لعلّ سحرَ الأرقام يشكّل أحد عوامل العمى السياسي التي قد تحجب بواطن التفاعلات الاجتماعية الكامنة عميقاً تحت القشرة السياسية للأحداث في البلدان التي تعاني فشلاً مزمناً في تطورها السياسي. وتعدّ القواسم الانتخابية الحسابية واحدة من هذه التوهمات المحتملة التي قد تحقق طمأنة نفسية زائفة لتيارات سياسية تتهيأ لانتخابات جديدة بعد أن أحرزت فوزاً مريحاً في انتخابات سابقة.
فقد قرر مجلس النواب العراقي في تصويته على المادة (12) في قانون انتخابات مجالس المحافظات، بجلسته المنعقدة في 7/ 8/ 2017 اعتماد القاسم الانتخابي المعروف بـ"سانت ليغو" بالصيغة الحسابية (1,70) عند توزيع الأصوات في الدوائر الانتخابية المتعددة المقاعد في الانتخابات المحلية القادمة وفقاً لمبدأ التمثيل النسبي.
والمعروف أن الأرقام التي انبثقت منها صيغة "سانت ليغو" الأصلية كانت (1، 3، 5، 7،...) كمقسوم عليها، ثم جرت تعديلات على الرقم الأول ليصبح (1,40) أو (1,60) أو (1,70) أو (1,90) بحسب التشريعات المحلية للدول، مع إبقاء بقية الأرقام كما هي. وإن الزيادة في هذا الرقم الأول ترافقها دوماً زيادة في عدد الفائزين من القوائم الكبيرة، إذ تعني رياضياً أن عدداً مهماً من أصوات الناخبين المعطاة للقوائم الصغيرة يجري حذفها من حصة هذه القوائم وكأنها غير موجودة، قد تصل في بعض الحالات إلى ثلث عدد الأصوات.
وإذا كانت أساليب حساب الفائزين بالمقاعد الانتخابية ذات التمثيل النسبي لا تقتصر على طريقة "سانت ليغو" بل تتنوع بحسب فلسفة النظم الانتخابية والتشريعات الدستورية للدول، فإن المدافعين عن استخدام "سانت ليغو" يشيرون إلى أن زيادة رقمه الأول يمكن أن يوفر استقراراً سياسياً أشد لأنه يضمن صعود الأقوياء واستبعاد الضعفاء، فيما يؤكد المؤيدون لتقليله أنه أداة للاستئثار بالسلطة لاسيما في المجتمعات المأزومة التي تعاني من تغول الأكثريات السياسية والإثنية.وإلى جانب هذا الجدال القانوني والسياسي المهم بين الطرفين، فإن الحالة العراقية الراهنة تستدعي أيضاً رؤية أكثر مجهرية في عواقب الحراك الاجتماعي المحتمل أن ينتج عن هذا القرار السياسي في اللحظة الراهنة، إلى جانب مسببات أخرى مباشرة لهذا الحراك، منها على سبيل المثال لا الحصر عدم تشكيل مفوضية جديدة للانتخابات لها استقلالية حقيقية خارج أطر التقاسم الحزبي.
الشرعية الانتخابية والشرعية النفسية
ينطلق التحليل الحالي من فرضية أن الكتل الكبيرة أي تلك الماسكة بالسلطة السياسية منذ سنة 2003م والموصوفة بنظام الإثنيات السياسية الغارق في فساد بنيوي والعاجز حتى الآن عن تحقيق إدارة رشيدة لشؤون الدولة، هي التي ستستفيد من "سانت ليغو" المعدل هذا في الانتخابات القادمة 2018، بحكم أنها ما تزال قادرة على التحكم الواسع النطاق في نتائج الانتخابات عبر وسائل التأثير النفسي والمالي واللوجستي. أما الكتل الأقل حجماً أي تلك المدافعة عن مبدأ المواطنة والإصلاح السياسي السلمي، فإنها ستكون المتضررة من "سانت ليغو" المعدل إذ أن أغلب مفاصلها يقع خارج السلطة ما يجعلها محدودة القدرة على إحداث تأثير مباشر في الوعي الانتخابي، أي ستبقى بعيدة عن تحقيق الأغلبية الانتخابية في هذه المرحلة. أما الفرضية الثانية المحتملة فهي أن هذه الصورة ستنقلب حسابياً، أي تصبح الكتل العابرة للتطييف السياسي هي المستفيدة من "سانت ليغو" المعدل في حال حدوث انقلاب جذري في الوعي الانتخابي للفرد العراقي، وهو ما يقع خارج التحليل الحالي المقتصر على تبنّي الفرضية الأولى المتفق عليها ضمن معطيات اللحظة التاريخية الماثلة في العراق.
إن مسألة "سانت ليغو" في إطارها الاجتماعي تحيلنا فوراً ومباشرة إلى التفكير بمسألة عدم التناسب الحالي بين الشرعية السياسية الانتخابية (أي لغة الأرقام) والشرعية السياسية المُدرَكة (أي لغة المشاعر والأفكار) في المخيال الاجتماعي، وهي مسألة تثقل كاهل المجتمع العراقي المتباطئ بانتقاله العسير من عصر ثقافة تسويغ المظالم إلى عصر ثقافة المساءلة والاحتجاج.
