يتزايد الاهتمام والكلام منذ وقت طويل عن مآسي الحروب وعن فواجع الإرهاب ونتائج الجرائم التي قامت بها الميليشيات الطائفية والعصابات المنظمة، كل جهة تدلي بدلوها بما فيها الحرب المستعرة ضد الإرهاب والمنظمات الإرهابية وآخرها الحرب في ثلث البلاد بعدما استولى داعش عليها بشكل أثار الاستغراب عن الكيفية والسرعة ومقارنة مع قوة القوات الحكومية الجيش والشرطة الاتحادية ومؤسسات أمنية عديدة، وانتشرت في وسائل الإعلام العالمية والعربية والعراقية الأرقام المذهلة عن عدد الضحايا، وأشارت البعض منها حول عشرات الالاف بين قتيل ومصاب ومفقود ومهجر ومهاجر خارج البلاد أو داخلها بالانتقال إلى مناطق هادئة نسبياً، أما مأساة الفساد المالي والإداري فقد ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في تدمير اقتصاد البلد ونهبه، حتى حصة البطاقة التموينية التي كانت تساهم بنسبة 10% بمساندة معيشية للمواطن أصبحت مثل حكايات ألف ليلة وليلة فهي أما مسروقة أو لا يصلح قسماً منها ( إن وجدتْ! ) للحيوانات مما زاد من فقر وإملاق الملايين من المواطنين، والحكاية تطول حول المآسي والكوارث لتشبه القصة التي لا تنتهي والتي طلبها الملك لزواج ابنته، أمام هذه الكوارث تبرز كارثة أخرى وهي انتشار المخدرات وتوسع طرق وأساليب وسائل التهريب والتوزيع وأصبحت تهدد ملايين الشباب وبخاصة الفئات الكادحة التي تتلوى من صعوبة العيش وسوء الأوضاع الاقتصادية وانتشار البطالة والجرائم المنظمة، واخذ الحديث يجري عنها في كواليس البعض من الأجهزة الأمنية المطلعة بشكل مباشر، وتتحدث عنها البعض من وسائل الإعلام مرة بألم وأخرى بخجل وتذكرها كأخبار سريعة وتذكر منافذ قدومها من خارج الحدود، وكتب البعض عنها مقالات تفصيلية وبالوقائع حيث أشارت عن مدى خطورتها وتعرية تواجدها وتوسعها والكشف عن مصادرها وطرق توزيعها أو إعادة ضخها إلى بعض دول الجوار، كما فضحت هذه الأساليب والجرائم من قبل الأخصائيين والمختصين المخلصين الذين اهتموا ومازال البعض يولي الاهتمام لمحاربة انتشار المخدرات ويفضح مدى خطورتها على الأجيال القادمة
إذن المخدرات " تهريباً وتوزيعاً واستعمالاً " اليوم اصطفت مع الإرهاب والحرب وجرائم القتل والاختطاف وأصبحت تهدد المجتمع العراقي في الصميم وهي لا تقل خطورتها عما ذكرناه، إلا أن الموضوع هو اخطر من ذلك بكثير، فالحرب ممكن إيقافها، والإرهاب ممكن القضاء عليه، والفساد ممكن معالجته بقوة القانون ومعاقبة الفاسدين، والميليشيات الطائفية والمافيا المنظمة ممكن ملاحقتها وإضعافها ثم التخلص منها، لكن انتشار المخدرات من الصعوبة بمكان القضاء عليها بضربة سريعة أو إصدار قوانين رادعة لان مخاطرها تتمازج مع صحة الإنسان النفسية والجسدية وقد تحتاج إلى سنين طويلة تخسر فيها البلاد الكثير من قوتها العملية والفكرية وهي خسارة لا تعوض بالمال بل تحتاج إلى برامج صحية جدية وحذرة لان أصناف المخدرات التي انتشرت في البلاد تكاد أن تضاهي جميع أنواع المخدرات في العالم، بينما كانت فقط ونقول فقط في العهد المالكي ظاهرة الحشيش وهي محصورة في البعض من مقاهي المناطق مثل " منطقة باب الشيخ ومحلة الفضل في الرصافة وغيرها، وبعض المقاهي في منطقة الكرخ، "أما