ما كان نشوء الحكاية الشعبية كبنية بسيطة تبعتها الحكاية الخرافية كبنية أعقد، إلا من أجل تمثيل فكرة الطوطم نباتا كان أم حيوانا لتتولد منهما الأسطورة المتمحورة حول فكرة الآلهة التي هي أقرب إلى الحكاية الخرافية منها إلى حكاية البطولة. وهذه الأفكار حول الطوطم والإله ما هي إلا تبعات واقع معيش ومرئي يؤكد تطابق وضعية التمثيل القصصي في الخطاب التاريخي والتحديات التي تقدمها الميتاخرافة التاريخية ولقد أفادت الملحمة من تراكمات الحكاية الخرافية البدائية لتصنع منها نتاجا شعريا بطوليا يعكس قوة الذكورية. ومنذ ذلك التاريخ و"ثقافة البطولة" هي السائدة كبديل عن ثقافة سبقتها هي "ثقافة المعرفة" التي أنتجتها الكينونة المؤنثة في إطار روحي مقدس.
وإذا كانت ملحمة جلجامش قد جسّدت ثقافة البطولة؛ فإنها بذلك قضت على آخر صورة يوتوبية مثلتها الكينونة المؤنثة بأدوار كثيرة أهمها دورها التشاركي الذي كان يعمَّه الخير وتسود فيه الحكمة والمعرفة.
ومن المؤكد أنّ العصر الذي سبق عصر كتابة ملحمة جلجامش كان قد شهد حكايات خرافية فيها تفضيل للكينونة المؤنثة ولاسيما حضورها الأمومي، كتعبير جلي عن الدور الفاعل الذي أدته المرأة الرافدينية وهي تنقل الانسان من فرد في قطيع إلى أن يكون مجموعا في فرد، عارفا كيف يستمر ويخلد. وصحيح أنّ كثيرًا من التأويلات والشروح التي وُضعت حول الملحمة قد تعلقت بفكرة ميتافيزيقيا الخلود وأن الجسد إذا كان سيفنى، فإن الروح ستظل باقية وبذلك يتعالى البعد الروحي وتتوكد الدونية الجسدية؛ لكن هذا التحصيل المعرفي المترشح من التأويل أعلاه والذي اعتدنا تداوله والتسليم به، إنما هو جزء من الحقيقة وليس كلها، كونه يزحزح الفعل الأنثوي الأصلي المتمثل في الاهتداء للمعرفة ويحل محله الفعل البطولي المذكر متسيدًا ومركزًا وممثلًا للخير بينما بدا المؤنث كأنه هو منبع الشر ومصدر الاستدراج نحو الرذيلة إغواءً ومكيدة..
وبسبب تلك الزحزحة أُلصقتْ بالكينونة المؤنثة كثيرٌ من صفات الشر وصارت رمزا للسلبية والدونية. وهذا ما ولَّد بعض الخلط في فهم أدوار الآلهة المذكرة والمؤنثة وطبيعة وظائفها في العصر أو العصور التي سبقت الملحمة.
ولعلنا لا نجانب الصواب إذا ذهبنا الى أن الملحمة كانت قد كُتبت على وفق رؤية ذكورية مركزية، بدليل أن الملحمة لم تبدأ إلا بوصف جلجامش، ولم تمر على الحقبة التي سبقته حين كانت الآلهة في زمن البراءة ، بينما مرت عليه ملحمة اتراحاسيس وقد روته ببعض التفصيل وهي تحكي قصة الطوفان، ومن ذلك أنّ الأم الكبرى أطلقت على أول بشر خلقته الآلهة اسم "للو" المركب من مقطعين السومريين المقطع الاول يعني الانسان الأول والمقطع الثاني يعني الرجل.
ويتشكل عالم الذكور في ملحمة جلجامش في شكل طبقات فهناك الذكور الآلهة شمش اتونبشتم والذكور أنصاف الآلهة جلجامش والذكور البشر انكيدو. أما الكينونة المؤنثة فلم تكن في الملحمة كلها آلهات ولهذا غدت الإلوهية الذكورية ومتعددة متفرقة؛ في حين بقيستا الإلوهية الأنثوية واحدة ومجتمعة. ولا ننسى أن الأم الكبرى هي التي قدمت لعشتار صنيعا مهما إذ دلّتها على خير البشرية وأعطتها صفة التقديس على مرّ التاريخ، وإن كان الباحث فراس السواح في كتابه " لغز عشتار " قد ذهب إلى أن عشتار هي نفسها الأم الكبرى من ناحية حكمتها الصاعدة من أعماق اللاشعور معتبرا كل الديانات بدأت عشتارية وأن كل سر من أسرار الطبيعة وحكمة من حكمها وخبيئة من خبايا النفس وعلاقة من علائق القوى الخفية قد أبانتها عشتار.
