في مدينة الماء والافياء والنخيل، في قضاء ابي الخصيب، قرية نهر خوز، اطل (صادق) على الدنيا عام 1950، ولدٌ ثان لعائلة كادحة، تلاه فيما بعد ثلاثة اشقاء، حسب التوالي (حسين عبدالزهرة المولود عام 1952، احمد عبدالزهرة 1953، وكريم عبدالزهرة 1961). انتقلت العائلة عام 1967 تحت متطلبات البحث عن حياة آمنة للسكن في قضاء الزبير الى الغرب من مدينة البصرة، وحطت رحالها في دار طينية متواضعة في محلة الجمهورية الاولى. توفي والده مبكراً، مما اضطره الى تحمل مسؤولية العائلة بمفرده اولاً، بعدها حصل شقيقه حسين عبدالزهرة الذي كان معتل صحياً على العمل، حارساً في مستشفى الزبير، لكنه توفى عام 1980. وكان الاخ الاكبر اسماعيل عبدالزهرة المولود 1948 يعيش بعيداً عن العائلة، مجنداً لسنوات طويلة في الخدمة العسكرية الالزامية وخدمة الاحتياط، اضافة الى تعرضه الى الاسر في سنوات الحرب العراقية الايرانية (1980 ـ 1988).
الشهيد صادق عبدالزهرة (باسم)
لم يمتهن الشهيد صادق عملاً ثابتاً، في الغالب عمل بائعاً متجولاً يضع بضاعته في بسطة صغيرة على قارعة الطريق في مكان ما من سوق الزبير، يبيع اي شيء وكل شيء، مرة يقف امام قدر الفول الساخن، يبيع اطباقاً صغيرة من الباقلاء المسلوقة على المارين، ومرة اخرى جالباً قفصاً، يبيع منه افراخ الدجاج الحديثة التفقيس. وكان يجد في هذا العمل المضني مسؤولية وإلزاماً عليه، للحصول على مورد دخل شريف لتأمين ضرورات العيش لوالدته واخوته الثلاثة.
نشأ اخوه الملاكم احمد عبدالزهرة واضعاً جل اهتمامه على الرياضة البدنية، طوّر كفاءته وصقلها بالمران المتواصل، واتقن فنون اللعبة، وحصد الفوز في بطولات على المستويين الوطني والعربي بالملاكمة. لم تستهويه السياسة بتاتاً، ومع ذلك حصدته ماكنة القمع، حيث استشهد في بداية الثمانينات، باعدامه بوحشية، في وضح النهار، باطلاق النار عليه امام باب بيتهم في مدينة الزبير بتهمة الانتماء لحزب الدعوة. وكان الاخ الاصغر في العائلة كريم عبد الزهرة، الذي عرف لاحقاً في صفوف الانصار بأسم (ابوكويظم).
دخل صادق الى السجن محكوماً بجناية عادية، اذ سدد ـ وهو في وضعية الدفاع عن النفس ضد احد المهاجمين عليه ـ ضربة قاتلة. ومن خلف اسوار السجن العالية تعلم الشيوعية من السجناء الشيوعيين، حيث احدثت هذه المعايشة السجنية انقلاباً في حياته متحولاً الى شخصية منضبطة معنية بالشأن العام، ورغبة جارفة في الاطلاع وحب المعرفة. غادر سجنه الى فضاء "الحرية" متأبطاً باقة كتب سياسية وثقافية، زوادة لايامه القادمة. ادى الخدمة العسكرية الالزامية بعد ان تخرج من اعدادية التجارة في البصرة.
وجد في انتمائه للحزب الشيوعي العراقي، معنى معمقاً لارتباط الانسان بهموم شعبه ووطنه، وميداناً للكفاح من اجل الارتقاء لعالم الخلاص من كافة اشكال الاستغلال، ولتحقيق الحرية والعدالة والحياة الانسانية. غير ان نظام البعث الحاكم، وعلى الرغم من توقيعه على ميثاق العمل الوطني مع الحزب الشيوعي العراقي في تموز عام 1973 الذي انبثق على اساسه تحالف بين الحزبين، للعمل المشترك في اطار (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية)، لم يلتزم بما وّقع عليه الا شكلياً، ورغم امكاناته الهائلة كحزب يهيمن على كل السلطات ويسعى لاحتكارها منفرداً، الا انه كان يرتعب للنفوذ الجماهيري والنشاط الاعلامي الذي تحقق للحزب الشيوعي العراقي في فترة التحالف.
