مراجعة دوائرنا الحكومية لشأن ما, أشبه بالدخول الى جحيم دانتي. فأول ما يصدمك بعد انتظار طويل تحت الشمس الحارقة وصراع المناكب وتبادل الخبرات المراجعاتية بين المنتظرين, الأسترخاء البيروقراطي لدى الموظفين, وغياب مظاهر الضبط و( الأستعباد ) الوظيفي المعهود لرؤسائهم... ليستقبلك موظف له شفتان تحملان تعبيراً إزدرائياً مستخفاً, ليسألك : شتريد ؟! وكأنك تراجع دائرته لغرض النزهة وليس لشأن يتعلق بأختصاصها ولضرورة رسمية.. يقلب ما بحوزتك من أوليات ووثائق ويطابقها, بأستخفاف, بما حوزتك من هوية شخصية وشهادة جنسية وبطاقة سكن... ليرميها اليك على مكتبه, فتجمعها. ليبعثك بعدها, متفضلاً, لأستنساخها وبفايل مُشترى, لزاماً, من كشك الأستنساخ مع طوابع, وترجعها اليه... الى نفس الموظف ببراطمه وأوداجه المنتفخة, ليحن عليك أخيراً بتسجيلها في الواردة.
تقفز فرحاً بعبورك الحاجز الأول, لتتحول الى زميله الذي غالباً ما يكون منشغلاً في إجراء مكالمة, تتبين بأنها خاصة, يتحدث فيها لصديق له عن سهرة البارحة الحافلة وما قالت له إحداهن, في شأن ما, يجاهد في إخفاءه عن السامع المتسمع الواقف امامه على أحر من الجمر لأنجاز معاملته, وهو يتضاحك مع صاحبه مع غياب تام لأحساسه المسلكي بوجودك كمراجع, حتى ينتهي من المهم, ليراجع إضبارتك مرة أخرى, بضجر, ليختمها أخيراً بختم الدائرة السامي... يحولّك بعدها الى الحجي, حيث يتجمع امام مكتبه مجموعة من المراجعين ممن سبقوك, وهو يستضيف معمماً بعمامة سوداء او بيضاء, لافرق, او شيخاً عشائرياً على استكان شاي متبادلاً معهم الأخبار والنكات في انتظار انهاء معاملات تتعلق بأعوان لهم, خارج الأصول الأدارية, دون حضور شخصي ودون خضوع مستمسكاتهم, طبعاً, لتدقيق رسمي وذلك كله بضمانة وجاهتهم المجتمعية وحضوتهم الحزبية... بعد حين ينتبه الحجي الى وجود مراجعين آخرين عند بابه العالي, ليأذن بدخولهم.. يروزك من فوق لتحت, ويدحق في هويتك الشخصية ليعرف من أي عمام أنت, ليجعل معاملتك في دائرة التداول او يبعثك لجلب " صحة صدور " لوثائق رسمية أصلية صادرة ايام كان تزوير أية وثيقة, جريمة شديدة العقاب.
بعد اللتي واللتيا, وان كنت مولوداً تحت نجم سعد, وداعيتلك أمك, وأخذت معاملتك صك غفران الحجي, يدحرجك الى مكتب العلوية ذي الوجه النوراني, المتخاصم مع اي سمات إنثوية. ولولا حجابها وتاء التأنيث المعقودة على توصيفها الوظيفي كمديرة, او كنية " أم فلان " لأصبح عسيراً تصنيفها من الجنس اللطيف.
على العموم تكتشف بأن الشكل ليس بالضرورة يعبرً بصدق عن المضمون, فتسير معاملتك بسلاسة, تستغرب لها !
تتنفس الصعداء بعد ان تتسلم إضبارتك مدققة وموقعة ومبصومة ومختومة, تتراقص فوقها ملائكة الرضا البيروقراطي.
تتحول أخيرا الى غرفة الصادرة, حيث يجلس شاب وسيم وراء مكتب بدُرج مفتوح, يعلو الجدار خلفه ملصقاً يحمل عبارة " لعن الله الراشي والمرتشي... حديث نبوي شريف "... تقف قبالته زميلة بحجاب زرق ورق ينقصه الذوق السليم, لاتعوزها ملامح جمال فطري لولا طبقات الميك اب الهائلة وحمرة الشفاف الفاقعة, تتضاحك وتتغنج لزميلها, الذي تبدو عليه علامات البهجة والزهو لوقوف ملكة جمال الدائرة بكل جلالها حذاء مكتبه, بينما هي قد تعبر عن إنزعاجها لو لمحت نظرة عابرة من عيونك الجريئة المتطلعة لعطف وظيفي أخير, أو تتجاهل وجودك العواذلي, مستمرة في مناجاتها, كأنك حشرة هائمة ليس إلا.
وكأنه تفاجأ بوجود كائن غريب يقف على رأسه, يختم معاملتك " صادرة ", بتأفف, لتنطلق هلهولة فرح كافكوية مكتومة تحت قحف جمجمتك المهمومة, وتنفذ بعد جهد جهيد من جحيم دانتي الروتيني الى جحيم الواقع الشوارعي, باحثاً عن تكسي يقلك الى مبتغىً آخر, لتواصل كفاحك المرير في دائرة حكومية اخرى .