الحريات أولاً وأبداً..! .. أسلمةُ الحريات الشخصية.. دوعشة برلمانية غير جديدة!
بقلم : فارس كمال نظمي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

بات بديهياً في الفكر الاجتماعي العلمي أن أيَّ قانون يُشرّع، يخالف حقائق الطبيعة البشرية الراسخة عبر العصور، مصيره إما التجاهل أو الخرق أو السخرية أو التسفية أو التمرد أو الإلغاء في مرحلة لاحقة.

لكن الإسلامويين الذين ابتلى بهم العراق منذ الاحتلال الأمريكي 2003م لا يعرفون شيئاً عن الطبيعة البشرية عموماً وعن طبيعة الفرد العراقي خصوصاً، لأنهم صُنّعوا خارج السياق السوسيوثقافي للبيئة العراقية، ولأن جلّ تفكيرهم ينحصر في بقعة الدوافع البدائية القائمة على غرائز الإشباع البيولوجي التلقائي القطيعي المتعجل، دونما تمثلات عليا متريثة لجماليات العالم وآفاقه اللامتناهية التي تنطوي أولاً وقبل كل شيء على صيانة قدسية الحياة الشخصية وخصوصيتها وفردانيتها.

البرلمان منتهكاً للعقد الاجتماعي

التشريع الذي أصدره مجلس النواب العراقي في 22/10/ 2016 بـ(حظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات المكحولية بكاف أنواعها)، يمكن قراءته ونقده بوصفه مناقضاً لبديهيات التطور العقلي والاجتماعي للحضارة، طبقاً لاختصاصات متعددة: سياسية ودستورية وقانونية واجتماعية وتربوية ونفسية. والنقد والاعتراض هنا ينجمان أصلاً عن الصيغة الإطلاقية للتشريع التي لا تراعي أي نسبيات يفترض أن يتضمنها أي قانون بشري يستهدف تشريعَ قاسمٍ تنظيمي مشترك لشؤون الناس بمختلف توجهاتهم الحياتية ومعتقداتهم الشخصية، في حيز زمكاني معين.

وليس خفياً أن أعرق الديمقراطيات العلمانية في الغرب اليوم، قد شرّعت قوانين تفصيلية لتنظيم - وليس تقييد - الحريات الشخصية، من بينها الحريات الجنسية والنظم الزواجية والإرثية المتطورة وقوانين بيع الخمور وتصنيعها، ضمن محددات أخلاقية تراعى فيها أحدث النظريات الاجتماعية والنفسية المتخصصة بالموازنة الدقيقة بين مفهومي "الحرية الشخصية" والضرورة المجتمعية".إن مجرد التفكير - لدى أية جهة سلطوية- بفرضِ حظرٍ على أي ركن من أركان الحياة الشخصية للناس، يجعل تلك الجهة صاحبة الفكرة في حالة خرق للعقد الاجتماعي المبرم مع المواطنين، وفي موضعٍ اتهامي يستدعي توجيه تساؤلات أخلاقية وقانونية ونفسية إليها للتأكد من مدى سلامتها العقلية في عالمٍ خَلُصَ منذ عقود إلى أن الأصل في مسألة الحرية هو "الإتاحة" وليس "التقييد". وبهذا المعنى الواسع فإن "تنظيم" الحريات - وليس تقييدها- في بنود دستورية وقانونية هو إتاحةٌ لها وتعميق لممارساتها وآلياتها، وإثراء لمضامينها الأخلاقية والتنموية، وكبح مشرعن لأي ممارسات دولتية أو شعبوية تقيدها أو تنوي تقييدها.

إن الطريقة التي تجرأت بها أعداد مهمة من أعضاء مجلس النواب العراقي على خرق مبدأ إتاحة الحريات في هذا التشريع، إنما يتجاوز مسألة المشروبات الكحولية بوصفها أنموذجاً تجريبياً واحداً لجس النبض لا غير، يراد منه توفير توطئة قانونية وسياسية لأسلمة أركان أخرى من الحريات الشخصية المحدودة أصلاً لدى العراقيين.

ولذا، فإن تمرير هذا التشريع وتثبيته، يعني توقع تمرير تشريعات أخرى مماثلة في المستقبل غير البعيد، بضمنها تقييد حرية الملبس والمظهر وأساليب الترفيه، والرقابة على المقتنيات الشخصية، وحظر ممارسات ومنتجات ثقافية بعينها، ومنع الاختلاط بين الجنسين، وتكريس الاضطهاد الجندري ضد المرأة، وصولاً إلى ربط أنفاس المواطن العراقي بحصة مقننة من هواء فاسد تجود به "قداسة" المرشد الأخواني والولي الفقيه بنسختهما العراقية، إذ يستألهان لخنق ما تبقى من الحياة الخاصة للفرد، بعد أن أكملا هدم الحياة الاقتصادية والتعليمية والصحية والأمنية والنفسية للمجتمع برمته.

ولعل مضامين هذه الرؤية يمكن أن تتضح من خلال قراءتين إحداهما سياسية وأخرى نفسية لهذه الواقعة غير المسبوقة في التشريعات العراقية.

قراءة سياسية

بعيداً عن التنقيب في مدى افتقار هذا التشريع لأسس دستورية ساندة إذ انبرى باحثون عراقيون عديدون لإشباع هذا المبحث، فإن قراءة سياسية مباشرة لهذه القضية النقاشية التي باتت تتصدر اهتمامات الرأي العام العراقي إلى جانب معركة تحرير نينوى، تفيد بأن لا صلة جوهرية لها بمسألة تطبيق الشريعة الإسلامية أو تفعيل الوصايا الفقهية، إذ لطالما حرصت سلطة الإسلام السياسي في العراق على تعطيل كل التعاليم الدينية السماوية وإهمال فتاوى المرجعيات الإسلامية المنادية بالإصلاح السياسي ومكافحة الفساد وتطبيق النزاهة واستعادة العدل وإنصاف المستضعفين.

