ارقام كبيرة مفزعة تلك التي تعلن عنها بعض وزارات الدولة ومؤسساتها والنواب والمفتشون العموميون الجادون وهيئات النزاهة، وما تعلنه منظمات المجتمع المدني العراقية وتلك المتخصصة العالمية، بشأن هدر المال العام في بلادنا والفساد المستشري، والذي تتحدث وزارة التخطيط بشأنه عن " تعمق ظاهرة الفساد وانتقالها من ظاهرة سلوكية مرتبطة بفئات معينة الى بيئة مؤسسية متكاملة ومترابطة، ترسخت جذورها لخدمة مصالح معيقة لعملية التنمية، وتحول الفساد الى مصدر لاستنزاف وهدر المال العام، واقتطاعه جزءا مهما من الدخل والناتج وتسريبه الى خارج المنظومة الاقتصادية ".
وساهم في تعمق الظاهرة الى حد كبير هذا التشابك المريب بين مؤسسة الفساد والعديد من أصحاب القرار، سواء في السلطة التنفيذية ام التشريعية. وامتد الامر حتى الى البعض العامل في مؤسسات التصدي للفساد ذاتها، فغدا "حاميهه حراميهه". وتتوجب الإشارة ايضا الى ان الظاهرة استفحلت بعد ان حصل تهاون مؤسسي ومجتمعي في التصدي لها، بما في ذلك من جانب الادعاء العام ومؤسسة القضاء .
والحديث هنا لا يدور عن نمط معين من الفساد او حالة بعينها، بل عن أشكال ووسائل لا تعد ولا حصر لها، قال عنها رئيس الوزراء انها تندرج تحت ٤٠ عنوانا، جميعها قابلة لان تتحول الى عناوين فرعية او رئيسة، وحتى مع إضافة أخرى اليها.
في هذه الأيام نتابع بألم وحرقة هذا الحديث الواسع عن النهب المنظم لعقارات الدولة، والإشارة الى شبهات فساد تحوم حول عدد من الأحزاب والكتل السياسية والمسؤولين والنواب والأشخاص الآخرين، إضافة الى ما تقوم به عصابات الجريمة المنظمة والمتعاونون معها من تزوير للوكالات بهدف سرقة تلك العقارات وعقارات المواطنين . كذلك استمرار عقد الصفقات المريبة وظاهرة تسريب الأموال الى الخارج عبر مزاد العملة وتهريب النفط والتحكم بالعديد من المنافذ الحدودية، التي قال رئيس هيئتها ان الدولة تخسر ما يزيد عن ثمانية مليارات دولار سنويا جراء الهدر والفساد. ونضيف من جانبنا: وبسبب تحكم جماعات معينة ومسلحة خارج سلطة الدولة .
ومن أشكال الفساد مثلا ما أعلنه المفتش العام لوزارة العدل القاضي بشار أحمد محمد عن إصدار محكمة جنايات الكرخ حكماً بالسجن ٨٧ سنة بحق إحد حيتان الفساد في دوائر التسجيل العقاري، جزاء مساهمتها في هدر للمال العام قيمته ٦٧ مليار دينار .
وتصاعدت بنحو مطرد في السنوات الثلاث الأخيرة معدلات التلاعب والتزوير في وثائق وسجلات عقارات تابعة لمواطنين يسكنون العاصمة بغداد، مسجلة بذلك حسب جهات رقابية متنفذة، أرقاما تتراوح بين 50 إلى 100 عقارٍ سنويا وفقا لتقرير صحفي نشرته صحيفة "المدى".
وجاء هذا على لسان عضو المجلس الاعلى لمكافحة الفساد والمفتش العام في وزارة الداخلية جمال الأسدي الذي قال: "عندما كنت مفتشا عاما لوزارة العدل عام 2015 كشفنا عمليات تزوير في منطقة البياع حصلت لـ 56 عقارا تم بيعها بشكل غير اصولي، بدعم من احد اعضاء مجلس النواب. في حين وجدنا في دائرة التسجيل العقاري تغييرا لمعلومات اساسية تخص 60 عقارا". ثم ان المعلومات المنشورة تؤكد ان التلاعب بالعقارات لا يقتصر على بغداد، بل يمتد الى محافظات أخرى.
ويقول مضيفا: "اننا لا نتملك احصائيات دقيقة عن اعداد العقارات التابعة للدولة"، مؤكدا أن "هناك الكثير من عقارات الدولة ضائعة وغير معروفة، وهي للاسف تم استغلالها من قبل ضعاف النفوس"! في دائرة التسجيل العقاري
من المؤكد ان نشر هذه المعلومات مفيد وضروري لاطلاع المواطنين وتحذيرهم من تلك العصابات المجرمة وكشف المتعاونين معها، من الذين يستغلون مواقعهم لتسهيل امر هؤلاء الذين فقدوا كل وازع من ضمير وبات محركهم الأول والأخير هو الطمع والجشع والرغبة في نهب المال الحرام. ولكن تبقى التساؤلات الكبيرة قائمة عن مدى جديدة الدولة وحزمها في التصدي لكل ملفات الفساد، ما كبر منها وما صغر، ومن هذه التساؤلات مثلا: ما مصير هذه النائبة التي تحدث عنها السيد الأسدي، وما هو الإجراء القانوني بحقها ؟!
الفساد سيستمر طالما ظل التركيز على إجراءات لا تغوص في عمق الظاهرة وجذورها وأسبابها، وطالما تغيب إرادة التصدي الحازم والفاعل لها.