ظاهرة "الترياق " فقد استمروا بتدخينه أو استعماله في البعض من البيوتات السرية في المناطق الشعبية وكانت هذه البيوت معرضة دائماً لمداهمة الشرطة وشرطة مكافحة المخدرات، وقيل أن البعض منها كان محمياً من قبل ضباط كبار بما تقدمه من رشاوى وهدايا وغيرها، وبقت ظاهرة الحشيش والترياق محصورة بشكل ضيق ولم يكن إلى جانبها المخدرات التي عرفت أبان الثلث الأخير من حكم النظام الدكتاتوري بشكل ما وبخاصة أثناء الحرب العراقية الإيرانية والحصار الاقتصادي والحروب التي شنت حينذاك ثم كانت الطامة الكبرى باحتلال العراق 2003 التي أصبحت السوق العراقية سوقاً مهمة للتوزيع والأرباح بسبب ضعف المتابعة وحماية البعض من الميليشيات الطائفية التي تدر لها المخدرات أرباحا طائلة من خلال التوزيع أو التهريب، وقد أصبح العراق لاحقاً مصدراً مهما في التوزيع وإنتاج المخدرات وبخاصة إلى دول المنطقة بعدما كان مستهلكاً لها، وذكر ذلك مصدر في مكتب مكافحة المخدرات في وزارة الداخلية حيث قال" أن العراق أصبح مصدرا رئيسياً لإنتاج وتصدير المخدرات إلى دول الجوار من خلال زراعتها في عدد من المحافظات العراقية ، بعد أن كانت البلاد ممراً لنقلها من الدول المنتجة إلى الدول المستهلكة لها " هكذا تطورت الأمور ليس للأحسن كما يجب بل نحو الأسوأ، فالاحتلال والمحاصصة أنتجتا هذه الكارثة وهي بدون شك كارثة تمس كيان المجتمع العراقي بجميع مكوناته وطبقاته ولا تنحصر في فئة دون أخرى وانتشرت كالنار في الهشيم وما زالت تنتشر ولن تتوقف وبخاصة في ظروف الأوضاع الاستثنائية المتردية بما فيها تردي الوضع الأمني وضعف الأجهزة الأمنية وعدم قدرتها من السيطرة على الأوضاع الأمنية الحالية بشكل كامل، وليس رجماً في الغيب عندما نؤكد أن هناك بعض الكبار في السلطة أو القريبين منها يقف ويدعم مافيات الاختطاف والاغتيال فحسب بل أيضاً التهريب والتوزيع من اجل جني المال بطرق غير مشروعة لكن من وجهة نظرهم تعتبر مشروعة بالنسبة لمشاريعهم التي لا تختلف عن المشاريع التي تهدف إلى تفشي الفساد وحمايته، فالتهريب أصبح اعتيادياً لا تقف أمامه أية عوائق وبخاصة أن دول الجوار في البداية كانت ممراً لدخول المخدرات، وبهذا الصدد ذكر مشتاق طالب المدير في برنامج المخدرات في وزارة الصحة " أن المواد الصعبة كالحشيش والأفيون والمورفين يتم ضبط معظمها عند نقلها من دولة مجاورة إلى دول مجاورة أخرى عبر الأراضي العراقية ".وبيّن عضو منظمة (عراقيون) فاضل عباس :" أن الانفلات الأمني الذي شمل الحدود مع دول الجوار ، بما في ذلك إيران التي تمتد الحدود معها لمسافة تصل إلى ألف و350 كيلومتراً ، السبب الرئيس والمباشر في انتشار ظاهرة التجارة بالمخدرات أو تعاطيها " . إنها الآفة التي انتشرت وبات علاجها يكتسب صعوبة بالغة ويحتاج إلى جهود استثنائية يجب أن يشترك فيها عديد من الوزارات والدوائر والمؤسسة الأمنية المعنية بهذا الشأن، لا بل يجب أن تشترك في هذه الجهود الدولة بجميع وزاراتها ومؤسساتها ودوائرها وبمؤازرة كل القوى الوطنية والشعب لأنها إن أهملت ستكون كدودة الأرضة التي تنخر المجتمع وتجعله خالي الوفاض من الصحة والمال والمستقبل، فظاهرة المخدرات لا تقتصر الآن على الحشيش والترياق