بقيتُ واقفاً بين الأسلاك الشائكة . . انتظر الرسالة الجوابية التي وعد " فانوس" ان يأتينا بها من الوالد لتأكيد وجوده في المعتقل وانه استلم الخمسة دنانير التي بعثناها له ؟! و طال الانتظار . . وبينما كنت اجول بنظري حول المكان، شاهدت العسكري خلف دوشكا الدبابة القريبة ينظر اليّ بنظرات جادة . . بعينين تتلامعان تلامعاً وحشياً . . فجمدت في مكاني انظر اليه لأتبين لماذا نظراته تلك ؟ ولماذا تتلامع عيناه بذلك الشكل المخيف ؟ ثم ادرتُ بصري و نظرتُ الى الثكنات وبقيت انتظر . .
فجأة . . لاح " فانوس" و كان يمشي باقصى سرعة محدودب الظهر، وكأنه خيال ( ظلّ) في ذلك الغروب الذي بدأ يهيمن وسط الضجيج الهادئ لآلاف العوائل التي لاتزال تنتظر . . وصل قريباً من الأسلاك و جلس يرتّب قيطان حذائه و رمى باتجاهي بشئ صغير مكوّر ابيض سقط بين الأسلاك قربي . . وقفل عائداً بنفس تلك السرعة !
مددت يدي بسرعة نحو الأبيض المكوّر لألتقطه واحسست به ورقة، ازدادت دقّات قلبي عنفاً وانا اسحب يدي القابضة عليه، فعلق كمّ قمصلتي باحد الأشواك المعدنية الناتئة من الأسلاك الشائكة . .
فهدّأت نفسي لأحرر كميّ منها فيما كان الوقت يمرّ سريعاً . . وفجأة !!
انطلقت صليّة قصيرة مرعبة من دوشكا الدبابة القريبة ضربت الارض قربي . . احسست بها و كأن الأرض كانت تهتزّ بي، وحررت كميّ ، و بعد ان دسست الورقة في جيب بنطلوني، تراجعت
بسرعة لأعبر الصفّ الخارجي من الأسلاك وسط هدوء كأنه هدوء اموات . . ساد السكون على الساحة التي كانت تغلي قبل دقائق بذلك الضجيج الهادئ . . لأجد نفسي امام ضابط احتياط احمرّ وجهه من الغضب . . كان الشرر يتطاير من عينية المبحلقة في وجهي، و صاح على الجنديين المرافقين له باسلحتهما الأوتوماتيكية :
ـ استمرّوا بسرعة لتفتيش السياج الى . . الى نقطة حجي ابراهيم !! بسرعة !!
ثم استدار الى بسرعة و دون اية كلمة، تلقّيت لطمة على وجهي من يده الثقيلة، رمتني ارضاً وانا اشاهد بين الومضات التي كانت تومض و تنطفئ والتي ارتسمت امام ناظري . . عسكري الدوشكا القريب ينظر الى جهة اخرى و يداه على مقبض الدوشكا بذلك الإتجاه . .
صرَخَتْ ستّ جوزفين التي كانت الأقرب الىّ و في مدى رؤيتها . . . صرخت برعب ، فيما كانت والدتي تقترب بعبائتها منها لترى ماذا كان يحصل، لأنها مرشدها عن سلامة ابنها . . صاح الملازم وكأنما ليُسمعْ كلّ من كان قريبا ، فيما كان يقترب من المرأتين و يوجه كلامه لوالدتي :
ـ حجيّة ليش ماضبطتِيّ ابنك ؟ !! ما تعرفين قانون رقم 13 (1)الساري بحق كل من قادر على حمل السلاح ؟!! آني اكدر اعدمكم هنا حسب الأوامر التي عندي !! حتى صار قريباً منهما وواصل بصوت يشبه الهمس وهو يحدّث والدتي :
ـ ليش تسوّونْ هالشكل ؟ مو آني دا اشوف وغاظّ النظر . . اني اللي اكدر عليه، اسوّيه . . حجيّة والله هذا كفر . . تره يعدموني وايّاكم كلكم . . قبل يومين هرب عدد من المعتقلين من موقف وزارة الدفاع وعندنا هنا معتقلين اثنين لم نجدهما بعد التعداد الآن . . حجيّة لازم اضرب الصبي لأن آني منكم آني "... ابو العيس" ... نص عوائلنا بين معتقل و مفقود افتهمتيني حجيّه؟؟ ويجوز اضربه بعد !!!
ـ ابني نشكرك وماعليك عتب !!