وقد دأب على تبعيث المجتمع، واوغل في التضييق على الاطراف الوطنية والقومية والديمقراطية، والشخصيات المستقلة، واستهدف بالقمع المنظم بشكل خاص اعضاء الحزب الشيوعي واصدقائه والمحسوبين على ملاكه والمنظمات الديمقراطية والجماهيرية التي يقودها وينشط فيها الشيوعيون، وتوّجها بحملة اعتقالات واسعة في ربيع وصيف 1978، مصحوبة بتعذيب جسدي ونفسي وارغام المعتقلين على عدم ممارسة اي نشاط سياسي إلا من خلال الحزب الحاكم.
الرفيق صادق عبدالزهرة، كان شاباً رياضياً مفتول العضلات حاز على بطولة المنطقة الجنوبية للناشئين بالملاكمة، وتميز بالقوة والجرأة والشجاعة، ومنذ بداية الحملة القمعية، اخذ على عاتقه حراسة تحركات الرفاق القريبين منه عند تأدية مهماتهم الحزبية من دون علمهم. وكانت مهمة نبيلة حقاً ولكنها اكبر من طاقته كفرد في مواجهة آلة قمعية مدججة بالاسلحة وجيوش المخبرين، ومشبعة بروح الكراهية والانتقام. وكانت مشاعره الشخصية آنذاك تميل الى الرد على عنف السلطة بعنف مقابل.
يروي الرفيق د. سعد اسماعيل عنه الاتي: [ تعرفت على صادق عام 1976 في الحديقة العامة لمدينة الزبير التي يعتبرها سكان القضاء احد منجزات ثورة تموز 1958 لمدينتهم المتمددة على حافة الصحراء، وكانت الحديقة العامة في تلك الايام مأوى للطلبة وخصوصا الفقراء منهم في اوقات الدراسة، وفضاءاً للترويح عن النفس، والتعاون الجماعي لأداء الواجبات الدراسية والتحضير للامتحانات. وكنت التقي في الحديقة العامة ايضاً بالرفيقين ابو فاتن (صالح موجر) الذي يقيم في النرويج حالياً، والفقيد اسكندر (زكي شيرزاد علي)، الذي توفي في هولندا عام 2002 ، وكنت اساعد في تدريسهم مادة الرياضيات، كوني متقدماً عليهم بالمراحل الدراسية.
توثقت علاقتي مع صادق بمرور الايام، وفاتحني في يوم ما من عام 1977 بالانضمام للحزب الشيوعي العراقي، وقد توثقت علاقتي الشخصية به بشكل اكبر بعد هذه الحادثة، وخصوصاً بعد معرفته انني عضو في الحزب الشيوعي وناشط في المجال الطلابي، وقد طلب مني التحرك لكسب شقيقه الاصغر (كريم عبد الزهرة). في عام 1978 وخلال فترة الحملة على منظمات حزبنا كنا ننسق سوياً بحكم الثقة المتبادلة، رغم ان صلاتنا الحزبية في مكانين مختلفين، وقتها كنت طالباً جامعياً في مدينة بغداد، واعيش فيها.
ثم فرقتنا ظروف الاختفاء بين صيف 1978 وعام 1979 ، حيث تنقلت بين البصرة وبغداد وسافرت الى بلغاريا وجمهورية تشيكوسلوفاكيا السابقة، وعدت مجدداً الى البصرة، ومن ثم حاولت العبور الى دولة الكويت بمساعدة الاهل، وفي النهاية حصلت على طريق للوصول الى كردستان، كان للشهيد الرفيق (سعد الدليمي) دوراً كبيراً في ايصالي الى هناك، لكنه شخصياً فضّل البقاء والاختفاء في مدينته الحبيبة بغداد واستشهد فيها بوشايه. وكان برفقتي صوب قواعدنا الانصارية في كردستان الرفيقان ابو فاتن (صالح موجر) واسكندر (زكي شيرزاد علي)، وكانت المفاجأة المفرحة لنا، اننا التقينا مع الرفيق صادق عبدالزهرة مجدداً عند وصولنا قاعدة ناوزنك للانصار الشيوعيين.]
