منذ نيسان 2003 والاغتيالات لم تتوقف، رمياً بالرصاص عند باب الدار وأمام الأطفال، أو طعناً بسكين، أو خنقاً، أو بالغازات السامة، أو بكاتم صوت، والآلة الأخيرة أدت إلى اغتيال المتظاهر هادي المهدي(2011) وغيره العشرات،
رداً على برنامجه «كاتم الصَّوت»، الذي كان يذيعه مِن إذاعة «دموزي» ببغداد، وليس آخرها الروائي علاء مشذوب، والناشط فاهم الطائي.
غير أن ما يجمع تلك الاغتيالات، أنها مورست في طبقات المجتمع العراقي كافة: كُتاباً وفنانين وأكاديميين، مِن الجنسين، ورجال دين مِن فقهاء ورهبان، إلى الحلاقين، والنساء، ومورس بشدة ضد ضباط الجيش السابق وطياريه، وضد المتظاهرين، وبلغت حصيلة الموجة الأخيرة من الاغتيالات ستمائة متظاهر مِن الشّباب، ناهيك عن التي طالت داعمي التظاهرات، فقد اغتيل الأب والابن، وحصل أن فقدت أمٌّ متظاهرة ثلاثة أبناء شُبان.
كذلك المشترك بين اغتيالات الست عشرة سَنةً، وتُعد بالآلاف المؤلفة، غموض الجناة، وتشكيل لجان تحقيق وهمية، أتذكر أن رئيس الجمهورية اليمنية علي عبد الله صالح(قُتل 2017)، عندما اشتدت الاغتيالات في «الحزب الاشتراكي اليمني»، وكانوا يسمونه «شهيد الأسبوع»، ظهر على الشاشة (1991) قائلاً: «هل أعين مع كل شخص شرطياً يحميه»! إن رؤساء العراق اليوم يخرجون ويتوسلون بـ«الطَّرف الثَّالث» عدم قتل المتظاهرين! يا ليت شعري ما هو عملهم كي يصرحون بهذا التصريح؟! إنها نماذج اللا دول.
غير أن وسائل الإعلام الرسمية، والزبانية مِن الإعلاميين، يبثون ضد زملائهم المغدورين ما يدعيه الجاني نفسه، وإذا أرادوا حفظ سمعته قالوا: قُتل لنزاع أُسري! وإلا حكايات الإنقاص منهم كثيرة، هذا ما حدث مع الفنان والإعلامي والمتظاهر المغدور هادي المهدي، والأديب والروائي المغدور علاء مشذوب، وما يحصل مِن قتل داخل البيوت، على أنه لفرض «الفضيلة»، لا أحد يجرأ على الاغتيال وفي وضح النهار، وعند عتبات البيوت غير مَن أمن العقوبة والحِساب، وإن اعتقل سُيخلى سبيله سريعاً، لأن الجاني هو «أبو طبر إسلامي»، عضو في لجنة اغتيالات أو ميليشيا، لهذا يكون المنادون بعبارة: «نريد وطناً»، وعملاء للخارج يجب "قطف رؤوسهم".
مَن عاش ببغداد في أيلول 1973، يعرف ما هي الأسابيع التي عاشها خوفاً مِن «أبي طبر» المجهول الهوية، كان يدخل البيوت الموصدة، ويقتل ولا يسرق، يصبح البغاددة على أخبار فناء العائلة الفلانية، وقتل الشخصية الفلانيَّة، ومعلوم أن القتل من دون معرفة السبب يكون مرعباً، مثل الموت بلا مقدمات معروفة، يُفجع الآخرين، فالمثل السَّائر يقول: «إذا عُرف السَّبب بطل العجب»، أخذ النَّاس يتحارسون فوق السطوح، فإذا حرك الهواء ورقةً أو قشةً قفز سامعها مِن فراشه، ولم يكن السّلاح غير عصا، وعمل ضجة في الدار لعلها تبعد شبح أبي طبر، كانت أيام رعب حقَّاً.