ومهما يكن من أمر الأم الكبرى وعشتار، فإن إغفال ملحمة جلجامش لدور الكينونة المؤنثة ما هو إلا فعل انقلابي هدفه التغييب والمصادرة، رغبةً في عدم الإقرار بالجانب الايجابي والحسن للمرأة، لاسيما إذا علمنا أن ما فُقد من الرُقم الطينية أو لحقه التخريم، كان في المواضع التي لها صلة بإثبات الأسبقية الامومية أو توكيد الفاعلية الأنثوية..
ومن المؤكد أن اختراع الكتابة كان حاجة إنسانية أسهمت في حفظ جانب من تاريخ وادي الرافدين لكن الكتابة كما يبدو حفظت الجانب البطولي الذكوري وفي الآن نفسه همشت الجانب المعرفي الحكمي الأنثوي الذي كانت قد نقلته شفاهيا الحكايات الخرافية والأساطير.
ولا شك أن الأنوثة التي ساعدت الذكورية على أن تعي وجودها، هي نفسها التي ألهمتها فعل الكتابة التي سلبت الأمومية مركزيتها لتحل محلها الأبوية.
وإذا كانت الكينونة المؤنثة قد مارست فعل الاهتداء من خلال سعيها إلى منح البشر الحكمة والمعرفة؛ فإن الذكورة انقلبت فمارست فعل الإغراء والإغواء سالبة السلطة من بين يدي الأنوثة بعد أن أخذت منها المعرفة والفطنة وعرفت سر القوة. فكان هذا أول استحواذ عرفته البشرية ومنه انطلق صراع الخير والشر ليشكلا طرفي نزاع تضادي ديالكتيكي لا نهائي بين البشر.
وما كان لأنكيدو أنْ يلعن شمخة لولا ما ذكَّره به الإله شمش من أنها هي التي عرفته بجلجامش الذي سيكرمه وسيجعل أهل أوروك يحزنون عليه. وأمّا رؤيا انكيدو لطير الصاعقة زو وحكاية لقائه بايرش كيكال ملك العالم الأسفل وبعلة صيري كاتبة العالم السفلي، فأنها كلها تدلل على أن أنكيدو هو الذي اختار هذه النهاية المأساوية. وهذه النهاية نفسها هي التي جعلت جلجامش يندب حظه، حتى هام على وجهه خائفا من المصير، وقصد اوتونبشتم وخاف من الأسود ودخل الممر المظلم الذي مر فيه لساعتين ثم أربع إلى أن صارت اثنتا عشرة ساعة مضاعفة ورأى الشمس والأشجار والأعناب ودخل في صراع مع البشر العقارب في جبل ماشو والتقى بالرجل العقرب وزوجته وابتهل إلى عظيمة الإلهات لتحميه وتحفظه.. إلى أن التقى بسيدوري إلهة الخمر وصاحبة الحانة الساكنة عند ساحل البحر التي قامت باستكمال الدور الأنثوي في التوجيه والهداية، فأغلقت الباب بوجهه كي يتذكر بطولاته وكيف أنه قتل خمبابا وثور السماء والأسود حتى إذا انتهى سألته متهكمة من هذه البطولة قائلة له: ها قد ذبلت وجنتاك ومَلَكَ الحزن قلبك وتبدلت هيئتك:
فلماذا وجنتاك غائرتان ووجهك منكمش؟
وفكرك مثقل وملامحك منهكة؟
ولماذا يكمن الأسى في داخلك؟
ولماذا اسود وجهك من البرد والحر؟
فرد جلجامش مستسلما هذه المرة للكينونة المؤنثة مرعويا وكأنه تلقن الدرس ففهمه:
ـ أصبحت أخاف الموت وأجوب البرية
وقصة صديقي مخيمة عليَّ
فكيف أستطيع أن اسكت كيف أستطيع ان اهدأ؟
وبذلك يتحقق الهدف وهو تأكيد أن الشر الذي سيحصده الانقلاب الذكوري على الكينونة المؤنثة سيظل مستمرا لا نهاية له. ولو أن جلجامش استمع لحكم انكيدو وتنازل عن بطولاته لحاز للبشرية عهودا من الخير لا وجود للشر فيها، ولأعاد الى الأنوثة سلطتها وكيانها المقدس.
وعلى الرغم من كل ذلك فإن ارورو ستظل هي النموذج الشفاهي للانثوية المصادر دورها كتابيا، ولتظل ايضا ملحمة جلجامش نموذجا فريدًا للعطاء الانثوي الذي قوبل بالنكران الذكوري، لتشهد البشرية مراحلها التاريخية المتتالية معلنة انتهاء عصر المجتمع الانثوي اليوتيوبي واستمرار عصور التصارع الدائم بين سيادة القوة واستحواذ الشر من جانب، وغلبة المعرفة والحكمة من جانب آخر.