كان صادق واحداً من الوف الشباب الذين تعرضوا للملاحقات، ولذا فانه اضطر للاختفاء، في مدينة البصرة اولاً، انتقل الى السكن في شقة تقع في شارع ابوالاسود في العشار مركز مدينة البصرة اواخر عام 1978، مع الرفاق قاسم ناظم، قصي عبدالواحد البلجاني، عبدالوهاب عبدالرحمن السالم (ابوهندرين)، وبعد مداهمة الشقة من قبل رجال الامن استطاعت المجموعة الافلات بمساعدة الجيران، عندها اتخذوا قراراً جماعياً بالتوجه الى بغداد، تم ذلك بالضبط في اليوم السادس من كانون الاول عام 1978، سكنوا بداية في فندق النعمان، ثم في سكن متواضع في شارع الكفاح يتكون من غرفتين في عكد الاكراد، بعدها تواصل التنقل بين امكنة متعددة حسب مقتضيات الوضع الامني، وأثناء ذلك كان صادق يتردد على مدينة البصرة والزبير بين فينة واخرى لمتابعة رفاقه وصلاته الخيطية من اجل ادامة عمل الحزب.
اشتغل عامل بناء في مواقع مختلفة من بغداد،، كالشالجية، المفاعل النووي العراق، وفي عدد من مشاريع الدور السكنية في احياء مختلفة من المدينة. غير ان المنظومة الامنية في محافظة البصرة واصلت بحثها عن الشيوعيين المختفين في كافة المحافظات وخصوصاً بغداد، وكانت ترسل المتعاونين معها، للاندساس بين الرفاق المتخفين..... وعندما اصبحت الحياة في بغداد غير ممكنة، حاول الرفيق صادق عبدالزهرة السفر الى الشام سيراً على الاقدام عن طريق الرطبة بصحبة رفيق آخر، وهما اول من دشنا هذا المنفذ المكتشف للتو، لكنه عاد ثانية الى بغداد ليعيش ظروف الاختفاء والعمل السري، ريثما توفر له منفذاً للوصول الى كردستان والالتحاق بفصائل الانصار الشيوعيين مباشرة من بغداد.
يضيف الرفيق د. سعد اسماعيل: [عند إلتحاقنا بحركة الانصار ــ نحن الثلاثة القادمين من الزبير الى ناوزنك ــ اختار الرفيق صالح موجر (ابوفاتن) فصيل بغداد وتم تنسيبنا انا واسكندر وصادق الى فصيل بتوين، وكانت اول مفرزة شاركنا فيها بعد فترة من التدريب على السلاح النزول الى منطقة دوكان بصحبة مجموعة من انصارنا من اهل المنطقة، وهذا كان قبيل الحرب العراقية الايرانية، وعندما نشبت الحرب صارت امكانياتنا للحركة اكبر بسبب انسحاب ربايا الجيش العراقي من المنطقة. وتوفرت امكانية فتح المقرات الثابتة، وكان اول مقر إفتتحناه في قريه (وه رته) ،بعد ذلك في (ملكان)، وادي خوشناوتى الجميل، لسهوله التحرك في العمق وصولاً حتى مدينة كويسنجق واربيل نفسها.
في ربيع عام 1981 شاركتُ في مفرزة تتكون من مجموعة من انصارنا من رفاق اربيل وكويسنجق ، توجهت الى سهل كويسنجق، وكان الرفيقان الشهيدان صادق واسكندر ضمن هذه المفرزة، وفي احدى محطات الاستراحة صيف عام 1981، تعرضنا لحادث مأساوي مروع، سقط فيه الرفيق صادق مضرجاً بدمائه في قرية بايز آغا ودفن هناك، برشقة رصاص طائش من بندقية احد رفاقه واقرب اصدقائه، عن طريق الخطأً، اصابته بشكل مباشر واستشهد في الحال، وسط ارتباك وذهول وصدمة مرتكب اطلاق النار، وصدمتنا وفجيعتنا جميعاً، لخسارتنا الفادحة لنصير بطل نذر نفسه لاجتراح الصعاب.
* المعلومات الشخصية والعائلية مصدرها السيد اسماعيل عبدالزهرة، الشقيق الاكبر للشهيد، والرفيق د. سعد اسماعيل
* المعلومات التي تخص الاختفاء خلال الحملة حتى الانتقال من مدينة بغداد مصدرها الرفيق ملازم قصي