منذ اكثر من عقدين تُعقد صفقات و اتفاقات، و تنتشر و تُعرض افكار و خرائط متنوعة عن شرق اوسط جديد و يعاد رسم تلك الخرائط و الأفكار و نشرها وفق المتغيرات السريعة للواقع العاصف الجاري في شرقنا الأوسط الذي صار الهدف الأكثر اهمية بالنسبة للدول الصناعية الكبرى . .
و يرى مراقبون انه، بما ان القوى العظمى تتبع المنطق العسكري للحسم في حل مصالحها ، فإنها تبحث عن مكوّنات في المنطقة تكون شريكة لها على مدى طويل، او تسندها و تحقق سلامة ما يبقى من قواتها بعد عملياتها، كقوات مرابطة في المنطقة، شريك يستطيع ان يحلّ تناقضه معها بطرق سلمية و بالمفاوضات و ليس بالقوة و بالإرهاب . .
و هو أمر تطمح اليه اوساط داخلية و اقليمية ليست قليلة لأنه يحقق لها و لأوساطها و شعوبها رخاء افضل و تقدّماً اجتماعياً فعلياً، ان كان في سلطات دول المنطقة رجال كفوؤن معتدلون يجيدون حساب الربح و الخسارة لشعوبهم بعيداً عن العواطف المهلكة، في زمن الأختلال الكبير للدورة الإقتصادية الرأسمالية العالمية و سيطرة الإحتكارات و المؤسسات المالية فوق القومية . .
و ينبّه خبراء الى انه رغم انواع الوعود و الاتفاقات غير المعلنة و نصف المعلنة لكتل و مكوّنات فإن ماسيجري، ستحدده نتائج الصراعات بين الاقطاب الدولية ، و مدى نفوذ و هيمنة شركات الإستثمار العملاقة في حكومات بلدانها الصناعية، الأمر الذي صار سريع و كثير التغيّر بفعل العولمة و صلات الانترنيت، من جهة. ومن جهة اخرى، ستحدده نتائج حلول مشكلة الصراعات بين المكوّنات الداخلية سواء القومية او الدينية و الطائفية، للحصول على ملكية و نفوذ و سيطرة اكبر، يدعمها مناصروها و حاميها الإقليميين الذين لايخلون من مطامع نفوذ و توسّع، و مطامع توظيفهم لمناطق المكوّنات كسوق لبضائعهم المحلية، او جعلها تحت نفوذهم او تابعة لدولهم . .
و لابد من التذكير، بأن المنطقة تقسّمت اثر انهيار الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى حين فقد السلطان العثماني الذي اعتبر نفسه مالك البلاد و العباد، فقد سلطته و نفوذه المهيمن بكونه خليفة المسلمين . . بعد ان فقدها بفعل القوة العسكرية المقابلة و بفعل الأعباء المالية التي تكبدتها دولته بسبب المصاريف الهائلة للحرب و في غياب الاقطاب المالية المستقلة عن القرارات الحكومية المستعدة للاقراض و الدفع المؤجل كما يجري الآن .
اضافة الى ان تقسيمات اتفاقية سايكس بيكو لم تأت كما اتفق الحلفاء الكبار عليه قبل بدء الحرب العالمية الاولى و انما صارت وفق امكانات تطبيقها عملياً و على ضوء نتائجها العسكرية و السياسية و المالية في الواقع العملي للدول الكبرى اثر انتهاء الحرب . . و على امور تغيّرت في مجريات الحرب، و التي تتغيّر بالتالي ستراتيجياً و لمرحلة ليست قصيرة لأمور تتغيّر بفعل الزمن و تطور المصالح و الوعي و الحضارة، التي تفرض تغيّر التقسيمات معه . .
ففيما حدّت سلسلة جبال طوروس التركية الواقعة شمال العراق بسبب شدّة وعورتها، تقدّم القوات البريطانية التي احتّلت العراق في الحرب العالمية الأولى . . حدّت تقدمها شمالاً و استقر خط جبهة الحرب ضد العثمانيين عندها، من جهة. كما استقرّت القوات البريطانية ذاتها شرقاَ عند جبال زاكروس و لورستان بسبب الضغوط المالية التي كانت تعاني منها الحكومة البريطانية لطول الحرب، صارت جبال زاكروس هي الحد الذي توقفت عنده قواتها . . و صارت تلك الخطوط و بتغييرات على جوانبها ـ بسبب نزاعات محلية متنوعة جرى حلّها بعدئذ بطرق متنوعة لم تخلُ من العنف و الوحشية ـ و بعد تأمين حقول النفط في عمقها، صارت هي حدود دولة العراق ـ راجع " صفحات من تأريخ العراق القريب " لمس بيل ـ .
