مدينة بغداد مكاناً للاختباء بعيداً عن أعين شرطة السلطة ومخبريها، وحملة اعتقالاتها، وملاحقاتهم له بلا مسوغ، سوى معتقده السياسي، على الرغم من وجود ميثاق تحالف بين الحزبين الشيوعي العراقي والبعث في تلك الفترة.

في عام 1979 اثر تصاعد وتائر هجوم نظام البعث على اعضاء وكوادر الحزب الشيوعي العراقي وصحافته ومؤسساته العلنية، ضارباً عرض الحائط ما تم الاتفاق عليه في ميثاق العمل الوطني؛ غادر ابوسمرة العراق الى بيروت، وهناك تدرب على استخدام السلاح وتعلم فنون القتال لدى المقاومة الفلسطينية وعاد مرة اخرى الى العراق من بوابة كردستان مقاتلاً ضد النظام الدكتاتوري في عام 1981.

التحق في قاعدة ناوزنك اولاً، ثم انتقل صيف عام 1982 الى قاعدة بهدينان، بهدف الالتحاق بمفرزة الطريق، وقد تم اختياره لهذه المهمة بحكم حيويته ونشاطه وقوة تحمله واستعداده العالي للتضحية، ولانضباطه الصارم وقوة صبره واريحيته وقدرته على الالمام بتفاصيل الامكنة التي يرتادها؛ فهو يؤنسنها ويتحسس رائحتها في العتمة، وهي صفات يصعب اجتماعها في شخص واحد.

في بهدينان شارك في بناء القاعة الرئيسيه في مقر (يك مالا) مع الشهيد شيفان، وقد تحولت هذه القاعة التى بناها بيديه حجرة بعد اخرى بمساعدة رفاق المقر الاخرين، مقراً للمدرسة الحزبية التي تأسست في قاطع بهدينان، بمبادرة من الرفيق كاظم حبيب، الذي كان مستشاراً سياسياً لقاطع بهدينان لقوات انصار الحزب الشيوعي العراق، ومحاضراً فيها، وضم الكادر التدريسي ايضاً، الرفاق، ابوذكرى وهو مسؤول المدرسة، لطفي حاتم (ابوهندرين)، توما توماس (ابوجوزيف) القائد العسكري للقاطع، داود امين (ابونهران) واخرين.

تم استكمال البناء والتسقيف منتصف تشرين اول 1982، بعدها التحق الرفيق ابوسمرة بمفرزة الطريق حيث غادرت المقر بتاريخ  21 / 10 / 1982 متوجهة نحو القامشلي لممارسة مهامها في نقل البريد والسلاح والقادمين الجدد الى كردستان. كان الرفيق ابوسمرة قفل المفرزة، وهي مهمة شاقة حرص على اداها بنجاح، وعند عبور نهر الهيزل الصاخب في الظلام الدامس لليلة ماطرة، جرفه تيار الهيزل المجلجل، وابتلعته سورات الماء دون ان يتمكن احد من انقاذه.

ومن مفارقات مكابداتنا المحزنة ان الرفيقين ابوسمرة وشيفان بناة قاعة المدرسة الحزبية استشهدا بعد فترة وجيزة من بنائها وفي وقت متقارب، مع اختلاف المكان، ابوسمرة في 25 / 10 / 1982، شيفان في 27 / 10 / 1982، في المفرزة المصاحبة للرفيق ابوجوزيف في طريق عودته الى بهدينان من اجتماع ل.م، والتي تعرضت الى كمين نصبته قوات السلطة العراقية على شارع باطوفة ــ دهوك، وهو ممر اجباري للعبور الى وادي كوماته، للعابرين بإتجاه وادي قمرية. وقد اصيب الرفيق رمضان بجروح بليغة في منطقة البطن في ذات الكمين، تماثل بعدها للشفاء.