انسحب الضابط بسرعة و هو يصيح على عدد الدبابة القريبة :
ـ هذا صبي وكيح ماكدرت امّه تسيطر عليه !! ماكو شي، كل واحد على مهمته !! واستدار اليّ و صاح بأمر: ـ قوم . . ولكْ !! . . قوم روح الى امّك !!!
استطعت ان اجرجر نفسي و الدماء تنزف من فمي و انفي، و من رأسي الذي جرح اثر ارتطامه ارضاً بحجر . . وتجمّعنا بلا اي صوت و ودّعت والدتي ستّ جوزفين بكلمات قليلة وبسكون . . بعد ان اتفقتا ان تتخابرا تليفونياً . . وعدنا بربل مع " ام مفيد " و ولدها وكانت شاحبة و تكرر بهمس : الحمد لله والشكر . . الحمد لله والشكر . .
بقي الصمت مخيّماً على الجميع ونحن نعود بالربل الى " شارع النضال " الذي كان لايزال مكتظاً بالعوائل العائدة من موقع المعتقل . . وهي محاطة بمراقبة و تهديد اعداد تزايدت من المسلحين، وتحت انوار كاشفة قوية . . بعد ان هبط الظلام فعلاً . و ذهبت مسرعاً للجلوس في مقدمة الطابق الثاني للباص العائد كي اكون منعزلاً عن عيون من يراقب . . وتحسست بيدي الورقة المدعوكة في جيبي واطمأنيت على وجودها، ثم اخرجتها وفتحتها وكانت عبارة عن ورق سلوفان علبة سيكاير، كتب على ظهرها رسالة بخط والدي الواضح فعلاً ، رغم سرعته في الكتابة و حدوث تداخل وتقطّع بعض الكلمات:
" ولدي الحبيب . . انا و محمد عـ لي و ابومفيد بخير. لا تقـ لقو ا . اقبلكـ م واهتمـ وا بـ امكم . . ابوكم "
ذهبت بسرعة الى والدتي و ام مفيد الجالستين في الباص لإخبارهما . . فتهلل وجهاهما . و سألتُ والدتي : ـ هل كان ذلك الضابط شيوعي ؟
ـ ابني . . انه انسان طيب . . لاتزعل من ضربته !! انه مجبور !
ورأيت الدموع تترقرق في عينيها وقبّلت عينيّ . .
و مرّت الايام و الاسابيع على الانقلاب الدموي و اجراءاته العنيفة و آلات تعذيبه البشع و سجونه التي فتحها على عجل، بحق اوسع الاوساط الشعبية، الانقلاب الذي واجهته الجماهير المسحوقة و الذي دعى الى مقاومته و عمل بدأب على تنظيم تلك المقاومة الحزب الشيوعي، بتأييد و مناشدة اوسع الأوساط الاجتماعية الكادحة و العسكرية و الشبابية و المثقفة، بإستجابتها لدعوته . .
و رغم تقليص ساعات منع التجوّل بعدئذ، استمرت الدبابات في مرابطتها و سيطراتها في مفارق الطرق الرئيسية و خاصة في احياء عقد الاكراد، الكاظمية، الامين، العوينة، كرادة مريم و الشواكة و الكريمات، قناطر قناة الجيش شرقي بغداد، بعد ان رابطت اخرى و كأنها جزءاً من بناية الاذاعة في الصالحية . . وكانت الناس تتناقل بخوف و ترقّب من المجهول اخبار تشريد و تهديم و تسوية احياء كاملة بالأرض في مناطق بين شارع الكفاح وشارع الجمهورية في بغداد . .
و تم تشريد و تهديم بيوت ساكني الصرائف في مناطق : الشاكرية و العاصمة والمجزرة ، (لأسباب امنية !!) بعد حصول اشتباكات عنيفة فيها مع الأنقلابيين، ولعدم امكانية السيطرة عليها وهي تواجه رجال الأنقلاب بالأستهزاء، التي كانت قمتها ماجرى لاحقاً حين (عفط ) (2) احد الحضور واجابه ثاني تعليقاً على رئيس وزراء الأنقلاب في كلمة له في منطقة الشاكرية . . بعد قوله ( ثورة 14 رمضان العظيمة !! ) . . كما تناقل الشهود.
