هناك أكثر من رابط يجمع هذه المفردات، مما تستحق التوضيح والتوقف عندها. فليس من مصلحة إيران الاقتصادية أن تنتج ما تحتاجه من الطاقة بالتوجه نحو هذا البناء الواسع للمفاعلات النووية. فتكاليف إنتاج الطاقة بالاستناد إلى الطاقة النووية يكلف الاقتصاد الإيراني أضعاف ما يكلفها أنتاج الطاقة بالاستناد إلى النفط ومشتقاته أو إلى الطاقة البديلة كالرياح والطاقة الشمسية. إن ما تملكه إيران من مواد خام نووية على أراضيها لا تكفي حتى لسد حاجتها لمفاعل نووي واحد، وهذا ما يستدعي أن تشتري الوقود النووي الباهظ الثمن من الخارج مما يشكل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الإيراني، وغير مبرر من الناحية الاقتصادية. لقد كان من الممكن أن يوجه حكام إيران المبالغ الطائلة التي تصرف على الهوس النووي لتطوير الحقول النفطية والغازية الإيرانية المحرومة الآن من التخصيصات من أجل تطويرها. وهنا فإن هوس حكام إيران النووي ليس له ما يبرره بقدر ما يتعلق بإنتاج الطاقة التي تحتاجها إيران كما يعلن ذلك هؤلاء الحكام.
أما ما لا يعلنوه، بل وينفوه هؤلاء الحكام، فهو سعيهم لاستخدام الطاقة النووية للأغراض العسكرية. فهوس حكام إيران لحيازة القنبلة النووية يشابه ذلك الهوس الذي كان يراود صدام حسين في العراق والذي كان مصيره الفشل. في الظاهر فإن هؤلاء الحكام يسعون لتحقيق هذا الهدف من أجل مواجهة غطرسة التطرف الإسرائيلي في المنطقة والدفاع عن الشعب الفلسطيني المظلوم، أو مواجهة خطط الولايات المتحدة. هذا الهوس لو تحقق لألحق أفدح الأضرار بل لأباد الشعب الفلسطيني وقسم كبير من الشعب اللبناني الذين يتذرع حكام إيران بالدفاع عنهما في حالة استخدام للسلاح النووي، إضافة إلى الأضرار التي تلحق بكل شعوب المنطقة. كما إن هذا الهوس ليس ما يبرره عندما ننظر إلى ما تملكه الولايات المتحدة من ترسانة نووية ضخمة قادرة على لجم أي تحرك عسكري نووي من جانب حكام إيران وغيرهم في الدول الأخرى التي تصاب بالهوس النووي.
إذن لماذا ينتاب حكام إيران هذا الهوس النووي؟ الجواب هو إن حكام إيران يحتاجون هذه الهراوة النووية للتدخل في الشؤون الداخلية والهيمنة على دول المنطقة وفرض سطوتهم على بلدان الجوار في العراق ودول الخليج تحديداً. ولعل مسلسل التدخلات لحكام إيران في شؤون المنطقة وتحديداً لبنان والعراق ودول الخليج، وأخيراً السطو الذي قام به حكام إيران على بئر رقم 4 النفطي في حقل الفكه العراقي هو خير شاهد على الدوافع الكامنة وراء الهوس النووي لحكام إيران. فهذا العدوان لحكام إيران على السيادة العراقية جاء نتيجة لذعر هؤلاء الحكام من نجاح الحكومة العراقية في جلب الاستثمارات الأجنبية لتطوير الحقول النفطية العراقية لتنتج قرابة 12 مليون برميل يومياً بعد سنوات معدودة، مما سيضع العراق في صدر الدول المنتجة للنفط في العالم. وبالتالي سيزيد ذلك من الرصيد الاقتصادي والسياسي للعراق إقليمياً ودولياً وهو ما لا يرتضيه حكام إيران وعدد من حكام المنطقة أيضاً من الذين يعادون العملية السياسية في العراق والذين كان لهم ضلع في تدمير العراق. لقد أتضح الموقف الرسمي الإيراني بعد "فتح بئر 4 في حقل الفكه" على يد الحرس الثوري الإيراني، حيث عبّر الناطق الرسمي الإيراني عن غضبه من إقدام العراق على تطوير العراق لثرواته النفطية، وعدّ ذلك ضرباً من التهديد والتآمر الأمريكي على ثورتهم الإسلامية؟؟؟؟!!.