كما إنها حرصت دوماً على ممارسة الانتهازية السياسية لتمرير قوانين تحمي الفساد السياسي والمالي، وتخالف في أجزاء أساسية منها فكرة العدالة الجنائية الدينية، كقانون العفو العام المشرع في 25 آب 2016؛ أو لتقديم مسودات إشكالية لقوانين تخرق المبادئ السماوية الجوهرية في توقير كرامة الإنسان وطبيعته وقدراته (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ- سورة البقرة 286)، أو تنتهك حريته الفكرية (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين- سورة هود 118)، مثل مسودتي قانون الأحوال الشخصية الجعفرية 2014، وقانون حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلمي 2016.

إن هذا التشريع الجديد في بُعده الأكثر جوهرية وموضوعية يقدم مؤشراً لقضية سياسية وثقافية تتصل بالصراع حول تحديد نمط الدولة وفلسفتها القادمة، في لحظةٍ فارقة تشهد الانهيارَ العسكري للصورة الأكثر بشاعة للإسلام السياسي عبر التاريخ (أي داعش).

فالدوعشة قبل أي تمظهر ديني أو مذهبي محدد، هي فكر سياسي سادي يبحث عن دولة دينية استبدادية، وهي منظومة ثقافية أساطيرية تبحث عن مجتمع خاضع عبودي يحتضنها. ولذلك فإن الدوعشة البرلمانية الحالية - بقطبيها المتأسلمينِ- هي استنفار استباقي مصدره الشعور أن انهيار داعش عسكرياً قد يعني انهياراً للدوعشة بمختلف أوانيها المتمذهبة المستطرقة في الحياة السياسية العراقية.وليس بالجديد التذكير أن أيَّ قانون يجري تشريعه، إنما يمثل القمة التعبيرية الظاهرية من جبل المصالح الاقتصادية والايديولوجية والنفسية الغاطس في أعماق التاريخ الاجتماعي، والممثل لمصالح تلك السلطة المشرّعة. فالدوعشة البرلمانية غير الجديدة هذه، تتسق في النهاية مع جوهر الأسلمة السياسية- بتطبيقاتها المتنوعة- القائم على محو الحرية الفردية للإنسان في مقابل حشوه بكل أنواع التفكير القطيعي والسلوك الخضوعي، الضامنينِ حتماً لتأبيد سرمدية السلطة النهّابة، عبر "شرعنة" وساطتها الوهمية لإرادة السماء على الأرض.

قراءة نفسية

حين يُصاب الإسلامويون بالتخمة من جسامة الآثام المتراكمة في أعماقهم، فإنهم يعمدون - بين الحين والآخر- إلى إنكار هذه الآثام وممارسة التلهية الدفاعية حيالها عبر "تأثيم" الآخرين، إذ يضفون "التحريم" على سلوكيات محددة تتصل بالحريات الشخصية للفرد، لا صلة موضوعية لها بمسألة الرذيلة أو الفضيلة، وكأنهم بذلك يزيحون التهمة عن أنفسهم (أي الفساد والطائفية والخيانة الوطنية) باتجاه المجتمع الذي ما يزال يقاوم رثاثة الأسلمة.

فهذا التشريع يمكن قراءته سيكولوجياً على أنه وجه ميكيافيلوي آخر من وجوه التدين الزائف، إذ يستجير بكلمة حق يُراد بها باطل، وغايته التنصل من جريمة كبرى هي هدر كرامة البلاد والناس، عبر توجيه الانتباه (الاتهام) إلى مسائل فرعية تتصل بحريات شخصية تقليدية متعارف عليها في كل الحضارات والأديان والأعراق والايديولوجيات، وكأنهم (أي ممارسو الدوعشة البرلمانية) "يتطهرون" من رذائلهم عبر تنصيب أنفسهم "وكلاء" عن الله يقومون بتعوير الآخرين وتعهيرهم بـ"وصمة" الخمر.

لا أحد (بما فيها المؤسسات الدينية البشرية) نجحَ أو سينجحُ في أن يكون مناوئاً للمتطلبات الجدلية المتناقضة للطبيعة البشرية، بتحررها وخنوعها، بعقلانيتها ولاعقلانيتها، باندفاعاتها وانكماشاتها، بتكيفاتها وعجزها، بتسامحها وتطرفها، بتدينها ولادينيتها. ولا أحد يستطيع أن يتجاهل النزعة العلمانية الاجتماعية الراسخة للفرد العراقي في مزج الدين بالدنيا، وفي تطلعه الدائم لمباهج الحياة بوصفها رديفاً لورعه الديني، وفي اعتبار جلسات السمر الروحية منفذاً نحو التخفف من أعباء الأيام، ووسيلة للتفكر بأسئلة الوجود وغاياته.

ولكنهم لا يعرفون كل ذلك، ولا يعلمون أن التاريخ البشري ما هو إلا تاريخ إعادة إنتاج الحريات الشخصية والعامة المنبثقة من الطبائع البشرية المتطورة، على مقاسات أكثر اتساعاً كمياً ونوعياً بمرور العصور. وأي قوانين تشريعية تغفل ذلك، مآلها التهافت والازدراء والتآكل والاندثار في العقل الجمعي العام.

  كتب بتأريخ :  الخميس 27-10-2016     عدد القراء :  2805       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced