عقد الزواج من العقود الرضائية، أي أن عقد الزواج لا يبرم إلا بإيجاب من أحد طرفيه وقبول من الطرف الآخر، والايجاب والقبول الصادر من العاقدين، يعني أن يسمع كل منهما كلام الآخر ويفهم أن المقصود منه انشاء عقد الزواج، وامام هذا الوضع يتوجب أن يكون كل منهما متمتعاً بالأهلية والتي تشترط اكمال الثامنة عشرة والعقل، وهذا ما نصّت عليه المادة السابعة من قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، وهو ما انصرفت إليه ارادة المشرع حينئذ تقديراً منه أن الثامنة عشرة من العمر هي سن الرشد تماهياً مع احكام القانون المدني الذي نص في المادة 106 منه على: (سن الرشد هي ثماني عشرة سنة كاملة)، فضلاً عن النظام التشريعي العراقي، ومنذ تأسيس الدولة العراقية قد استقرت احكامه على سن الرشد تلك وعلى النهج ذاته سار قانون رعاية القاصرين الذي نصت احكامه على: (الصغير الذي لم يبلغ سن الرشد وهو تمام الثامنة عشرة من العمر ... ) المادة 3 / أ . اضافة الى أن قانون رعاية الأحداث قد نص على : ( أولاً – يعتبر صغيراً من لم يتم التاسعة من عمره . ثانياً – يعتبر حدثاً من أتم التاسعة من عمره ولم يتم الثامنة عشرة..) .
هذه القناعة التي ترسخت لدى المشرع العراقي وخلال العقود العديدة من تاريخ الدولة العراقية، جاءت من قبل شخصيات مؤهلة من الوجهة الاجتماعية والنفسية والدينية التي توصلت الى أن اكمال الثامنة عشرة من العمر هو العمر المؤهل للانسان لكي يتمع بالأهلية التي تمكنه من التعبير عن الارادة ويخرج هذه الارادة الى العالم الخارجي المحسوس والتي تكون لها القدرة على احداث الأثر القانوني المطلوب، اذ يتم التعبير عن الارادة بوسائل عدّة، كالقول والكتابة والاشارة وسواها من وسائل التعبير الأخرى ، وهذا ما سارت عليه احكام القانون المدني، فالتعبير عن الارادة فيه لايستوجب اية شكلية كانت بعد أن سادت العقود الرضائية ، فالإيجاب والقبول لفظاً مستعملين عرفاً لإنشاء العقد ، وهذا الأمر ينسحب على عقد الزواج .
عقد الزواج هو اللبنة الأولى للبناء المؤسسي لمؤسسة الأسرة، وتكوين الاسرة بعد استيعاب طرفيه لشروطه، ومن شروطه على سبيل المثال، كأن تشترط المرأة على أن لا يتزوج عليها أو أن لا يخرجها من البلدة التي تعيش فيها أو أن يسكنها منزلاً معيناً أو أن لا يسافر بها أو أن لا يحرمها من اولادها واهلها، إذ الشروط المشروعة تعد معتبرة يجب الايفاء بها ، فضلاً عن أن يكون لطرفية معرفة بأركان عقد الزواج، وعلى اساس ذلك فقد ذهب المشرع الى تعريف عقد الزواج بأنه: (عقد بين رجل وأمرأة تحل له شرعاً، غايته انشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل) المادة الثالثة من القانون، وقد طور المشرع في كردستان هذا التعريف نحو الافضل بتعريفه: (الزواج عقد تراضي بين رجل وأمرأة يحل به كل منهما للآخر شرعاً غايته تكوين الأسرة على أساس المودة والرحمة والمسؤولية المشتركة طبقاً لأحكام هذا القانون) التعديل الصادر في كردستان بالقانون رقم 15 لسنة 2008 .
هذه الأمور والأحكام لا يمكن أن توجّه إلا الى اشخاص يتمتعون بالاهلية القانونية والتي هي تمام الثامنة عشرة والعقل، على اعتبار انهم بتلك الأهلية قادرون على تحمل اعباء هذه المؤسسة والسير فيها في تكوين الأسرة وانجاب الاطفال والانشغال بتربيتهم وتعليمهم وتأهيلهم لكي يكونوا مواطنين قادرين على المساهمة في تدبير أمورهم والمساهمة في الشأن العام .