إن هذا النجاح الاقتصادي النفطي العراقي الأخير يخيف حكام إيران، فهو سيفتح عيون المواطنين الإيرانيين على خطل السياسة التي يتبعها حكام بلادهم وتسببها في تدني المستوى المعيشي في إيران. وهو يضاف إلى الموقف السلبي لحكام إيران من العملية السياسية الديمقراطية رغم الشوائب التي تحيط بها، بسبب تأثيرها الايجابي على الأجواء السياسية الإيرانية ومستوى مطالبة الشعب الإيراني بالحقوق والحريات الديمقراطية، والتي انعكست بشكل واضح بعد تزوير انتخابات الرئاسة الأخيرة في إيران.
إن عدم انصياع العراقيين للمثل الاستبدادي الديني الإيراني المتمثل بولاية الفقيه يقف وراء هذا الاصطفاف المريب والتحالف غير المقدس لحكام إيران مع قوى تتعارض معه ولكنها تقف نفس موقفه من التطورات الجارية في العراق. هذا الموقف لحكام إيران ما هو إلاّ تكرار لنفس الموقف الذي اتخذه حكام إيران في عهد الشاه ضد ثورة العراقيين في 14 تموز. فحكام إيران آنذاك لم يكفوا للحظة عن قصفهم للمناطق الحدودية طوال حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، وجندوا من هب ودب لضعضعة الاستقرار في العراق، وتحالفوا مع لملوم عجيب من التناقضات الإقليمية والدولية لدعم قوى الردة في الداخل من أجل سفك دماء العراقيين وإفشال تجربتهم، وهو ما تم في 8 شباط المشؤوم عام 1963. ويكرر حكام إيران اليوم نفس اللعبة من قصف للقرى الحدودية في كردستان العراق وشطف المياه من الأنهر الحدودية وما تسببه من نتائج سلبية على الزراعة والبيئة العراقية، وتجنيد "عصائب" التدمير والفتنة والعنف والتدخل الفظ في الشؤون الداخلية، والتنسيق مع قوى تتناقض معها في الفكر والمذهب والسياسة ولكنها متحالفة معها فقط في الموقف السلبي من التغيير الذي جرى في العراق بعد التاسع من نيسان عام 2003 تحت واجهة معارضتهم للاحتلال.
ولا يقف حكام إيران على الهامش من ذلك التنسيق الإقليمي وتوزيع الأدوار لزعزعة الوضع في العراق الذي يسعى بأكثر الأساليب وحشية لسفك دماء العراقيين وتدمير بلدهم. فالتحالف بين حكام إيران وحكام سوريا على سبيل المثال لا يقتصر على الملف اللبناني، بل يركز الآن على الملف العراقي. إن قيام فلول العهد السابق القابعين على الأراضي السورية والاحتضان والتسهيلات التي يتلقونها هم وحلفائهم من التكفيريين وإرهابيي القاعدة التي تمثلت بحملة التفجيرات الإجرامية الأخيرة في بغداد لا يخرج عن السعي المحموم لأطراف إقليمية متعددة المشارب لإفشال التجربة العراقية وإعادة الطغيان والاستبداد إلى العراق، وحرمان العراقيين من بناء مستقبلهم، خاصة وأنهم على أبواب التحضير لانتخابات مهمة وتدشين سلسلة من التدابير المهمة لإحياء اقتصاد البلاد وانتشاله من الركود والبطالة والخراب الذي حل به في عهود الاستبداد.
وأخيراً ينتظر الشعب العراقي ما سيتخذه ممثلي الشعب في البرلمان أو خارجه أزاء هذه الهجمة الشرسة. هل سيلتزموا الصمت كما في السابق من هذا التطاول الفظ على مستقبل البلاد، أو يبقى التنافس الطائفي والامتداد الطائفي هو الذي يتحكم في مواقف هؤلاء النواب الذين انتخبهم الشعب. وهل سيتخلص هؤلاء من لعبة التناوب على الادانة طبقاً لقواعد المرض الطائفي ويدافع ويتستر هذا الصنف الطائفي عن إيران وينفي تدخلاتها في حين يوجه الاتهام إلى سوريا، ويقوم الصنف الطائفي الآخر بنفس اللعبة ويكتفي بمهاجمة إيران في كل المناسبات ويتستر على تدخل حكام سوريا أو حكام عرب آخرين في الشأن العراق بحجة الحفاظ على الأمتداد "العربي" للعراق. إن هذه المواقف للقوى السياسية الطائفية تضعف موقف العراق كدولة وتفسح المجال للمزيد من التدخل والتخريب وموجات القتل ضد العراقيين وتترك البلاد على كف عفريت. وهل سيعيد الناخب العراقي خطأه وينتخب هذه النماذج الطائفية التي ألحقت أفدح الأضرار بالعراقيين؟. إن الانتخابات القادمة لناظرها قريبة ولنرى كيف سيتصرف الناخب العراقي.
كتب بتأريخ : الأحد 20-12-2009
عدد القراء : 2608
عدد التعليقات : 0