هادي عزيز علي
الرغبة في القضاء على ما تبقى لدينا من ملامح الدولة المدنية هو هاجس الأحزاب الاسلاموية التي تتخذ وسائل شتى لتحقيق هذا الغرض، ولعلّ التشريع بالنسبة لهم هو احدى تلك الوسائل للنيل من المتبقي من تلك الملامح. لذا لم تأخذنا المفاجأة ونحن نراقب المشاريع الثلاثة المقدمة من ثلاثة احزاب من اللون ذاته الى مجلس النواب ، لغرض النيل من قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، آخذين بنظر الاعتبار الإرث الثأري لبعض الأوساط الدينية الموجّه لثورة 14 / تموز / 1958 ومنجزها التشريعي وعلى وجه الخصوص قانون الأحوال الشخصية الذي يعد بالنسبة لهم خصماً لدوداً، لأنه حرمهم من سلطة التربع على عرش الأحوال الشخصية لمدة تزيد على الثلاثة عشر قرناً، لذا فإنهم لن يدخروا جهداً لاسترجاع تلك السلطة المفقودة ولو طال الزمن ، وهذا ما يفسر السعي المحموم والمثابر للوصول الى هدفهم .
والمشروع الأخير النازع نحو تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 199 لسنة 1959 ، واضح النوايا والتوقيت، فبالإضافة الى ماتقدم ذكره وبغية الوصول الى اهدافهم، فقد اعتمد على دغدغة العواطف الدينية للبسطاء من المواطنين بغية تحقيق تلك النوايا والاهداف التي من اجلها وضعت المسودة، وهذا المشرع يختلف عما سبقه من المشاريع، اذ انه لم يسهب في التفاصيل واكتفى بعشر مواد فحسب، إلا أن المواد تلك تضمنت المخالفات الواضحة لأحكام دستور 2005، التي يمكن تشخيصها بسهولة ويسر، نذكر منها على سبيل المثال الآتي :
أولاً – لا سيادة للقانون أمام سيادة أحكام المذهب
المادة الأولى/ أ من المشروع تنص على: (يجوز للمسلمين الخاضعين لأحكام هذا القانون تقديم طلب الى محكمة الاحوال الشخصية المختصة، لتطبيق الاحكام الشرعية للأحوال الشخصية وفق المذهب الذي يتبعونه). هذا يعني أن يتقدم اي شخص الى قاضي الأحوال الشخصية ويخاطبه بلهجة آمرة قائلاً له: إن قانونك وقانون دولتك لا يعنيني وأنا على المذهب الفلاني، وإن القضية التي اطرحها على المحكمة اطلب فيها تطبيق احكام مذهبي على وجه الحصر ولا رغبة لديّ لتطبيق احكام القانون . وهذا النص يعني علوية حكم المذهب على نص القانون. وكأثر من آثار هذا النص، يعني أن من وضع النص يهدف الى تعطيل احكام المادة (5) من الدستور التي تنص على: (السيادة للقانون). وسيادة القانون تعني: - خضوع الأفراد وسلطات الدولة لأحكام القانون، والكل ملزم باحترام القانون والامتثال له ومهما اختلفت الظروف، فالسلطة التشريعية تعمل تحت احكام سيادة القانون أي أنها ملزمة بإصدار التشريعات المنسجمة واحكام الدستور ولا يجوز لها مطلقاً أن تصدر اي تشريع مخالف لأحكام الدستور، وبخلافه فإنها تكون تحت طائلة الطعن بعدم الدستورية، وكذلك السلطة القضائية، فإنها تعمل تحت ظل سيادة القانون وأن تكون احكامها تطبيقاً للنصوص القانونية، وبعكس ذلك، فإن احكامها تكون عرضة للطعن استئنافاً وتمييزاً، وكذلك الأمر بالنسبة للسلطة التنفيذية، إذ لا يجوز لها أن تقوم بعمل يخالف احكام القانون، وسيادة احكام القانون يعني أن القانون فوق ارادة الحاكم والمحكوم ، ونص المشرع يسري خلافاَ لما تقدم، إذ يضع حكم المذهب فوق القانون والدستور أيضاً.
ثانياً – لا استقلال للسلطة القضائية بموجب التعديل
تنص المادة الأولى/ ب من مشروع التعديل على: (تلتزم المحكمة المختصة ... باتباع ما يصدر عن المجمع العلمي في ديوان الوقف الشيعي والمجلس العلمي الافتائي في ديوان الوقف السني..) أي أن محكمة الأحوال الشخصية ملزمة بموجب هذا التعديل على اتباع ما يصدر عن الوقفين من افتاء يتعلق بالدعاوى المعروضة امام المحكمة المذكورة، ولا يجوز لقاضي الأحوال الشخصية اصدار حكم في الدعوى خلافاً لفتوى الوقف.
