الحديث عن الفقر أو دون مستوى الفقر ذو شجون يمتد عبر التاريخ البشري الذي لم يرى العدالة في توزيع الثروات أو التخلص من الحاجة والعوز والفاقة، ولنا في عقود العبودية والإقطاع وحتى الرأسمالية دروس وتجارب ورؤيا أصبحت محط دراسات علمية طويلة وبحوث استقصاء لإيجاد حلول لهذه المشكلة لكن دون جدوى، فقد بقى الفقر لا بل ازداد وتوسع في بلدان كانت تتباهى بعدم وجوده، كما توسعت مساحات سكانية مُنضمة إليها أفواج جديدة من البطالة والحرمان مما زاد من التناقضات الاجتماعية التي بدأت تعصف في المجتمعات بما فيها البلدان الرأسمالية الصناعية المتطورة، إضافة إلى توسع أفكار التطرف والعنف وهذا ما أكدته السنين السابقة من عمر الاضطهاد والفقر والبطالة وعدم وجود مساواة أو عدالة إلى هذا الكم من الإرهاب الديني والطائفي الذي انطلق من بلدان فقيرة يجتاحها الفقر والفاقة والجوع والأمية وتُحكم بالقوة والقوانين التعسفية دون أية اعتبارات إنسانية ولا قانونية وحتى ولا دينة، والفقر عموماً لم يتقلص على الرغم مما ذكر أو كتب حول النظام الرأسمالي إنما بالعكس فقد دلت إحصائيات محايدة ورسمية عن توسع رقعته وتنوع أشكاله حتى أن المساعدات الاجتماعية التي تقدمها البلدان الرأسمالية الصناعية للعاطلين عن العمل لم تعد تكفي لسد رمق الملايين منهم بسبب ارتفاع الأسعار وجشع واستغلال الرأسمال الذي همه الوحيد هو الربح ، وقد انجرت هذه السياسة الاستغلالية بالانتقال عبر الحدود الرسمية والجغرافية لهذه الدول لتستقر في البلدان الأقل تطوراً والفقيرة راكبة سفينة العولمة الرأسمالية لتجعل من العالم قرية صغيرة تتحكم فيها وبمواردها وحتى في توجهاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، فواقع البلدان المتخلفة والتي تجتاحها الفوضى السياسية وغيرها من البلدان الفقيرة واقع مزري يتلمسه المرء بمجرد مشاهداته الميدانية وزياراته حتى السياحية فيرى ما لا يظهر في الدعايات الإعلامية ووسائل الإعلام مدى انتشار الفقر والفاقة والعوز وبخاصة بوجود مئات إن لم نقل آلاف المناطق السكنية العشوائية التي تخلو من ابسط مقومات الحياة الطبيعية والخالية من الخدمات الاجتماعية كالكهرباء والماء والخدمات الصحية والتربوية، كما يشاهد المرء بالملموس انتشار التسول والبطالة والأمية والجريمة والعاهات الاجتماعية بسبب الفقر ودون الفقر المدقع، وهذا ما نشهده في العراق الآن بعدما كانت الآمال تجيش في الصدور بعد سقوط النظام الدكتاتوري ليبدأ البناء وأعمار البلاد والعمل على بناء الإنسان العراقي الذي دمرته السياسة الرعناء خلال 35 عاما من تسلط الاضطهاد والتعسف وإرهاب الدولة، إضافة إلى معاناة أوسع الجماهير الشعبية من عمال وفلاحين ومثقفين وكسبة وموظفين وكادحين من ويلات الحروب والحصار الاقتصادي الذي جوع الشعب وليس أقطاب النظام ومريديه وحاشيته والفئات الطفيلية التي كانت تعتاش على قوة الشعب ، كل هذه المعاناة وغيرها كانت تنتظر التغيير لينهي حقب الاضطهاد وإلغاء الآخر لكن مع شديد الأسف لم تتحسن الأوضاع ولم نرى أي تحسن طرأ عليها أو تغيير نحو الأفضل والأحسن ما عدا سقوط النظام الذي اسقط بواسطة الاحتلال الأمريكي البريطاني، وعادت دورة المعاناة من جديد أكثر عنفواناً وقسوة وبخاصة في ظل المحاصصة والفساد المالي والإداري واتساع الإرهاب وقيام منظمات طائفية مسلحة لا تقل خطورة عن المنظمات الإرهابية بما فيها داعش كما أخذت البطالة بالاتساع واتساع رقعة الفقر ودون الفقر إلى مساحات سكانية وجغرافية جديدة حتى أصبح الأمر وكأنه سيستمر دون انقطاع مع حقب