و من امثلة العوامل الاخرى لماجرى في رسم الحدود، حين اكتشف المهندسون البريطانيون العاملون في ايران حقول نفط غزيرة في منطقة " ميركه ور" الكردستانية هناك، و وصفت حينها بكونها اغزر حقول نفط في الشرق الأوسط ، و بقيت طي الكتمان الى ان اعلن عنها المهندس البريطاني مكدريج في الصحف في الخمسينات، و عوقب اثر اعلانه ذاك بطرده من العمل و حكمه بالاعدام من سلطات بريطانية و تخففت عقوبته بتدخّل مجلس اللوردات حينها ـ راجع كتاب (الجبال و السلاح ) للمهندس البريطاني مكدريج الصادر في اوائل السبعينات (*)ـ
واشار مكدريج في كتابه، الى ان شركات النفط لم تباشر باستخراج النفط هناك، لوقوعه في منطقة اتفقت مع الكبار على تقسيمها الى دول ثلاث، الأمر الذي ان حصل فإنه قد يثير صراعاً اقليمياً و دولياً بينها . . الاّ ان الأهم من ذلك، هو دور الشركات الحاسم في رسم الحدود و كونها كانت تتحسس من استخراج النفط هناك لكونه يقع في منطقة كردية صرفة ! حين رأت حينها ان النفط في حال استخراجه وتصنيعه هناك، سيؤدي الى تطوير المنطقة، و يؤدي الى زيادة وعي ابنائها الكرد وتطور ثقافتهم، وبالتالي سيشكّل اساساً مادياً هاماً لتصاعد مطالبتهم بكيان سياسي كوردي لتوفر موارده، الأمر الذي كانت الشركات تقف ضده في تلك الحقبة الزمنية .
فأجّلت الشركات النفطية استخراج وتصنيع النفط من تلك المنطقة و المناطق المحيطة بها، واحتكرت ذلك الحق لها ومنعت الآخرين من استخراجه وتصنيعه ايضاً، بل و ثبّتت حدود استثماراتها بإحكام بتثبيت حدود واضحة لايسهل تخطيّها بين كل دولتين متجاورتين هناك و في كل مكان مثله يمرّ خط الحدود فيه مرسوماً بقلم على خريطة منضدية . . و يصف متابعون بأن النفط ذاك كان احد اهم اسباب تكالب الكبار على تحطيم جمهورية الحكم الذاتي مهاباد الكردستانية في وقت لاحق . . فيما تظهر الآن انتصارات و امكانات، و مصالح و مشاعر جديدة اخرى حققت الحكم الفدرالي لكردستان العراق، الذي يتواصل في توطّده .
ففيما كان النفط و تسويقه مقرراً لشكل دول المنطقة . . تلعب الدور الأكبر الآن الثروات الارضية اضافة الى النفط و اليورانيوم و الذهب، المركبات الهيدروكربونية و الكلسية المتنوعة و املاح القشرة الأرضية، الزئبق الأحمر و غيرها من المعادن النادرة عالمياً و الهامة جداً في صناعات و اختراعات اليوم و المسطّرة في جدول مندليف . .
اضافة الى دور النقاط الأساسية في الموقع الجغرافي الستراتيجي في دول المنطقة عسكرياً من جهة، و لنقل الثروات الارضية عبر الوسائل الأحدث اليوم كموقع الخليج الذي يتطوّر قياسياً و طريق الحرير الصيني الحديث، المواقع الهامة للكابل الضوئي و لمحطات الانترنت الدولية، و غيرها من القضايا الاساسية اللاعبة في تغيير عالم اليوم، وصولاً الى طرق تجارة الممنوعات الجارية على قدم و ساق و بدعم قوى كبرى كتجارة النفط السوداء و المخدرات، و الى تجارة الآثار . . و الى دور الرشاوي و صفقات تحت الطاولة التي تلعب ادواراً كبيرة في وقتنا الراهن.
و اضافة الى مايمكن ان يحققه التقسيم او اعادته من فتح مشاريع متنوعة جديدة لتشغيل الملايين العاطلة عن العمل في البلدان الصناعية ذاتها، و في البلدان و المناطق النامية، و ايجاد فرص لتوظيف الاختراعات و الإكتشافات الجديدة . . في عصر الدور الهائل للاحتكارات العملاقة (الاميركية) كـ اكسون موبيل، بلاك ووتر ، هاليبرتون و غيرها، التي تتصرّف و كأنها دول قائمة بذاتها من مختلف النواحي المالية و الاقتصادية و العسكرية و القانونية، الغير خاضعة لأي قانون وطني او دولتي، و لاتنصاع لمواقف الحكومات اذا ما اختلفت مصالحها معها . .
احتكارات مستعدة لأعمال التسليح و تكوين الجيوش و العصابات بشتى الواجهات، لتحقيق اهدافها في تقسيم المنطقة . . بكامل التجهيز الغذائي و اللوجستي حتى الاحذية و الملابس. و تسير على نمطها الآن احتكارات ايرانية و روسية و صينية و متنوعة اخرى . .
24 / 5 / 2017 ، مهند البراك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشرته صحيفة التآخي الغراء بحلقات آنذاك و طبعته مؤسسة كاوة للادباء الاكراد في بيروت .