الشهيد ابو سمره على يسار الصورة مع شقيقه ابو آذار خلف سلاح الدوشكا في يك مالا

وكان من بين الدارسين في المدرسة في الوجبة المركزية الاولى الرفيقة سميرة والرفاق يونس بولص متي (ابوآذار) شقيق الشهيد ابوسمرة، سلام الصكر وابوصليحة الذي كان يقوم بمهمة الدلالة بين المقرات، وقد حصل الرفيق ابوآذار على المرتبة الاولى في هذه الدفعة المكونة من قرابة 30 مشاركاً، ونسب بعد ذلك الى السرية المستقلة العاملة في منطقة الموصل والمكلفة باعادة الصلة بمنظمات الداخل. فيما حصل على المرتبة الثانية الرفيق سلام الصكر، وقد حملت قاعة المدرسة اسم الشهيد ابوسمرة.

يتذكر الرفيق ابوآذار اليوم الاول لبلوغه مقر كوماته بعد مسيرة قاربت العشرين يوماً عبر المسالك الوعرة في وهاد وجبال الاراضي التركية، انطلاقاً من القامشلي، مشاعر رفاق مفرزته الواصلة تواً بعد منتصف ليلة حالكة الظلام، وهم يتفرسون قسمات الرفاق الذين سبقوهم التجربة وتوقهم لمعرفة كل شيئ عنهم ومنهم، عن طبيعة حياتهم، او ربما يبحثون عن وجه يلوح بينهم من اصدقاء الصبا والشباب او من المعارف.

****

كتب في يومياته بتاريخ 25 اكتوبر 1984 عن لحظة الوصول ما نصه :

".... وكغيري او ربما اكثر من الاخرين كنت ابحث واتساءل وبصوت مسموع تعمداً ، عن شقيقي الذي سبقني بالوصول الى كردستان بسنتين .. احيانا كنت اعيد السؤال على احدى النصيرات او احد الانصار القدامي ، عدة مرات ، دون ان اميز الوجوه في تلك الظلمة التي لا يخدشها الا فانوس يتيم تتراقص ذبالته بخجل كلما ازيحت بطانية قديمة اعفيت من الاستخدام البشري لتعلق بمسمارين من طرفيها ، وتتحول باباً للقاعة ...

(دروك) هذه الانسانة الرائعة لم استوعب اسمها تماماً ، اكدت ان ابو سمره (شقيقي الذي الححت بالسؤال عنه) انه احد اعز الرفاق ، لكنه ليس هنا ..

سألتها ، متى يرجع ؟ فقالت هو في مقر قريب ( حوالي ساعة )

......

........

غدا ... ومن الصباح ... بل من الفجر ... سأنطلق الى (يك ماله) ، لالتقي هذا الشاب النبيل ، المضحي دائماً ، لم يكن لنا نحن الاصغر منه ، مجرد اخ اكبر عمراً .. بل تحمل مبكراً مسؤوليات كثيرة متكفلاً توفير كل ما نحتاجه في دراستنا ...

............

...........

واخيراً قرابة الحادية عشر ، كان النصير "وليد" في مقدمة مجموعة من سبعة رفاق تعتلي الطريق متوجهة نحو (يك ماله) .....

لم اكن اسير كالاخرين ، كنت اطير ، نعم اطير ....

........

........

وفجأة ....

لمحته يعدو بأتجاهنا ، يتسلق الطريق متسارعاً ، اول ما ميزت فيه فوهة البندقية وهي تعلو كتفه الايسر ... يظهر قليلاً ، ليختفي بين مجموعة صخور او استدارة تخفيها بضع شجيرات بلوط ..."

****

وصل ابوآذار الى كوماته في بهدينان ـ اول محطة على ارض الوطن ـ نهاية ايلول 1982، وحدث لقاءه المرتقب مع اخيه في مقر يكمالا بعد ما يقارب الاثني عشرة ساعة من لحظة الوصول. يقول الرفيق ابوآذار :

ان اشد ما ادهشني في تلك اللحظات العصية على الوصف، ليس تفاؤله وقوة الامل في اعماقه، بل في تفاعله الحميمي مع الرفاق من حوله اينما حل او ارتحل، وانشغاله بزراعة الامل في من يتعامل معهم، واحسست ان الخمسة عشر يوماً التي قضيناها معاً زودتني بخبرة السنتين التي عاشها ابو سمرة في كردستان بأدق تفاصيلها، واضعاً نصب عينيه دائماً عمق ايمانه بعدالة القضية التي سخر حياته لاجلها.