الماضي، لا بل هناك عشرات الالاف من الآراء لا تفرق بين ذاك البغيض والأبغض منه في المجالات المذكورة أعلاه، وليس بالمفاجأة عندما يذكر تقرير موثق نشرته جريدة الحياة 9 / 8 / 2017 يشير إلى أن نسبة معدلات الفقر ارتفعت بشكل مثير وذكر على لسان النائب نورة سالم البجاري " أن إحصاءات أعدتها وزارة التخطيط بالتعاون مع المنظمات الدولية، بيّنت ارتفاع معدلات الفقر في محافظات صلاح الدين وديالى ونينوى والأنبار وكركوك من 20 % إلى 45 % خلال العامين الماضيين" وهذه النسب لا تشمل النازحين والهاربين إلى مدن غير مدنهم داخل العراق ولا الهاربين خارج البلاد، كما أن التقرير لم شمل ضحايا " الإرهاب والأعمال الحربية" وقد بلغت الخسائر المادية لحين إعداد التقرير نحو ( 30 بليون دولار" فضلا عن مشاكل غير قليلة أخرى منها "البطالة وازدياد الأمية والأمراض والمشاكل الاجتماعية" ولا تنحصر موضوعة الفقر على التقرير المذكور أعلاه فهناك المئات من التقارير والبحوث وما نشرته وسائل الإعلام الداخلية والعربية والعالمية حول ارتفاع معدلات الفقر في العراق وقد قورنت مع حقب من السنين السابقة ومع دول فقيرة أخرى فكانت أكثر فظاعة وأن العراق في أسفل القائمة تقريبا من حيث الفقر والبطالة والأمية وتدني الخدمات فضلاً عن الأوضاع الأمنية المزرية وضحايا الإرهاب والميليشيات والحروب بما فيها الحرب ضد داعش الإرهاب، بسبب العجز المالي الهائل والفساد الذي استشرى كالطاعون في أكثر مرافق الدولة والاقتصاد "واختلال منظومة القوانين الخاصة بالاستثمارات، وسوق العمل، وحركة الأموال"وتراجع أسعار النفط فقد أصيبت البلاد بكوارث عديدة في مقدمتها البطالة التي أصبحت آفة تهدد حياة المجتمع والذي أشار له موقع ( وان نيوز انفورجرافيك ) وقارن بان البطالة الطبيعية لا تتجاوز 6% من سكان الدول الاعتيادية بينما أشار أن العراق يعتبر في مقدمة " دول الشرق الأوسط نسبة البطالة تقدر 59% من حجم قوة العامل " وجدولها بشكل تسلسلي " 1ـــ بطالة مقنعة 43%، 2ـــ بطالة مؤقتة 31%، 3ـــ النساء 85 %، 4 ـــ الخريجون يشكلون النسبة الأكبر"
مع العلم هناك تفاصيل أكثر توسعاً وتشير إلى مواقع عديدة ضمن قطاع الدولة والقطاعات الاقتصادية والصناعية الأخرى مما يجعل الاقتراب إلى الواقع المزري لمعدلات الفقر الآخذة في الازدياد وأشار الدكتور صالح ياسر عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في دراسة بعنوان الاقتصاد السياسي لموازنة 2015 في العراق نشرتها طريق الشعب ومواقع عديدة " يبدو تأثير البطالة أكثر وضوحا على الشرائح الشبابية (ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً) حيث تجاوزت نسبتها أل 57%. كما تبقى النسبة مرتفعة بين النساء، حيث تتجاوز أل 33 %" هذه الدارسة التي مر عليها أكثر من سنتين لم تبق كما هو الحال بل أن المؤشرات السلبية التي توصل إليها العاملون والمختصون في هذه المجالات تبدو أكثر مأساوية بما فيها ارتفاع نسب الفقر ودون الفقر في المجتمع العراقي وهي تتراوح ما بين 33% و 35% حسب ما نشر وصرح به حول معدلات الفقر على الرغم من أن الإحصائيات تشير لها لكنها والحقيقة تقال قد يكون هناك تفاوت ليس بفارق واسع في الإحصائيات لكنها بالتأكيد قريبة للحقائق على ارض الواقع، أنها تشير إلى واقع أصبح يشكل خطراً لحدوث انفجارات اجتماعية واسعة وتكمن خطورتها في السلاح المنتشر بين الميليشيات الطائفية المسلحة والمافيا المنظمة والمنظمات الإرهابية والعشائر فضلاً عن وجوده في الكثير من المواقع والتنظيمات السرية وحتى لدى المواطنين.
