جاء فوز الملياردير دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الامريكية الأخيرة ممثلا للجناح اليميني المتطرف للحزب الجمهوري، امتدادا واكمالا لتحرك أحزاب اليمين في أمريكا وأوروبا وانحاء العالم والتي ركبت موجة التطرف الشعوبي، من خلال الدعوة لغلق الحدود امام المهاجرين، والعمل ضد سياسات الانفتاح الاقتصادي، وضد الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية والبيئية المناطقية والدولية.
وكان لخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي وتصاعد احزاب اليمين المتطرف في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وامريكا دلالات كبيرة على تحول العالم من سياسة العولمة التي ظهرت في نهايات القرن الماضي كنظام اقتصادي سياسي ثقافي ومعلوماتي الى عودة الدول الرأسمالية الى اغلاق الحدود وبناء ممالك وامبراطوريات تابعة لها وليست مشاركة معها.
ولقد بشر منظرو نظريات العولمة بأن العالم سيصبح قرية صغيرة من خلال حرية انتقال وتدفق المعلومات ورؤوس الأموال والتكنولوجيا والثقافة وتحرك الناس مجتمعيا. وإن الثورة العلمية ستفتح أمام البشر أفاقا معرفية واسعة، وسوف تستفاد كل الدول من التدفق الحر للسلع والخدمات لزيادة فرص النمو والرفاهية. وان اقتراب الثقافات من بعضها سيزيد التنوع الثقافي العالمي، وسوف يزيد الاهتمام بقضايا البيئة وحقوق الإنسان، وهذه امور معظما ايجابيا إذا جرى تطبيقها لخدمة البشر وليس لاستغلالهم.
ولكن نهج اللبرالية الجديدة والعولمة الاقتصادية الغير انساني والمبني على التنافس والبقاء للأقوى، فشل في تحقيق توازن في الثروة بين الدول وشركاتها العابرة للقارات وبين سكان نفس الدول، مما أدت الى اثراء الأغنياء وافقار الفقراء وخلق فوارق طبقية هائلة في نفس المجتمع. وسعت تلك الشركات للسيطرة على الأسواق العالمية بدون اعارة أي أهمية لحقوق العمال وممثليهم ونقاباتهم، وكان الهدف هو اضعاف الطبقة العاملة في تلك الدول من اجل نقل مصانع الشركات الإنتاجية الى الدول النامية ذات الايدي العاملة الرخيصة.
وأدت هذه السياسات الى اضعاف الطبقة الوسطى في مجتمعات تلك الدول وهي الطبقة التي مفروض أن تقود مختلف التغيرات السياسية والاجتماعية في العالم. وأدت أيضا الى زيادة الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين الدول الغنية والفقيرة، واستغلال ثروات الشعوب والتغلغل في اقتصاديات الدول النامية. واصبحت هذه السياسات تهدد الخصوصيات الثقافية للدول النامية وأصبح مصطلح صِدام الحضارات واردا في قواميس السياسة العالمية.
وفي أمريكا انشغل الحزب الديمقراطي في عهد أوباما بترسيخ وتمدد الشركات العابرة للقارات وتثبيت نفوذها على كل بقاع العالم. وجاءت ردود الفعل القوية من نقابات العمال واليسار الأمريكي والعالمي ضد المعاهدات التي سنها الحزب الديمقراطي مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) لإنشاء منطقة تجارية حرة بين الولايات المتحدة الامريكية وكندا والمكسيك، واتفاقية التجارة الحرة عبر المحيط الهادئ. واضاف المرشح اليساري في للانتخابات الامريكية برني ساندر صوته الى المعارضين لهذه الاتفاقيات في حملته الانتخابية.
وأدت هذه الممارسات والاتفاقيات الى وضع اقتصادي سيئ لطبقة عاملة واسعة معظمها من البيض في امريكا استغلها ترامب بوعود بتغيير الواقع وتجفيف مستنقعات المؤسسة الحكومية التي صورها لهم بانها كانت السبب في معاناتهم، ووضع اللوم في هذه المعاناة على المهاجرين من المكسيك ومناطق أخرى.
