بعد السَّبي والاغتصاب الذي مارسه تنظيم «داعش» بالمناطق التي سيطر عليها لسنوات؛ طُرحت مأساة أنساب «أبناء الدواعش»، ومعلوم أن النَّسب في الأديان مسألة خطيرة، بل إن «اللَّقيط» له أحكام في الفقه الإسلامي، مِن دون أخذ الطُّفولة بنظر الاعتبار.
لذا تجد قتل الأطفال الرّضع غير الشرعيين يُهوّن، وتلك ممارسة تجري سراً، بخنق الطفل وأمام عيني أمّه، وإذا رحموه ألقوا به على قارعة الطريق، وهو ابن الساعات فقط، بلا اسم بل يُعرف باللقيط، يجري ذلك بعرف عشائري له علاقة بـ«جرائم الشرف»، فهذا الطّفل ليس له نسب.
يبحث الجميع عن النسب الشَّريف، لا أنسى الشَّاب السوداني، الذي ردَّ على المحاضر بعد أن ألحق لقب «الشَّريف» بأحد النشطاء السياسيين، قائلاً «ونحن...»! والشَّريف لقب يُطلق على مَن نسبوا إلى بيت النَّبوة، وبالعراق يُعرف بالسَّيد، وهذا النَّسب قد تعرض للتزوير، حتى فتحت مكاتب تمنح شجرة نسب، فكثرت ألقاب: الموسوي، والعلوي، والحسيني، والحسني، ورجل الدِّين عند الإمامية يعتمر العِمامة السوداء إذا كان «سيداً»، بينما العامي يعتمر البيضاء، وقد تُرمى بعدم اللياقة إذا ما دعيت «السّيد» بالشَّيخ، وبالعكس!
ولأن النسب مسألة مفصلية، فالفقه الإسلامي يُحرم التبني تحريماً مطلقاً، وعند المذاهب كافة، وذلك وفق الآية: «ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ»(الأحزاب:5). من أسباب نزول الآية يُفهم أنها وردت في زيد بن حارثة، فيجوز التربية، وعليها ثواب كبير، ولكن بلا تبنٍ، لأن الأمر يتعلق بالنسَّب، وحتى التشدد في أمر «السفاح» أو «الزنى» فله علاقة بصحة بالنسب، وابن الملاعنة (رمي الأم بالزنى من قِبل زوجها) لا نسب له، وهذا ما عانى منه المؤرخ والنسّابة محمد بن حبيب (ت245هج)، فعُرف باسم أُمه «حبيب» (ابن خلِّكان، وفيات الأعيان).
نستعرض سريعاً آراء عدد من الفقهاء بشأن «اللقيط» أو مَن لا نسب له، يرى ابن حنبل(ت241هج) أن «ولد الزنى إذا التقط فهو عبد»، (مسائل الإمام أحمد بن حنبل). يرى أبو يوسف(ت182هج): «الدية في مال قاتل ولد الزنى، بمعنى أنه أقل شأناً مِن الآخرين، فلا يحكم بقتل قاتله عمداً». يرى ابن تيمية(ت728هج) الجزاء على الأعمال لا النَّسب. لكنه يعود فيقول: «إنما يُذم ولد الزنى لأنه مظنة أن يعمل عملاً خبيثاً، كما يقع كثيراً، كما تُحمد الأنساب الفاضلة لأنها مظنة الخير».(مجموع الفتاوى) .