للقائمين على المشروع والمتحمسين له - نبيّن لهم أن دوائر الاوقاف ومنذ تأسيس الدولة العراقية الى يومنا هذا، هي دوائر رسمية تابعة للسلطة التنفيذية، وحسبما هو ثابت في تشكيلات الدولة العراقية واختصاصاتها. وعلى امتداد عمر الدولة العرقية ترأس تلك الدوائر موظفون ببدلات أنيقة وربطة عنق، وحتى قسم منهم لا يؤدي فروض الصلاة، إذ لا علاقة للأوقاف بالمؤسسة الدينية وليست جزءاً منها ، لا بل إن البعض من فقهاء المذهب الحنفي، عدّ الوقف نشاطاً مخالفاً لأحكام الشريعة الاسلامية لأنه يعطل احكام آيات المواريث الواردة في سورة النساء، ويحول دون وصول كامل تركة المتوفى الى الورثة الشرعيين حسبما تتطلبه سورة النساء، فضلاً عما تقدم، فإن الدراسات الحديثة تدرج الوقف ضمن النشاط المدني، إذ انه لم يكن يوماً جزءاً من المؤسسة الدينية، وحيث انه كذلك فهو معدوم الصلاحية لإصدار الفتوى.
ولما كانت دوائر الأوقاف جزءاً من النظام الاداري للدولة وتتبع السلطة التنفيذية فيها، فلا يحق لها دستورياً التدخل في شؤون السلطة القضائية استناداً لنص المادة 47 من الدستور التي أقرت مبدأ الفصل بين السلطات. فضلاً عما تقدم، فإن مشروع القانون يعطي للأوقاف سلطان على القضاء خلافا لأحكام المادة 19 من الدستور التي تنص على : (القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون) اضافة الى أن (القضاة مستقلين، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة) المادة 88 من الدستور، ألا يكفي هذا النص الدستوري الحازم لأن يوقف كتبة المشروع عن الاستمرار بغيهم.
لا حرية للبنت البالغة الرشيد البكر في الزواج
تنص المادة الثالثة من التعديل على : ( يجوز إبرام عقد الزواج لاتباع المذهبين "الشيعي والسني" كل وفقاً لمذهبه، من قبل من يجيز فقهاء ذلك المذهب إبرامه للعقد بعد التأكد من توافر أركان العقد وشروطه ... ).
في قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 يعد عقد الزواج من العقود الرضائية والمتمثل بإيجاب من أحد العاقدين وقبول من الطرف الآخر مشروطاً بتمام الأهلية والعقل مع سماع كل منهما كلام الآخر واستيعابهما بأن المقصود منه عقد الزواج . المواد من الرابعة – الى نهاية المادة السابعة من القانون، أي أن البنت البالغة الرشيدة البكر لها كامل الحرية لاختيار شريك حياتها استناداً لمبدأ الرضائية في العقود الوارد في قانون الأحوال الشخصية.
إلا أن نص المشروع الذي اشترط إجازة فقهاء المذهب، وهنا تكمن المشكلة، إذ أن المشهور في المذهب الجعفري، أن البنت البالغ الرشيدة البكر لا يحق لها ابرام عقد الزواج إلا بإذن وليها وهو الأب، وفي حالة غيابه يكون الولي هو الجد لأب، فهذه البنت ومهما بلغ موقعها من رفعة، أو في أي موقع كانت، سواء كانت وزيرة أو أستاذة جامعية أو برلمانية أو فلاحة، فلا يحق لها ابرام عقد الزواج، لأن العقد حسب الاحكام تلك ليس عقداً رضائياً بل هو عقد مشروط بإذن الولي، في حين أن الأذن لا يعد شركاً للذكر البالغ الرشيد، وهنا يشرعن المشروع للتمييز ضد المراة. وبذلك خالف احكام المساواة التي اشترطها الدستور الواردة في المادة 14 من الدستور التي تنص على: ( العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس..) ، وها هو المشروع يعطل احكام المساواة التي اشترطتها المادة 14 من الدستور، ما دام المشروع يسمح للشخص البالغ الرشيد أن يختار زوجته ويعطل الاختيار للبنت البالغة الرشيدة البكر.
ولا يغيب عن البال أن هذا القيد يخالف الاحكام العامة الواردة في الحريات والحقوق التي أقرها الدستور في بابه الثاني ، ونكتفي بهذه النقاط الثلاث.