وجاء موقف بوتين في روسيا متناغم مع هذه المواقف، حيث دعم بوتين ترامب ضد خصمه الانتخابي من اجل تخفيف الضغوطات الدولية ضده التي تمثلها سياسة العولمة واتفاقيات الشركات العابرة للقارات برعاية أمريكا.
وبالإضافة الى الجانب الاقتصادي، تقف الأحزاب اليمينية في هذه الدول بشكل عام ضد الأقليات الدينية والاثنية وتحاول وضع القيود على تحركها واندماجها في مجتمعاتها، حيث جاءت تصريحات ترامب ضد المسلمين والأقليات القومية الأخرى ترسيخا لهذه السياسات.
وتستعمل هذه الدول والأحزاب سياسة الخوف والتخويف ضد المهاجرين القادمين من الدول المضطربة مثل العراق وسوريا وأفغانستان متناسين انهم كانوا السبب في تدمير هذه الدول. وتصاعدت أصوات اليمين في أمريكا وأوروبا من اجل منع دخول هؤلاء اللاجئين الى دولهم بحجة الإرهاب، بالرغم من ان معظم العمليات الإرهابية في أمريكا وأوروبا في السنوات السابقة كانت من قبل اشخاص ولدوا ونموا في تلك الدول وليس من المهاجرين.
وعلى الصعيد الدولي تطالب أحزاب اليمين بالانسحاب من الاتفاقيات الاقتصادية الدولية ووضع تقيدات على الاستيراد بحجة حماية الإنتاج الوطني، وهي في الحقيقة محاولات للحفاظ على مكاسب الشركات الضخمة التي تعمل في الدول الرأسمالية ضد انتاجات الدول النامية.
ولا تعترف الأحزاب اليمينية المحافظة بالاحتباس الحراري والتغيرات البيئية المدمرة الناتجة عنه، وترفض هذه الأحزاب كل الأدلة والبراهين المقدَمة من معظم علماء البيئة في أنحاء العالم. في أمريكا يهدد الرئيس المنتخب ترام بالانسحاب من مؤتمر باريس للبيئة والذي شاركت فيه بقوة الولايات المتحدة الامريكية بعهد أوباما، متعهدا بالعودة الى استخراج الفحم وحرقه لإنتاج الطاقة.
وتحاول الأحزاب اليمينية تقليص وتقليل الخدمات التي تقدمها الدولة لأفراد الشعب من خلال تحويل الخدمات الحكومية الى القطاع الخاص لجني ثروات أكبر من شعوبهم، وفي أمريكا تُحارب البرامج الحكومية مثل الضمان الاجتماعي، والضمان الصحي (أوباما كير) في محاولة لإرضاء شركات التأمين العملاقة. وكذلك يحاول اليمين الأمريكي تحويل المدارس الحكومية الى مدارس أهلية ربحية غير مكترثين لمستقبل التعليم وحقوق المعلمين.
وتأتي تعينات الرئيس المنتخب ترامب للوظائف الحساسة المختلفة في وزارته ترسيخا للتوجه اليميني لحكومته بتعينه اشخاص لهم تاريخ عنصري ومتطرفين يمينين، بالرغم من أن مرشح الحزب الديمقراطي هيلاري كلنتون فازت بحوالي مليونين ونصف صوت أكثر من ترامب وعليه فترامب لا يمثل إرادة اغلبية الشعب الأمريكي.
وتترقب شعوب العالم ودول الشرق الأوسط ما ستنتجه السياسة الامريكية الخارجية تحت رعاية ترامب، وما سيكون موقفه من الإرهاب والحروب الداخلية في العراق وسوريا وليبيا واليمن. لقد فشلت حكومة أوباما فشلا ذريعا في سياستها في المنطقة، وعمقت الصراعات الطائفية والاثنية، وعجزت عن ردع مخططات تركيا وإيران والسعودية في المنطقة، وسببت بشكل غير مباشر ظهور التنظيمات الإرهابية المتطرفة. ولكن هل الحل سيكون بيد حكومة الصقور التي يشكلها ترامب؟ لقد جرب شعبنا حكومة صقور بوش والتي أدت الى احتلالها للعراق ونتائجه المدمرة وحكومته الطائفية، فهل يُحتل ويُدمر وطننا مرة أخرى؟
الله يستر من الجايات.