ويستند ابن قيم الجوزية(751هج) إلى حديث: «لا يرث ولا يورث»، ووفقاً لهذا يُلحق اللقيط بأهل الأم إن كانت حرة، وإن كانت أمَة يلحق بسيدها ليكون عبداً(زاد المعاد). على الرغم مِنْ عقيدته «لا جبر ولا تفويض»، يكفر الشَّريف المرتضى (ت436هج) اللقيط، قال: «إن ولد الزانية لابد أن يكون في علم الله تعالى أن يختار الكفر ويموت عليه وأنه لا يختار الإيمان»(رسائل الشريف المرتضى). مِنْ فقهاء الشَّيعة الإمامية البارزين يتشدد ابن بابويه القمي(ت381هج): «حكم الولد لغية (ابن زنى) لا يورث» (مَن لا يحضره الفقيه). إلا أن ابن حزم الظاهري(ت456هج) ينفرد مِنْ بين الفقهاء عندما يرى: «اللقيط حر، ولا ولاء عليه لأحد، لأن الناس كلهم أولاد آدم وزوجه حواء» (كتاب المحلى) .
كانت بعض قبائل العرب، قبل الإسلام، تمارس الوأد، لكن لدى الأكاديمي السعودي مرزوق التنباك رأياً، يُفهم منه أن «الوأد» له صلة بالنسب، وليس بالجنس، فـ«المراد بالموءودة هي النَّفس وليس جنس المولود» (الوأد عند العرب). يأتي هذا بعد كشف في أمهات التَّاريخ واللغة عن معنى النَّفس، وما يُراد مِنْ إشارة بها إلى المولود، ذكراً كان أم أنثى.
ليس أكثر مِن كُتب الأنساب في التُّراث الإسلامي، ومَن انتسب لأمه، مَن هم بلا آباء، ورَّبما أولها كتاب هشام الكلبي(ت204هـج) «جمهرة النسب»، الذي كذبه البعض، وهذا أبو نواس(ت198هج) يطمح أن يكون له اسم في كتاب الجمهرة، فسأله مرتاباً: «ما أنساب مَذحِج»! وكتب له: «أبا منذر ما بالُ أنساب مَذْحِج/مُرجَّمةً وأنت صديقي/فإن تأتني يأتك ثنائي ومدحتي/وإن تأبَ لا يُسدُ عليَّ طريقي» (القالي، ذيل الأمالي والنَّوادر) .
لكنّ ما هو مشهور عند المؤرخين أن والد أبي نواس كان مروانياً مِن دمشق، وأمّه جلبان «امرأة موسورة بالبصرة، كانت تجمع أولاد الزنا وتربيهم»،(ابن منظور، مختارات الأغاني). لهذا لنَّا تسميتها بالمُحسنة، لكنّ فقدان هؤلاء الأطفال النَّسب، ومشكلتهم مع الفقه مثلما تقدم، فالتبني لا يُسمح به، مع أن كباراً في السياسة والعلم والفن كانوا ممَن ألتقطوا، وهم رضع، مِن الطُرقات.
تُطرح هذه القضية الآن لأهميتها، في ما يتعلق، مثلما نوهنا، بأطفال «الدواعش»، وليس لهم ولا أُمُّهاتم المغتصبات لهنَّ ذنب، كي يُحار بأنسابهم، وهذه الظَّاهرة يعاني منها النِّساء الأيزيديات وأطفالهنَّ، اللواتي تعرضنَ للاغتصاب بعد اجتياح الموصل، والفقه الأيزيدي متشدد أيضاً في مسألة النَّسب. فإلى أين يتوجه هؤلاء، وكيف سيحيون حياة سويَّة، والفقه الديني يُطاردهم، والمجتمع لا يعرف عنهم سوى أنهم «لقطاء»، وحكمهم الاستعباد، مع أن العبودية بكاملها قد أٌلغيت، وهي فيها أحكام فقهية، لأن زمنها قد انتهى.
نعود إلى التَّذكير بقول منسوب لمعاوية بن أبي سفيان(ت60هج): «معروف زماننا هذا منكر زمان مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأتِ»(البلاذري، أنساب الأشراف). فما تقدم مِن الحكم على الرضيع زمان قد مضى، والتَّجديد الدِّيني مطلب ملح لزمان آت، ولا عُذر بقدسية التُّراث، فهو تراكم تجارب عبر العصور، ولكلّ عصر تجربته وأحكامها.
عن الاتحاد الاماراتية