وصف العراق بأنه بلد العجائب والغرائب، وآخر عجائبه أن تصدر فيه وزارة العدل قانوناً يسمح بتزويج الفتاة بعمر التاسعة!، وآخر غرائبه أنه يصدر في الزمن الديمقراطي! ويعاكس التطور الاجتماعي وقوانين حق الطفل التي أقرتها( 193 ) دولة في الأمم المتحدة من بينها العراق!
ولقانون الأحوال الشخصية الجعفري قصة تعود لعام(1959) بطلها الراحل السيد محسن الحكيم، فحين صدر قانون الأحوال الشخصية رقم(188 لسنة 1959) وقف السد الحكيم ضده واصفاً عبد الكريم قاسم بأنه (فاسق) وإن حكومته مجموعة (كفار). وفي العام (1963) قدم سماحته طلباً الى حكومة انقلاب(8) شباط الدموي يقضي بإلغاء القانون ولم تأخذ به برغم انه كان صاحب فضل عليها في تلبية طلبها إصدار فتوى بـ(تكفير الشيوعيين) لشرعنة قتلهم!.
ولقد خضع قانون الأحوال الشخصية (188 لسنة 1959) لتعديلات أهمها تعديل عام (1987) إثر الحالات الكثيرة التي نجمت عن الحرب العراقية الايرانية(1980-1988) الخاصة بالأسرى والمفقودين، ومنحه حرية أكبر للمرأة، وتعديلات أخرى لجأ إليها صدام حسين في حملته (الإيمانية).. لكن جميع تلك التعديلات لم تجرؤ على السماح بتزويج الفتاة بعمر التاسعة.
بعد سقوط النظام وتشكيل مجلس الحكم، وفي(29 كانون الأول 2003)، جرت تعديلات رجعية سلفية على قانون الأحوال الشخصية برقم(137 لسنة 2003) تبناه الراحل عبد العزيز الحكيم بوصفه رئيس مجلس الحكم، جوبه برفض شعبي كبير اضطر الحاكم الأمريكي بول بريمر الى إلغائه. وظل قانون السيد عبد العزيز الحكيم (الذي يتنفس روح أبيه) في الأدراج الى عام(2013) حيث فاجأ وزير العدل السيد حسن الشمري العراقيين بالإعلان عن مشروع قانونين مرتبطين معاً هما "قانون القضاء الشرعي الجعفري العراقي" و"قانون الأحوال الشخصية الجعفرية"، وتقديمهماإلى الحكومة والبرلمان، جوبه أيضاً باحتجاجات قوية لاسيما بغداد ومحافظات الجنوب، واعتراض دامغ على وزارة العدل أنها لم تصدر قوانين مماثلة للطائفة السنيّة ما يعني تغليبها للطائفة الشيعية،واتهام لوزيرها الشمري بأن ما قام به هو تنفيذ لزعيمه الروحي آية الله محمد اليعقوبي، وإن دافعها سياسي كورقة تستخدم لضمان فوز حزب الفضيلة في انتخابات(2014 )وتعويض ما تعرض له من خسارة. والآن في (تشرين الثاني 2017 ) يعود السيد ممثل حزب الفضيلة الى تقديم قانون الأحوال الشخصية الجعفرية، بدعوى أن قانون الأحوال الشخصية النافذ لسنة (1959) يتعارض مع الفقه الشيعي.. ليتكرر المشهد نفسه باعتراضات واحتجاجات وتظاهرات تطالب البرلمان بعدم اقراره.
المشكلة في العقل الذي صاغ (قانون الأحوال الشخصية الجعفري) أنه لا يسمع ما يقوله العلم ولا يكترث بما يقره العالم بخصوص حرية الانسان وكرامته. فمن الناحية العلمية ينبغي التمييز بين سن البلوغ البيولوجي وسن بلوغ النضج السيكولوجي والسلوكي والاجتماعي، فالأول جسدي خالص يبدأ عند الفتاة في العاشرة برأي اطباء علم وظائف الأعضاء، فيما الثاني فكري ثقافي اجتماعي يبدأ عندها في الثامنة عشرة. وعالمياً،وعلمياً أيضاً، فإن مرحلة الطفولة تنتهي عند سن الثامنة عشرة، ما يعني أن الذين اعمارهم بين سنة و17 سنة (داخل) يعدون اطفالاً. وهذا ما تضمنته اتفاقية حقوق الطفل التي حددت عمر الطفل بمن لم يدخل الثامنة عشرة. واعتبرت الامم المتحدة أن زواج الاطفال يعد انتهاكاً لحقوق الانسان وحقوق الطفل، واكدت المواد (16،19،37) من اتفاقية حقوق الطفل على ضرورة حماية الطفل من جميع اشكال العنف والضرر أو الاساءة البدنية أو العقلية أو اساءة المعاملة والاعتداءات الجنسية كافة.. ويعد زواج الفتاة بعمر التاسعة اغتصاباً من المنظورين العلمي والعالمي .وقد منعت منظمة الصحة العالمية زواج الأطفال (دون 18 سنة) لأن مضاعفات الحمل والولادة هي السبب الرئيس لوفاة الفتيات وفقاً لتقاريرها التي افادت بأن نسب الوفيات بسبب الولادة بين الفتيات بعمر (15-19) سنة تبلغ خمس مرات مقارنة من هنّ بعمر (20-25) سنة.
وثمة تساؤل موجّه لوزارة العدل:
كان مفتي داعش قد أباح الزواج من القاصرات،ما يعني أن ما أباحه مفتي داعش يلتقي مع ما سمحت به وزارة العدل في الجوهر والتطبيق.. في حال لا ينفع معه تبرير إن ما قامت به داعش يعد اغتصاباً وما تدعو له وزارة العدل يقوم على الاختيار وموافقة الوالد، فكلا الحالين..الضحية فيهما فتاة بعمر التاسعة. ولا ينفع تبرير السيد وزير العدل السابق، حسن الشمري بقوله إن لكل مذهب الحق في تطبيق معتقداته ،فباستثناء ايران والسودان، فإن الغالبية المطلقة من دول العالم حددت العمر الأدنى للزواج بسن الثامنة عشرة. فضلاً عن الوزارة لم تفكر بأن الوالد الفقير الذي لديه ثلاث بنات أو اكثر وصار في الزمن الديمقراطي لا يجد قوت يومه..يضطر الى أن يبيعهن متعاً جنسية يغتصبهن أشخاص لا وصف لهم سوى أنهم مرضى نفسياً..وغير ناضجين عاطفياً و جنسياً.
نصيحة
في ضوء هذه المعطيات،وقراءة لحكاية مشروع (قانون اغتصاب الفتيات) وما واجهه من احتجاجات، فإننا نقترح على وزارة العدل، بنصيحة مخلصة، سحب ما تقدمت به، فبه تكون قد احترمت رأي غالبية العراقيين، والتزمت بموقف الحكومة العراقية الموقعة على اتفاقية حقوق الطفل.. وبه أيضاً تعيد الاعتبار لذاتها إنها وزارة عدل تشرعن ما هو عدل..لا ما يعد بنظر العلم والعالم..اغتصاباً.
* مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العر اقية