فالفجوة بين الشرعيتين تظل أمراً مفهوماً في المجتمعات التي لم يصبح بعد وعيُها السياسي جزءاً من شخصيتها الاجتماعية المستقرة، ومنها العراق؛ بمعنى أن ما حصدته أو ما قد تحصده الكتل الكبيرة من نسبة مقاعد عالية (أي شرعية انتخابية) لا يعبّر بالضرورة عن المقدار نفسه من مقبوليتها المجتمعية (أي شرعية نفسية)، إذ أن الرفض النفسي لدى الناخب العراقي لم يتحول كلياً إلى فعل ملموس مكافئ له (أي رفض انتخابي).
فهذا الفرد اليوم بات يشعر أن ثمة تآكلاً مستمراً في الشرعية النفسية التي تمتلكها الكتل الحاكمة في إدراكه وتقييمه، بحكم حالة الانهيار المؤسساتي والخدماتي والافلاس المالي الذي تشهده البلاد بعد عقد ونصف من العنف السياسي الدموي. وهو تآكل تصرّ هذه الكتل على أن لا توفر متنفساً معادلاً له في نتائج الانتخابات القادمة (المحلية و/ أو النيابية) في ضوء صيغة "سانت ليغو" الجديدة التي قد تضمن لها في نهاية المطاف أنّ تآكل شرعيتها النفسية المتـنامي لن يرافقه هبوطاً في شرعيتها الانتخابية الرقمية، ما دامت نسبة مهمة من الأصوات المعارضة سيجري تجاهلها في ضوء القاسم الحسابي هذا.
العواقب المحتملة
إن تحقيق الكتل الحاكمة الحالية لأكثرية انتخابية توفر لها هيمنة مريحة على البرلمان ومجالس المحافظات، سيعني إقراراً منها بالاستئثار الكامل بشؤون الحكم ومصير البلاد في وقت تبدو فيه عاجزة عن تقديم أي إجراءات إصلاحية لهيكليتها ووظيفتها عبر إصرارها على استبعاد تيارات أخرى إصلاحية يمكن أن تحقق بالتشارك معها مساراً انتقالياً سلمياً نحو أوضاع أقل بؤساً. وهذا الاستبعاد هو أمر بالغ الإحباط لآمال المجتمع الذي بات مهيئاً نفسياً للتغيير بمفهومه السياسي المتعدد الأبعاد.
وكل ذلك يعني أن الأوضاع قد تتجه نحو واحد من احتمالين:
1- إن السنوات الأربعة المضطربة التي ستعقب الانتخابات القادمة 2018 قد تشهد تسرباً حثيثاً في موارد القوة الاجتماعية من كفة السلطة المتناقصة الشرعية في أذهان الناس، إلى كفة سياسية أخرى تتجمع فيها مشاعر الحرمان والغضب واليأس والتطرّف إلى جانب تنامي شرعية جديدة لن تكون بالضرورة قابلة للتمأسس الديمقراطي. وفي حال رجحان هذه الكفة في لحظة استياء عميقة فلا أحد يستطيع الآن تخيل عواقب تلك اللحظة بكل مأساويتها أو آمالها الكامنة.
2- أو أن تلجأ التيارات السياسية المتضررة انتخابياً من تطبيق "سانت ليغو" إلى التكتل في إطار واسع من حركة معارضة منظمة خارج العملية السياسية التي باتت حكراً على الكتل ذات الطابع الإثنوسياسي، لتتهيأ عبر أساليب الاحتجاج الشعبي والعمل السياسي الديمقراطي لتكون البديل القادم. وبالرغم من المشروعية الواعدة لهذا الاحتمال، إلا أنه يعني أيضاً سنوات أخرى من الاضطراب المجتمعي والصراع السياسي في بلد مثقل بالأزمات المستعصية.
إن مجلس النواب العراقي مطالب بتقديم تنازلات سياسية تقع في صلب مفهوم الديمقراطية بما تعنيه من تداول سلمي للسلطة وإعطاء كل الأصوات شرعيتها الانتخابية، الأمر الذي يسمح للنظام السياسي بإعادة إنتاج نفسه ضمن صيغة اجتماعية جديدة توفر له قدرة متجددة على إعادة ابتناء شرعيته النفسية في إدراكات الناس، بما يجنّب البلاد احتمال الذهاب إلى نهايات راديكالية غير محمودة، في الوقت الذي أصبحت فيه مسألة التغيير السلمي أمراً مستساغاً ومطلوباً في العقل العراقي الجمعي الباحث عن استعادة السلم المجتمعي والهوية الوطنية الموحدة.
وبالتأكيد، فإن تشريع المادة القانونية الخاصة بصيغة "سانت ليغو" الجديدة (1,70) لا يقع في إطار هذه التنازلات، بل في إطار التوهمات السياسية بالقوة الآنية الزائفة.
نقلا عن "المدى"