كالسابق وفي وضعٍ غير محسوس ولا منظور فقد اصطف إلى جانبها المورفين والأفيون والهيروين والكوكائين والأقراص المخدرة وحبوب الهلوسة، وراحت عصابات المافيا المنظمة تتاجر بها ثم أصبحت بدلاً من تهريبها إلى داخل العراق ترسل إلى دول الجوار كالسعودية ودول الخليج وحتى إيران وغيرهم، أما الانتشار الداخلي فهي تتجول في أكثرية محافظات الجنوب والوسط وفي الإقليم وهناك من يحميها ويوصلها بأمان دون خوف أو رادع، وأشار مسؤول طلب أن لا يذكر اسمه خوفاً على حياته أن بائعي المخدرات والحبوب المخدرة في بعض مناطق مدينة الصدر بشكل علني وهم يتخذون البعض من المقاهي لجلوسهم وتوزيعهم أن " يتجول باعة الحبوب المخدرة أمام أنظار القوات الأمنية وعند إلقاء القبض عليهم ومصادرة الحبوب التي بحوزتهم سرعان ما نراهم أمام أعييننا مرة أخرى بسبب تواطؤ بعض منتسبي الأجهزة الأمنية معهم" حسب قوله، وأشارت الأمم المتحدة في تقرير لها أن ثغرات البعض من الممرات الإيرانية تستغل من قبل تجار المخدرات وعصابات التهريب.
أن اتساع ظاهرة توزيع المخدرات وحبوب الهلوسة والمخدرة باتت لا تقل خطورة اذا لم تتفوق على الإرهاب وداعش والقاعدة وتنظيمات بعث النظام السابق ولا تقل خطورة عن الميليشيات الطائفية المسلحة وقضايا الاختطاف والاغتيال ولا تقل عن المافيا المنظمة التي تتلون مابين الدين والطائفية وعمليات القرصنة والسرقات والقيام بمهام إجرامية تناط بها عند اللزوم ، وهذه الظاهرة التي تستهلك الكثير من الجهد المالي والصحي للشباب الذي اخذ يغرق فيها لأسباب ذكرناها وفي مقدمتها عدم وجود العدالة وضبابية المستقبل وسياسة الاحتواء الطائفي والتبعية لبعض دول الجوار والسماح لها بالتدخل في شؤون البلاد، وهذه الظاهرة التي تهدد حياة المجتمع العراقي وإذا لم تعالج بشكل سليم سوف تستمر في القريب والمستقبل البعيد، وفي مقدمة التخلص من انتشار المخدرات بكل أنواعها ضبط المؤسسات الأمنية المسؤولة عن هذا الملف من جميع النواحي منها عدم اختراقها وتطهيرها والتخلص من المساومات والرشاوى واعتماد النزاهة في العمل والإخلاص ، والتخلص من المساومة بغرض الفائدة الضيقة، والخطوة الأخرى إغلاق أي منفذ حدودي يشك بأنه يستغل لتمرير وتهريب المخدرات وفي مقدمتها بعضاً من منافذ الحدود الإيرانية، وكذلك القيام بإنشاء مصحات ذو مواصفات طبية وصحية جيدة لاستقبال المدمنين من الشباب إضافة إلى الرقابة والتعاون مع العائلات وتثقيفها بمخاطر هذا الداء أو هناك جهات معينة يجب مراقبتها والتدقيق في عملها وهي المذاخر والصيدليات التي توزع الأدوية الطبية التي تصنع للعلاجات المرضية النفسية والعصبية بدون معاينة وموافقة من أطباء الاختصاص، ثم القيام بحملات مستمرة إعلامية واسعة في جميع وسائل الإعلام المرئية والسمعية والمقروءة للتحذير من المخدرات بشكل علمي ومقنع ، إضافة إلى طرق وأساليب يعرفها أصحاب الخبرات والاختصاص والمعالجين بما فيها الاستعانة بمؤسسات طبية وعلاجية وأمنية في دول متقدمة لها تجارب في محاربة الإدمان والمخدرات لكن يبقى الهاجس الأكبر هو الوضع الأمني والوضع الاقتصادي والمعيشي الذي يساهم بايجابية اذا ما التزمت الحكومة بمعايير السلامة العامة في جميع مرافق البلاد.