هامش:

وصلتني رسالة من الرفيق ابو كوثر (محمد جميل) الذي يقيم في هولندا، اقتطف منها ما يخص الشهيد ابوسمرة:

"تعرفت على الشهيد جبرائيل من خلال العمل الحزبي بالاساس، ولكن علاقتنا توطدت الى صداقة استمرت الى حين استشهاده المفجع بتلك الطريقة الكارثية عبر امواج الهيزل ..!!

تم تعارفنا من خلال دمج بعض التنظيمات الحزبية، اثر التوسع التنظيمي للحزب بعد قيام الجبهة مع البعث، وذلك اواخر عام 1974 حيث عملنا في نفس اللجنة القاعدية التي كانت تقود العمل في منطقة حي العامل والدورة والبياع والحارثية... وتوطدت صداقة شخصية بيني وبين جبرائيل بمرور الوقت وخصوصاً انه كان يرتاح جداً لعائلتي. وتوطدت علاقته بافرادها لما له من دماثة الخلق، والاريحية.

وقد انفصلنا تنظيمياً اواخر العام 1976 ولكن علاقتنا الصداقية استمرت حتى رحيله، وقد كنت ازوره في محل عمه حيث يعمل في شارع الرشيد بانتظام. وكذلك بقي هو يزور دارنا حتى فرقتنا الهجمة البربرية التي طالت الحزب، ولم نلتق الا في ناوزنك حين التحق الشهيد بقوات الانصار، وكم كان يعبر عن فرحته بنجاحه في الالتحاق بفصائل الانصار، كون العمل المسلح ضد الدكتاتورية هو حلم حياته كما عبّر حينها... وهنا اريد ان اشير الى ان جبرائيل كانت له ملاحظات معترضة على التحالف مع البعث حينها...... وملاحظة اخيرة وهي ان الشهيد كان لا يحبذ ان يقوم بقيادة اياً من الخلايا ضمن نطاق سكنه، كونه يرتبط بعلاقات اجتماعية وصداقية مع اغلب منتسبي هذه الخلايا حيث كان هو قد قام بكسب اغلبهم الى الحزب ....، ويخشى ان تؤثر هذه العلاقة في متابعته المبدأية لهم، ومحاسبتهم عند التقصير......"

- يقع مقر (يك مالا) على الحدود العراقية التركية ولا يفصل قرية (يك مالا) عن الاراضي التركية سوى جدول صغير. وقد كان هذا الموقع في السنوات الاولى للكفاح المسلح المحطة الاولى لاستقبال وتوديع الرفاق القادمين من الخارج وبالعكس عبر القامشلي مرورا بالاراضي التركية، وقد شهد هذا المقر بالذات صرخة الحياة الاولى للمولودة البكر للنصيرين نجلة وابوداود، التي اسمياها ماريا. وعلى خطى والديها، فهي ناشطة سياسية يسارية الهوى حيث تعيش وتعمل الان بعد ان اتمت دراستها الجامعية في السويد.

- مفرزة الطريق التي انطلقت من يك مالا في  21 / 10 / 1982 والتي شهدت استشهاد الرفيق ابو سمرة في طريق الذهاب، ضمت عددا من الرفاق لمهمة نقل السلاح منهم النصير المقاتل كوفان، سمير القس يونان، ابو كاوة، ... واخرين ...

- في 30 / 11 / 1982 جرى ابلاغ شقيقه الرفيق ابوآذار بحادث الاستشهاد ، وقد تولى المهمة الرفيقان ابوهندرين وابوتحسين. يتذكر ابوآذار الدموع المتدفقة في عيني الرفيق ابوهندرين من فرط الحزن في لحظة اللقاء، كما يتذكر الكلمات البليغة الدلالة لعريف الحفل، الرفيق ابونهران في الامسية التأبينية التي اقيمت في مساء اليوم نفسه ، يتذكر عدم تمكنه من مواصلة حالة الايقاع المتماسك والهادئ ، اثر ما قرأه عريف حفل التأبين عن الام ...

- المادة حصيلة حوار مع الرفيق يونس بولص متي (ابوآذار)

  كتب بتأريخ :  الجمعة 23-10-2015     عدد القراء :  2292       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced