مثلت ثورة اكتوبر 1917 ومازالت حدثا مفصليا ليس في روسيا وحدها وانما في مجمل التاريخ البشري بغض النظر عن المآلات التي انتهت اليها تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي السابق وفي بلدان اوربا الشرقية الاخرى. وقد تجلى ذلك في ولادة افق سياسي واقتصادي واجتماعي جديد للتطور ينبذ الاستغلال والحروب الاستعمارية ومشعليها ويبحث عن اقامة السلم والعدالة الاجتماعية والمساواة لعموم المجتمع البشري.
وعملت على تغيير الطابع الطبقي لسلطة الدولة عبر ازاحة طبقة كبار ملاكي الاراضي، والرأسماليين، واحلال قيادة بديلة تمثل الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. وعلى صعيد القيادة الحزبية والسياسية للكفاح الجماهيري شهدت المرحلة التي سبقت قيام الثورة تكتيكات سياسية واعلامية وتعبوية في منتهى البراعة لادامة الزخم الثوري الجماهيري للارتقاء بالثورة الى مداها الابعد. وقد جاء في موضوعات نيسان "ان الشئ الاصيل في الوضع الراهن في روسيا، انما هو الانتقال من المرحلة الاولى للثورة، التي اعطت الحكم للبرجوازية نتيجة عدم كفاية الوعي والتنظيم لدى البروليتاريا، الى المرحلة التي يجب ان تعطي الحكم للبروليتاريا وللفئات الفقيرة من الفلاحين" (1)، وهذا ما قد تم فعلا.
ان انتصار الثورة، كان يعني بوضوح انتصار الخيار الاشتراكي بديلا جذريا للنظام الرأسمالي. غير ان السؤال المهم هنا، هل كانت الطبقة العاملة الروسية مهيأة فعلا لقيادة السلطة السياسية ؟، وهل كان انتصار الخيار الاشتراكي مدخلا لولوج بداية عهد جديد، يدشن عصر الاشتراكية؟. وهل كانت التجارب الاشتراكية السابقة، اشتراكية حقا ؟. هنالك قراءات تقييمية متعددة من منطلقات المرجعية الماركسية ذاتها.
يرى كتاب ومفكرون، وفقا لنظرية ماركس حول تعاقب التشكيلات، ان من المفترض ان تمثل "الاشتراكية" طورا ارقى من "الرأسمالية" على صعيد السياسة والاقتصاد والمجتمع (وهذا يعني ولادة تشكيلة اجتماعية اقتصادية تتمتع بعلاقات انتاجية، وانتاجية عمل ارقى من التشكيلة الرأسمالية)، كما يفترض ان تكون الديمقراطية الاشتراكية اكثر استجابة لتلبية الاحتياجات الانسانية مما وفرته الديمقراطية الرأسمالية، وان يتفوق نمط التشارك والمساواة والعدالة الاجتماعية على ما حققته الاشتراكية الديمقراطية في بلدان الرفاه الاجتماعي تحت ظل الرأسمالية. فيما يقول آخرون بأن الحصار الامبريالي وسياسة العداء للشيوعية فرضت على الانظمة الاشتراكية الوليدة، نمطا من اقتصاد الحرب، لم يدع لها امكانية النمو والتطور المطلوب.
ان التقييم الموضوعي لثورة اكتوبر الاشتراكية ينبغي ان ينطلق من السياقات التاريخية، والاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بها محليا ودوليا في لحظة الحدث، كما ان دراسة ثورة اكتوبر شيء ودراسة التجربة الاشتراكية شيء آخر تماما على الرغم من ان الاولى افضت الى الثانية. ولابد من الاشارة الى ان الماركسية كمرجعية فكرية للاحزاب الشيوعية واليسار بشكل عام تعرضت عبر الممارسة والتطبيق الى قراءات متعددة، ومتنوعة، وانتقادات واسعة من الخصوم والاتباع، والى حملات تبشيع وتشنيع وافتراء بلا هوادة، وقفت وراءها الماكنة الضخمة للمنابر الفكرية والاعلامية الرأسمالية، وقد ساهمت التجاوزات والاخفاقات التي رافقت التجارب الاشتراكية السابقة في تزويد الترسانة الاعلامية المعادية بالمادة الخام لادامة حربها الشرسة على المشروع الاشتراكي. ورغم ذلك مازالت كتابات ماركس تحظى بقراءات ودراسات تعد من بين الاكثر عالميا، ومازالت اجيال متعاقبة من الشيوعيين واليساريين يعتقدون بأن امكانية استبدال النظام الرأسمالي الباحث عن أقصى الارباح والقائم على العمل المأجور وفائض القيمة، بقيام بديل اشتراكي امكانية قائمة، لكنها ربما تستغرق مديات طويلة. واعتقد ان هذه القضية من اهم إلهامات ثورة اكتوبر لكل المناضلين من اجل الحرية والعدالة في العالم.
ان الانحناء امام تيار الاشتراكية الديمقراطية والرضوخ الى قيمها في البلدان الرأسمالية المتقدمة، انما هي ايضا من نتائج وتأثيرات ثورة اكتوبر ونضال الحركة العمالية في البلدان الرأسمالية، ولكنه في ذات الوقت تعبير عن تمكن الرأسمالية للتكيف مع ازماتها، وهي مازالت قادرة على ذلك حتى الان.
ولازالت الاشتراكية الديمقراطية في افضل تجلياتها "مضطرة او مستعدة" بهذا القدر او ذاك للمساومة على مصالح الكادحين تحت ضغوط مصالح الرأسمال والرأسمال المعولم، بما يؤدي الى الاخلال بمنظمومة العدالة الاجتماعية والمساواة. ولذا يغدو الكفاح والتطلع للديمقراطية الحقة، والمساواة ، والتشاركية، وإزالة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ، غير قابل للتحقق بدون العمل على قيام نظام ديمقراطي اشتراكي يحقق الملكية الاجتماعية لوسائل الانتاج. وبناءا عليه، فان الرأسمالية اللبرالية لا تمثل "ذروة التطور الايديولوجي للجنس البشري" و"الشكل النهائي لحكم البشر"، كما يشير فرانسيس فوكوياما.
اليسار، الواقع والتحديات
اشارت وثيقة خيارنا الاشتراكي الصادرة عن المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي العراقي في (2007) بان:
"غياب الديمقراطية السياسية، واعتماد آليات... من قبيل عبادة الفرد والبيروقراطية، إضافة إلى القفز على المراحل والتنكر للفعل الموضوعي للقوانين الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها ـ تعتبر ـ من الممارسات المدمرة لبناء الاشتراكية".
ان ما اشارت اليه الوثيقة يشخص بعضا من اوجه قصور الاحزاب الشيوعية التي وصلت الى السلطة، وينطبق الامر على معظم الاحزاب الشيوعية التي كانت تعتبر السياسة السوفيتية مرجعيتها الفكرية والسياسية، وهو ما ادى الى تراجع هذه الاحزاب وتشظيها، و تحوّل قسم منها الى مواقع الاشتراكية الديمقراطية، وتخلي بعضها عن الماركسية جملة وتفصيلا، جراء الاحباط من فشل تلك التجارب الاشتراكية.
وقد ترافق كل ذلك بدخول الرأسمالية عصر العولمة، وصعود اللبرالية الجديدة متجليا في الحد من دور الدولة في الاقتصاد لصالح السوق كما تريد الاحتكارات، وصعود اليمين السياسي والتطرف والسلفية الجهادية على نطاق واسع. في ضوء هذه المتغيرات الدولية والاقليمية والوطنية، تآكلت الخدمات الاجتماعية واتسعت البطالة في الدول الرأسمالية المتقدمة. دول هشة وحروب اهلية، تلازم معها ضمور في هوية المواطنة وتنامي الهويات الفرعية، سواء في منطقتنا او في بقاع اخرى من العالم. مقابل ذلك افرزت هذه التطورات فئات وحركات اجتماعية جديدة تناضل من اجل جملة من الاهداف الانسانية العامة، تلتقي فيها بالمحصلة مع الاحزاب الشيوعية ومع اليسار وتشكل بيئة مناسبة له، لكي يستعيد دوره الكفاحي التقدمي، وليستعيد ريادته في عملية التغيير في السياسة والمجتمع.
ان المهام المباشرة امام الاحزاب الشيوعية واليسارية، في منطقتنا تتطلب نضال فكري وسياسي جماهيري لاعادة بناء مؤسسات الدولة الوطنية وفق اسس الديمقراطية الاجتماعية، وايجاد آليات مناسبة ـ دقيقة وملزمة ـ لضمان التكافؤ والمساواة، وتوفير الامن والحرية والكرامة للمواطن الفرد ولعموم المجتمع، وصولا لهدفها البعيد في بناء الاشتراكية.
وفي هذا المسار من الممكن، بل من الضروري ان يشارك طيف واسع من المنظمات الاشتراكية واليسارية وغيرها، وفقا للظروف الملموسة في كل بلد، ولذا فان الاشتغال على التحالفات بين قوى اليسار تطرح نفسها موضوعيا في اكثر من بلد الان. وتكمن الجدية في الوصول الى نتائج ملموسة لهذا المسعى، باعتراف كل اطراف اليسار بالتعددية، وبتنوع المرجعيات المكونة لكل تيار على حدة. وان من الوسائل الهامة لاكتساب ثقة الجمهور بأحزاب اليسار تعميق الديمقراطية الحزبية الداخلية، واشاعة حرية النقد.
(1) لينين - موضوعات نيسان
"البرافدا" العدد 26 في 7 نيسان 1917