القاصر البالغة تسع سنوات من العمر (أي أنها في مرحلة الثالث الابتدائي) هل يمكن لها أن تستوعب هذه الاحكام والمتطلبات لبناء أسرة وتربية اطفال، وهي لم تزل طفلة فاقدة للأهلية القانونية بسبب كونها قاصراً، وهي ليست مجرد طفلة استناداً للتشريعات العراقية بل هي طفلة استناداً لحكم المادة (1) من اتفاقية الطفل التي تنص على : (لأغراض هذه الاتفاقية، يعني الطفل كل انسان لم يتجاوز الثامنة عشرة ..)، ومعلوم أن العراق انضم لهذه الاتفاقية وصادق عليها ونشر في الجريدة الرسمية (الوقائع العراقية) واصبحت قانوناً عراقياً وجزءاً من النسيج التشريعي العراقي، إذ نصّت المادة 19 من الاتفاقية على أن (تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية والادارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من كافة اشكال العنف او الضرر أو الاساءة البدنية أو العقلية أو الاهمال أو المعاملة المنطوية على اهمال واساءة المعاملة أو الاستغلال بما في ذلك الإساءة الجنسية وهو في رعاية الوالدين أو الوصي القانوني عليه أو أي شخص آخر يتعهد برعايته) . علية واستناداً الى هذا النص، فإن زواج القاصرات يندرج تحت عنوان الإساءة الجنسية.
القائمون على ترويج هذا المشروع يدركون تماماً أن هذه القاصرة والتي هي بهذا العمر، لا تملك الوعي أو المعرفة بالزواج وأحكامه واسبابه وشروطه، وهي لا تملك التأهيل المطلوب لموضوع الأسرة ومسؤولياتها وأعبائها بسبب حالة القصر التي هي فيها، ولما كانوا على وعي بهذه الحالة، فما هو السبب الذي يدفعهم الى الاصرار على زواج القاصرات والإلحاح على صدور التشريع بهذه الهمّة، خاصة ونحن نمر بمواقف سياسية عسيرة، وكم تمنيت مع الآخرين أن تكون هذه الهمّة منصرفة الى تشريعات تحارب الفساد أو المحاصصة أو الخراب الذي طال أوجه الحياة المختلفة، ولكن من دون جدوى . ولكن لماذا هذا الإصرار ؟
والتفسير لديّ حول هذا الإصرار هو نص المادة الأولى / 3 / أ من مشروع التعديل تنص على : (يجوز للمسلمين الخاضعين لأحكام هذا القانون تقديم طلب الى محكمة الأحوال الشخصية المختصة لتطبيق الاحكام الشرعية للأحوال الشخصية وفق المذهب الذي يتبعونه) . ذلك أن المذاهب الاسلامية وعلى اختلاف أحكامها لا يروق لها تعريف عقد الزواج بأنه (عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعاً غايته انشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل) . لأنه يخالف على ما اجتمعوا عليه من تعريف، إذ انهم يعرفون عقد الزواج (بانه عقد استمتاع ) وإن المهر هو ثمن البضع ، وحيث أن الامر هكذا، فإن مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفرية المقدّم من قبل حزب الفضيلة يؤكد ذلك في المادة 101 منه على أن : (حق الزوج على زوجته أن تمكنه من نفسها للمقاربة وغيرها من الاستمتاعات الأخرى الثابتة له بمقتضى العقد وفي أي وقت يشاء... وأن لا تفعل أي فعل ينافي حقه في الاستمتاع ) .
لذا فالزواج لديهم هو عقد استمتاع حتى وإن كانت المستمتع بها طفلة . وإن كانت لا تعرف بالأسرة وتكوينها وأسبابها وشروطها ومسؤوليتها. الأمر الذي يدفعنا للوقوف بوجه المشروع حماية للطفولة وعالمها .