كان ذلك يجري في وقت اتّسعت فيه فضيحة حكم البعث عالمياً، بعد ان توالت اعماله اللاانسانية و تزايدت المقاومة الوطنية لسلطته، من انتفاضة معسكر الرشيد الى قطار الموت الى مقاومة ارياف الفرات و الجنوب، اضافة الى اعمال اغتيالات للمجرمين قامت بها مجموعات ممن شُرّدوا و اعتقلوا و عُذّبوا ظلماً او أُهينوا، و لعب نشاط منظمات الحزب و مؤازريه دوراً بارزاً، الذين كانوا يوصلون اخبار و احوال الشعب العراقي و تحدياته للعالم، و لعبت الاذاعة السرية " بكيّ ايران " الناطقة باسم " توده ايران " دوراً هاماً في نشر الأخبار اليومية التي كانت اوساط واسعة تتناقل اخبارها، و لعبت دور المشجّع على لمّ الصفوف، رغم التشويش القوي عليها.
في وقت اخذ فيه الأستياء مما قام به بعث 14 رمضان من مذابح و جرائم شنيعة ، يعمّ الأنظمة العربية التحررية و غيرها، لأن ما قام به في تصديّه للحزب الشيوعي و محاولته الغبية لإنهائه . . ادى به الى الدخول في معارك اخذت تتسع لتشمل اوسع فئات و طبقات المجتمع و قواه من كلّ المكونات، الأمر الذي اثار انواع المشاكل و الأزمات لسلطته و بين فئات الشعب وصولاً الى افراد العائلة الواحدة، بسبب الأستنكار و الرفض لأعمال البعث . . فيما تواصلت الإعتقالات على وتيرتها و باساليبها الوحشية الأولى ، رغم اطلاق سراح بضعة آلاف ممن اعتقلوا في الشهور الأولى .
لقد ادّت سياسته الإجرامية تلك الى فشل مشروعه للوحدة الثلاثية الفورية الذي كان يزايد به . . و وصل الأمر الى تنصل دولتين عربيتين منه، لأنها لم ترَ في سلطته الاّ معاداة القوى الديمقراطية و الحركة التحررية الكردية التي اندلعت انتفاضتها مجدداً، فيما لعبت مراجع دينية شيعية عليا ادواراً في اطلاق سراح اعداد من المعتقلات و المعتقلين، رغم الفتوى الخاطئة لمرجعية الحكيم قبلئذ بتكفير الشيوعيين التي كانت الناقوس الاول للتهيئة للانقلاب، و لتصعيد الروح الطائفية. و دبّ الخلاف بين اوساط التحالف اللامقدس، على كعكة الغنائم الدامية، وعلى الزعامة و تزايدت لقاءات الأقطاب لمحاولة رأب الصدع، في بغداد و دمشق و القاهرة . . عفلق ، زعيّن ، حازم جواد ، علي صالح السعدي ، ممثلي عبد الناصر و عارف . . وسط حماسيات اذاعة بغداد.
رغم كلّ المحن . . لم تنكسر ارادة مقاومة الوضع الأنقلابي الجديد الذي حاول دفن مكتسبات جمهورية 14 تموز في الاقتصاد و النفط و حقوق الكادحين و المرأة ، و دفاعاً عن دستور الجمهورية. و تصاعدت النقاشات بين الافراد و العوائل بضرورة مواجهة العنف بالعنف، فيما كانت تزداد حمىّ تلك الافكار التي طغت على اوساط اجتماعية واسعة و خاصة الشباب الذين شاهدوا و لمسوا كيف اصبح مراهقون تافهون و بلطجية يتصرفون كقادة بسبب حملهم السلاح الذي صار منظره مهيباً و مخيفاً منذ ذلك الانقلاب و انتشرت احاديث : (نقوم بانقلاب عسكري فانقلاب البعث قام به انفار فقط، المهم احتلال الاذاعة، لاطريق لازالتهم الاّ باسلوبهم هم، دول العالم ستؤيدنا . . )
و كانت احاديث متنوعة تتكاثر عن ضرورات . . . " حركة أنتفاضة"، " الجناح الثوري"،
"عمل حاسم" ، " خط حسين" و كانت غالبيتها تدور بين الشيوعيين و اليساريين و الدمقراطيين و مختلف الوطنيين المتحدّين لما يجري . . . فيما كانت الأنذارات العسكرية، وفي قواطع (الحرس القومي) تتواصل بفزع . . و حتى ان صاحب " مقهى البرلمان " فزع ذات مساء من نقاش مسموع بين جالسي مقهاه وصل . . الى :
ـ الروح المعنوية للجماهير المقاومة عالية . . تعني انها تحتفظ بالأمل !!
