حوار مع العاملة الشيوعية وداد طوبيا منصور
تقول فاطمة المرنيسي: " هناك ارتباط بين الكرامة الانسانية وتحرير المرأة، وذلك هو الذي يجعل كل اشتغال فكري على الحداثة كخلاص من العنف والاستبداد في العالم المسلم، يكتسي ايضا شكل دفاع عن حقوق النساء."
لقد تمكن الماركسيون الاوائل والشيوعيون العراقيون من حمل مشعل التنوير مبكراً منذ نهاية العشرينات وبداية ثلاثينات القرن الماضي، واستطاعوا بجدارة عبر ترابط النضالات الوطنية والقومية والاممية، بالكفاح الاجتماعي والدفاع عن الحقوق الديمقراطية ومصالح الكادحين من استقطاب المناضلين المتطلعين للحرية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي من كافة ابناء العراق بقومياته وطوائفه واديانه، وكان الشيوعيون العراقيون هم اول حركة سياسية دافعت عن حقوق النساء، ودعت الى المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات على مستوى الصحافة والاعلام والعمل الجماهيري ايضاً، بل والاكثر من ذلك ثقفت اعضاءها وجمهورها الواسع بهذه القيم الانسانية ووضعتها قواعدا للسلوك اليومي للمناضل. وانا واحدة ممن استهوتهم هذه المثل والتطلعات الى عالم العدالة الاجتماعية وكان شعار (وطن حر وشعب سعيد) حلم جيلنا من بنات وابناء العراق.
ولدتُ في عام 1940 في مدينة كركوك، لعائلة هاجرتْ اليها، من ارياف الموصل. كان والدي متعلما، تخرج من احد المعاهد الامريكية، وعمل في الحبانية اولا، ثم موظفا في شركة النفط في كركوك. ساهم في فعاليات الكفاح الوطني في العهد الملكي وتعرض جراء ذلك للاعتقال، واستمرت ملاحقته لسنوات طويلة رغم اعتزاله عن ممارسة اي نشاط سياسي بعد اطلاق سراحه من السجن. كنتُ الابنة البكر للعائلة، يصغرني شقيقتان وخمسة اشقاء، بينهم من كان متفوقا جدا في الدراسة، وعلى الرغم من المشاعر الوطنية والتقدمية التي تمثلوها، غير انهم لم يجربوا العمل الحزبي المباشر.
دخلتُ مدرسة الراهبات بعد انتقالنا الى مدينة بغداد، واكملت الدراسة الابتدائية فيها عام 1952 او بعده بقليل على ما اظن، وتوقفت عن الدراسة رغم حبي لها بسبب الصعوبات الاقتصادية ودخل الاسرة المتواضع، وكنت اواصل التعلم لوحدي لسنوات، اضافة الى قيامي باعباء العمل المنزلي لمساعدة الوالدة في توفير اسباب الراحة لعائلتنا الكبيرة، وعندما اصبحت شابة قررت الانخراط في سوق العمل دعما لدخل الاسرة، وبعد فترة مضنية من البحث، اشتغلت عاملة في معمل لصناعة الادوية في بغداد الجديدة تابع للقطاع الخاص، يوزع الادوية على المؤسسات الصحية، ويعمل فيه بين (30 ــ 40) عاملا.