لم يهدأ النَّاس، إلا بعد أن أعلنت السُّلطة عن كشف حكاية أبي طبر، حين ظهر رجل نحيل البنية وزوجته في مقابلة تلفزيونية، وتحدث عن أسلوبه في القتل، غير أن الحكاية لم يُصدقها الغالب مِن العراقيين، واعتبروها صناعة أمنية، فحينها كان الفراغ مما سميّ بمؤامرة مدير الأمن العام والرجل المتنفذ ناظم كزار(قتل1973) .
غير أن التَّاريخ لم يُعدم مِن «آباء الأطبار»، مِن صنع السلطات أو الجماعات، وقعت قصة تشبه قصتنا، شبه الغُراب بالغُراب، السّنة(304هـ)، في خلافة المقتدر بالله(قُتل320هجرية): «في الصيف تفزعت العامة مِن حيوان كانوا يسمونه الزَّبْزَب، ذكروا أنهم يرونه في اللَّيل على سطوحهم، وأنَّه يأكل أطفالهم، قالوا: وربَّما قطع يد الإنسان إذا كان نائماً، أو ثدي المرأة فيأكله، وكانوا يتحارسون طول اللَّيل ولا ينامون، ويتزاعقون ويضربون الطُّسوت والصَّواني والهواوين ليفزَّعوه، وارتجّت بغداد لذلك من الجانبين بذلك، حتى أخذ السلطان حيواناً غريباً أبلق، كأنه من كلاب الماء، وقال: هو الزَبْزَبُ، وأنَّه صيدٌ، فصُلب على نِقْنِقٍ عند الجسر الأعلى، وبقي مصلوباً إلى أن مات، فلم يغن ذلك إلى أن انبسط القمر، وتبيّن للناس أنه لا حقيقة لما توهَموه، فأمسكوا، إلا أنَّ اللُّصُوص وجدوا فرصتهم بتشاغل النَّاس في سطوحهم، فكثرت النُّقوب» (مسكويه، تَجارب الأُمم)، هذا، و«الزَّبْزَبُ» حيوان يشبه السَّنور(الدّميري، حياة الحيوان الكبرى)، كالقطط والأسود والنُّمور، كذلك «الزَّبْزَبُ» نوع راقٍ مِن الزَّوارق، يستخدمها الخلفاء والوزراء(البشاري، أحسن التَّقاسيم)، واسم لمغنٍ معروف في زمانه(الجاحظ، الرَّسائل) .
تعرضت بغداد لمثل هذه الظُّروف في مختلف العصور، ولا مجال لذكر مَن نسجوها في مخيلة العامة، وخلالها تكثر عصابات القتل واللُّصوص، في هذه الأيام بالذات، تُطارد النَّاس أرتال مِن المسلحين، إن خالفوا كفروا وهددوا، وإن تمردوا طالت رؤوسهم فؤوس «الفضيلة»! يظل القتلة مجهولين، ما دام القضاء لا يقترب لحيتان الفساد، ولا لتماسيح الاغتيال، فهؤلاء فوق كلّ اعتبار، يتذكر العراقيون جيداً عندما تظاهروا لتنظيف القضاء واستقلاليته عن السِّياسة، وكان الهتاف ضد قاضٍ بعينه، ذهب أصحاب الأطبار والفؤوس الإسلاميين، وظهروا معه على الشاشات، رسالة لذوي المغتالين والمسروقين: «إنه في حمايتنا»، فمَن يقترب منه يصبح صيدنا، وليس مِن تحقيق في شأنه، ولا هامة تدور على قبره، لأن دمه مهدور.
أقول: على خلاف العهود السابقة، طال شوط لعبة «أبو طبر» الإسلامي(ست عشرة سنةً)، وها هو القتل بدأ بولادات(2003)، عن طريق مَن سمته المصادر الرَّسمية بـ«الطَّرف الثَّالث»، فتمعنوا بدس الرعب، ببقاء هذا الطرف القاتل مجهولاً، وهو بحد ذاته يحمي الاغتيال والفساد.
عن الاتحاد الاماراتية