واجابه نائب ضابط بملابسه العسكرية : ما يتقلىّ البيض بالضراط ؟ . . المطلوب سلاح !! فسارع الى اطفاء الانوار و اعلن اغلاق المقهى قبل ان يهدّمها اوباش الحرس القومي !!
و تزايدت الاحتكاكات بين الجيش و قوات الحرس القومي التي صارت تتسلح بالسيارات المدرّعة و الدبابات و الطائرات. فيما عبّرت وحدات الجيش عن تذمرها من تسليم قيادتها لشباب متهوّرين يسوقوها بقوة قرار حزبي لضرب الشعب و للأنتقام من ضباطه و مراتبه الوطنيين ، و بدأت حلقات الضباط تعبّر عن تزايد المخاوف من انفجار الوضع بسبب الظلم الذي لا ينتهي. الأمر الذي ادىّ الى تجاهل اعداد من الضباط للأوامر، مستفيدين من اهتزاز السيطرة الحزبية، الذي تسببه التطاحن بين قيادات البعث و صارت اجتماعات قيادة البعث تجري تحت فوهات الرشاشات التي حمت جناحاً امام جناح . . وصل الى تطويق المجتمعين كلهم بقوات مسلحة اكبر بالرشاشات و الدروع و الطائرات الحربية . .
لقد تكّسر التحالف اللامقدس الذي ساروا عليه بشعار "يا اعداء الشيوعية اتحدوا" الذي اعتبر كلّ عمل تقدمي و انساني و نقابي منظّم بكونه من (صنع الشيوعيين) ، و كان عاقبة كبيرة لكل البلد من جهة، و عاقبة لمن خرج عن الإجماع الوطني، الذي حطّم الحركة الشعبية المنظمة و النقابات و الإتحادات و الروابط الطلابية و النسائية . . و تسبب بتشريد وقتل المفكرين و العلماء و الأدباء و سياسيي البلد و وجوهه الإجتماعية . و جعل البلد عارياً من دور الجماهير المنظّمة، فاتحاً بذلك الباب على مصراعيه لشركات النفط التي موّلت الإنقلاب، كما ورد على لسان قادته ذاتهم !!
بعد عدة دورات لقصف الدبابات، و قصف مقاتلات ابرز طرفين طارت و قصفت من سماء احياء بغداد، و حطّمت مقرات بعث و حرس قومي من الطرفين وحطّمت بيوتاً و جوامع على من فيها، بما فيها مقام الامام ابو حنيفة النعمان، الذي تحطمت احدى واجهاته بقذائف دبابات لإختفاء مجرمين هناك ؟؟ على حد الرواية الرسمية رغم الادعاء بالاسلام . .
استسلمت قيادة بعث 14 رمضان، امام الجيش بترتيب و تسفيرات بالطائرات سرّاً ، باستلام و تسليم ، بلا مسائلة و لامحاسبة و لاتحقيق . . في تأكيد جديد على ان هدف " شركات النفط " كان الإجهاز على حكم الجمهورية الأولى الوطني، بالقضاء على زعيمها اولاً، و انها توقفت عن الأجهاز الكامل على الحزب الشيوعي العراقي كما خططت ـ وفق وثائق سرية انكشفت بعدئذ ـ لأستحالته ، فوافقت على تحجيمه بعد ان ضربت قيادته و انزلت خسائر جسيمة بمنظماته و وجوهه و عضواته و اعضائه ، و بوجوه البلاد الوطنية و الديمقراطية ، و اعتقلت و عذّبت عشرات الآلاف رجالاً و نساءاً ، سقط اثرها آلاف الشهداء . . و كان البعث بسلوكه ذلك لم يكن اكثر من اداة حققت لها اهدافها و انتفت الحاجة اليها . .
حُلّ الحرس القومي، و رمى افراده اسلحتهم و ملابسهم في الشوارع في يوم اعلن فيه منع تجول، و كانت نهاية حكمه بعد انتهاء مهمته التي رسمتها جهات اعلى، على اساس و مقاس (عقائدي) . . لتحقق اهدافاً عدة اضافة الى ماذكر، فتح باب المعارك الدموية في صراع القوى الوطنية و الاجتماعية في البلاد . . (انتهى)
مهند البراك، شباط / 2018
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. قانون 13 ، اصدره الانقلابيون ، يقضي بالاعدام الفوري للشيوعيين و كل من قادر على حمل السلاح منهم !
2. عفطَ ، بمعنى صوّت اصواتٍ مستنكره ، بالنفخ بقوة والكف تطبق على الفم و تتحكم بالصوت .