أتاحت لي ظروف العمل الاحتكاك بقطاع واسع من العاملات والعاملين والتعرف على الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في البلد بشكل عام، كما تعرفت على العمل النقابي والديمقراطي والمطالب اليومية لحياة الناس وقد تشكلت بواكير وعيي السياسي في هذه الفترة بالذات. ثم جاءت ثورة تموز 1958 التي اسقطت الملكية واقامت النظام الجمهوري، وهزت المجتمع العراقي بقوة من اقصاه الى اقصاه، وايقظت فيه طائفة واسعة من سكان المدن والارياف المعزولة من سباتها، وزجت بهم في بؤرة الفعل السياسي والاجتماعي وتفاعلاته. في هذه الفترة وجدت طريقي للحزب الشيوعي العراقي، رشحني للحزب على ما اتذكر رئيس النقابة في معمل الادوية حسين عامر الزهيري، واتذكر بسعادة بالغة مشاركتي في التظاهرة المليونية في عيد العمال العالمي عام 1959. كنت في ذروة الحماس، وكانت لدي اهتمامات ادبية وثقافية اضافة للسياسة، وقد كتبت عددا من الخواطر نشرتها في جريدة البلاد بواسطة خالي الكاتب (يوسف ناظر)، ومعه التقيت الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي اعاد اصدار صحيفة الرأي العام بعد ثورة تموز 1958 والتي كانت من اهم الصحف اليسارية في العهد الجمهوري .
تزوجت في عام 1962 من الرفيق جورج جاكوب الذي كان يعمل في وزارة الاعمار. وقد فوجئت بأ ن عائلة زوجي باكملها، لم يكونوا من نشطاء الحزب الشيوعي العراقي فحسب، بل كان الحزب ونشاطه السياسي والتنظيمي زادا يوميا لهم كالماء والهواء، وكان بيت العائلة مركزا لادارة مفاصل من العمل الحزبي والاعلامي لمدينة بغداد في السنوات التي سبقت ردة شباط 1963 والفترات التي تلتها لغاية تموز 1968 وعودة البعث ثانية الى السلطة.
بعد الزواج تغيرت طبيعة الحياة الحزبية بالنسبة لي، اذ تكلفتُ مع زوجي للسكن في البيوت الحزبية التي تحوي اجهزة الحزب الطباعية. وللضرورات الامنية كنّا احيانا لا نستطيع البقاء في ذات المنزل اكثر من شهرين. وكذلك كنت اقوم بمهام نقل البريد الحزبي. واتاحت لي هذه المهمة التعرف على رفاق من قيادة الحزب من بينهم الرفيق ابوسعيد، محمد صالح العبلي، شاكر محمود، سليم اسماعيل، كاظم الصفار وغيرهم. في عام 1965 تم اعتقالي مع زوجي واطفالي، وقتها، كان عمر (نذير) ابني البكر سنتين فقط وعمر ابنتي (رائدة) لم يتجاوز شهراً واحداً ، عندما هجم علينا شرطة الامن في بيت المطبعة وقاموا بمصادرة جميع ما في البيت.بقيت في المعتقل لاكثر من سنة ، واطلق سراحي عام 1966. وقد سبق لي ان تعرضت للاعتقال في مركز شرطة الكرادة عام 1963 الدامي كحال الالوف من الوطنيين والشيوعيين والديمقراطيين بلا اية مسوغات.
لقد كان للنساء دورا كبيرا في نضال الحركة الوطنية العراقية والحزب الشيوعي العراقي بشكل خاص، وفي حماية الحزب وقت الازمات وكان لهن شرف تنفيذ اصعب المهمات واعقدها، فقد حملن السلاح اضطرارا لبعض الوقت، ووزعن المنشور الحزبي وعملن على صف الحروف وتدوير مكائن المطابع السرية، والحصول على المواد الاحتياطية واحبار الطباعة، اضافة الى المساعدة في تهريب المعتقلين الشيوعيين من مراكز الاعتقال، وتأمين البريد الحزبي بين قيادات الحزب في السجون وتنظيماته السرية في العهدين الملكي والجمهوري، وفي ايصال الاموال بين مواقع الحزب المختلفة لتأمين متطلبات عمله الضرورية. وبتواضع شديد كنت واحدة من هؤلاء المناضلات، اللواتي اجلّهن باعتزاز، ولهن ولكل نساء العراق والعالم، اهدي في يوم المرأة باقات ورد حمراء. واقول ان كل الاحباطات والانكسارات لن تطفئ فينا شعلة الامل.