وبما أن الاقتصاد ألريعي هو السائد في العراق ويشكل حوالي 95% فقد أكد عضو اللجنة المالية في البرلمان نجيبة نجيب على ارتفاع معدلات الفقر لتصل 35% وأعلى نسبة منذ أكثر من 100 عام حسب قولها وصرحت أن " لجنة مشتركة بين البرلمان والحكومة وحكومة كردستان العراق عقدت لمناقشة مواضيع اقتصادية ومالية، وتوصلت إلى أن معدل الفقر في العراق ارتفع من 13.7% في عام 2013، ليصل إلى 35% حتى أواخر 2016" ،أما في كردستان العراق فقد ذكرت نجيبة نجيب أيضا إن “نسبة الفقر في كردستان تضاعفت إلى خمسة أضعاف بسبب الركود الاقتصادي في البلاد حيث وصلت إلى نحو 36%" وهي نسبة عالية في ظروف المخاطر الأخرى التي تلم بالبلاد ومنها محاربة الإرهاب ومنع الميليشيات من تنفيذ مخططاتها الطائفية .
من هنا تظهر مأساة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي أصبحت تتسابق في استمرار تردي الحياة المعيشية والطبيعية لأوسع الجماهير العراقية، وعلى ما يظهر من خلال دراسة الأوضاع فان هناك مؤشر واقعي على استمرار ارتفاع معدلات الفقر والبطالة التي أثرت عليها سياسة التقشف المالي المبنية من قبل الحكومة العراقية حيث تسبب أيضاً في توقف وإفلاس مئات المشاريع في أكثرية المحافظات، وأدلى صادق المحنا رئيس لجنة العمل والشؤون الاجتماعية في البرلمان " إن «معدلات الفقر في العراق ستتجاوز الـ30% خلال 2016، إلى جانب ارتفاع نسبة البطالة عن العام الماضي"وهذا ما حصل فعلاً عام 2017، هذه المؤشرات وغيرها من مؤشرات أخرى أنتجتها الحرب على داعش والنزوح الهائل من قبل المواطنين في المناطق والمحافظات غير الآمنة والهجرة والهروب إلى مناطق أخرى وقيام عشرات المخيمات التي أنشأت بسبب هذه الأوضاع والتي احتوت على مئات الآلاف من الفارين والهاربين والنازحين وهم يعانون من شظف العيش وقسوة الأحوال الاقتصادية والمعيشية بما فيها الفقر ودون معدلاته، تحتاج إلى معالجات سريعة وحلول واقعية بما فيها أعادتهم بعد انتهاء الحرب إلى مواقعهم وبيوتهم وأماكنهم وتقديم المساعدات المادية لهم والإسراع في عملية البناء وفق خطط مدروسة تشارك فيها مؤسسات الدولة المعنية والعمل على خلق مستلزمات الأمان والتعاون وفق مبدأ المواطنة بدون أية ضغوطات أو تدخلات وإبعاد التنظيمات المسلحة غير الحكومية التي تنتهج نهجاً طائفياً لكي لا تعاد الكرّة مثلما حدث، وهذه المرة نقولها بصراحة ( لن تسلم الجرة ) المهددة في كيانها من الكسر والبعثرة ولعلها حكمة أن يعي كل عراقي وطني حريص على البلاد هذه الحقيقة.