المماطلة والتسويف والهروب الى امام من استحقاقات واجبة في ظل الازمة الراهنة والأوضاع المحتدمة والمحتقنة، لا تعني الا المزيد من المعاناة ومن سقوط الضحايا وضياع الفرص. وهذا ما بيّنه المنتفضون واكدوه طيلة اربعة اشهر، وما شخصه العديد من القوى والشخصيات الوطنية وما نبهت اليه المرجعية العليا في النجف مرارا، وآخرها امس الاول الجمعة.
وما انفك المخلصون يؤكدون ان لا استقرار ولا أمان مع استمرار حالة الفوضى وعجز الحكومة وسلطاتها المختلفة والقوى المتنفذة، عن إيجاد الحلول وتخليص البلد مما هو فيه اليوم من سوء حال وتدهور على مختلف الصعد.
والى جانب هذا أضيف الآن مطلب مشروع يتعلق بالسيادة، بعد الانتهاكات التي تعرضت لها من جانب أطراف عدة، والعجز الرسمي الواضح عن ضمانها. ولعل من نافل القول الإشارة الى ان تحقيق ذلك يتطلب أولا وقبل كل شيء وجود حكومة قوية، تمتلك إرادة وطنية واضحة وتصميما على صيانة وحفظ القرار الوطني العراقي، المستقل عن اية املاءات خارجية مهما كان مصدرها وعنوانها.
ويتطلب تحقيق السيادة الكاملة أيضا الأقدام على اتخاذ مجموعة أخرى من الإجراءات، وتهيئة الظروف كي تتمكن قواتنا المسلحة والأمنية من القيام بواجباتها الدستورية، ما يستلزم إعادة بنائها على أسس سليمة وعقيدة وطنية، وابعادها عن التخندقات الطائفية والاثنية والمناطقية وعن الولاءات السياسية والحزبية الضيقة، واستمرار تجهيزها وإعدادها وتأمين جهوزيتها والكف عن زجها في صراعات سياسية ووضعها في تعارض مع تطلعات المواطنين وطموحهم الى التغيير والإصلاح الحقيقي.
وقد آن الأوان لوضع السلاح حقا وفعلا بيد الدولة، وان لا يعلو أي سلاح على سلاح الشرعية والقانون وضمن المؤسسات الرسمية.
ان من الصعوبة بمكان الحديث عن سيادة وطنية وتأمينها من دون وحدة وطنية فاعلة وراسخة وإرادة وطنية متضامنة ومتعاضدة، وبناء سلم اهلي وطيد يقوم على أواصر ثقة متينة وسياسة بناءة في عدم التمييز بين المواطنين العراقيين أيا كانت قومياتهم وطوائفهم ومذاهبهم واديانهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية .
فالسيادة مطلب وطني عام لا يخص هذه المجموعة او تلك فقط من المواطنين العراقيين، او هذه الفئة او تلك من السياسيين، وكلما أعطيت بعدها الوطني المطلوب والضروري، كلما أخذ بناؤها مساره الصحيح والسليم الضامن عدم ثلمها من أي طرف .
ان أوضاع البلد الخطيرة تتطلب موقفا وطنيا مسؤولا ينطلق أولا وأخيرا من مصالح الشعب العليا، وان يتم الانصات جيدا الى أصوات المنتفضين ووقف القتل العمد ضدهم، فالعنف والقتل وانتزاع البراءات وقرقعة السلاح والتهديدات والابتزاز، لن تدفع بالبلد الا الى احتمالات قد تؤدي حتى الى الاسوأ. وان الاستجابة السريعة الى مطالب الجماهير الشعبية الواسعة، تقرب وتعزز التوجه الجاد نحو تحقيق السيادة الحقة .
ويتوجب هنا تذكير الجميع بان أسباب قيام الانتفاضة ما زالت على حالها، بل وأضيفت اليها المسؤولية عن الدماء الزكية التي اريقت وسقوط هذا العدد الكبير من الشهداء والمصابين. فهي لم تنطلق بايعاز من هذا الطرف او ذاك او من هذه المجموعة او تلك، فهي أوسع وأكبر من كل القوى السياسية والاجتماعية، وبضمنها التي دعمتها وساندتها.
انها صرخة شعب انتفض ليسترد وطنه، رافضا العيش كما ظل طيلة السنوات السابقة، منذ ٢٠٠٣ حتى اليوم.
لقد بات ملحا بالنسبة للجميع، خاصة من القوى المتنفذة، ان ترتقي الى مستوى التحديات الراهنة وان لا تضيع الفرصة الحقيقية للتغيير الشامل، الذي اصبح حاجة وليس ترفاً فكريا او سياسيا.
ولا بد من التحذير مجددا من ان دماء المنتفضين لن تذهب سدى، وستظل تلاحق القتلة والفاسدين والمرتشين. وان على الحكام استيعاب دروس التاريخ جيدا قبل فوات الأوان .