توهم البعثيون بعد انقلابهم الدموي في الثامن من شباط 1963, وبعد مذابح قطعان حرسه القومي الفاشي ضد الشيوعيين والديمقراطيين وقادة ثورة 14 تموز المجيدة, بأن الامور قد استتبت لهم, ونفذوا ما اراده اعداء الثورة من دول حلف بغداد ( السنتو ) الاستعمارية وشركات النفط المتضررة من قانون رقم 80 لسنة 1961, اسوة بالاقطاع المحلي ورجال الدين الرجعيين... بالقضاء على الشيوعية في العراق.
ورغم القمع الدموي للمقاومة الباسلة ضد الانقلابيين دفاعاً عن الثورة ومكاسبها, التي سطر فيها الشيوعيون والديمقراطيون مآثر بطولية يشهد لهم بها التاريخ, الا ان ثلة من الشيوعيين الناجين من هذا الدولاب الدموي, حملوا راية الكفاح, وقاموا بتجميع القوى ولمّ الشتات والشروع بالعمل بعد ان عضّوا على جراحاتهم وحملوا ارواحهم على راحاتهم من اجل الوطن الحر والشعب السعيد...
وكل منهم " كام كومة حزب للكلفات " كما قال العظيم مظفر النواب.
من هؤلاء الرفاق المجهولين الذين اخذوا على عاتقهم تهيئة ظروف الثورة على الانقلابيين وسادتهم واستعادة الوطن من براثنهم, كان " الرفيق عبد الأله القزاز " الذي هو محور حديثنا.
هذه احداث حقيقية اسردها من واقع ذكرياتي عن تلك الحقبة العصيبة. فقد عشت هذه الاحداث كمراقب بعمر صبي, عرف الجلاد من كره أهله ومحيطه وما سمعه ورآه من وقائع, كما عرف الضحية, الشيوعيين المقاومين الابطال من حب أهله وشعبه لهم ومن مواقفهم التي تسر القلب والنظر... فقد كان من بينهم معارف لا تغفل رقيّهم عين.
" عبد الأله القزاز " احد هؤلاء الأخيار الذين حفظ لهم القلب والذاكرة أطيب ذكرى, فقد كان بسلوكه وتعامله الراقي معي شخصياً بالغ الأثر في حبي له, واعجابي بمآثره وتأثري بفكره النيّر.
جمعتنا بعائلته اواصر محبة وصداقة من خلال الأخوات حيث كن زميلات دراسة, فقد كانت احدى اخواتي تأخذني معها لبيتهم الكائن في شارع الكفاح, في زيارات متفرقة حتى توطدت بيني وبين اولادهم وخاصة ابنهم توفيق ,المقارب لي بالعمر, صداقة قوية لنلعب كرة القدم وابيت عندهم احياناً, وقد دخلت السينما, لأول مرة في حياتي بفضلهم, حيث اخذوني معهم, وجلسنا في خانة الشواذي لنشاهد احد افلام الأكشن الذي لا اتذكره.
التقيت بعبد الأله اخيهم الأكبر في بيتهم بأوقات متفرقة, فقد كان دائم الغياب بسبب, كما عرفت لاحقاً, انه كان ملاحقاً من الاجهزة الامنية لكونه شيوعياً خطيراً... فقد كان احد نزلاء سجن " نكرة السلمان " الرهيب, رغم صغر عمره, بعد مشاركته بانتفاضة 1956 الشعبية ضد العدوان الثلاثي على مصر, وفصل على اثرها من مدرسته الثانوية, وكان من السجناء السياسيين الذين اطلق سراحهم بعد الثورة, لكن متابعتهم الامنية عادت بعدما بدأت قوى الردة تستعيد بعض مواقعها في السلطة.
,الحادثة التي انطبعت في ذاكرتي, حدثت بعد انقلاب شباط الفاشي بعدة اشهر, لا اتذكر بالضبط بأي شهر, لكني اتذكر مفارز الحرس القومي التي كانت لا تزال تجوب الشوارع, وتدقق هويات المواطنين, وغدارات " بور سعيد " على جنباتهم.
ذهبت مع اختي الى دارهم, طرقنا الباب عدة مرات لكن ما من مجيب... لم تفتح الباب بالسرعة المعتادة, فمن المستبعد عدم وجود احد في البيت لان عدد افراد العائلة كبير ولا يمكن ان يكونوا قد غادروه كلهم. بعد انتظار, تحركت ستارة الشباك المشرف على الشارع وأطل منها وجه امهم, تأكدت من الطارق ثم اوصدت الشباك وفتح الباب لنمرق من دفتيها الى الممر الموصل بباحة الدار كما هي في معمار كل البيوت العربية.
اذهلنا المنظر الذي لم نشهد له مثيلاً في حياتنا ولم يتكرر بعدها أبداً.. كانت ارض الباحة, على وسعها, مفروشة بمنشورات مطبوعة, لا اعرف لماذا, ربما للتجفيف او للفرز لتهيئتها للتوزيع...طبعاً لم نسال فقد ألجمتنا المفاجأة.
المهم, بعد ايام من هذا الحدث, شهدت بغداد حالات استنفار وتوتر بين قطعان الحرس القومي وكثرت حواجزهم واعتداءاتهم على المواطنين.
" ابو خضر " القومي الفلسطيني الذي كان يسكن الشقة التي فوقنا في " قمبر علي " اخبر أبي بأن الشيوعيين وزعوا منشورات معادية للثورة
لا اتذكر آخر لقاء لي بعبد الأله, الذي لم يبرح ذاكرتي يوماً, ربما كان بعد انقلاب عبد السلام عارف في 18 تشرين 1963, ثم انقطع التواصل بعد انتقالنا الى بيت آخر في اطراف بغداد البعيدة.
" عبد الأله القزاز " هو واحد من شيوعيين كثر حافظوا على وميض نار الثورة ضد الطغاة واداموه ليتلقفونه شباب انتفاضة تشرين / اكتوبر 2019 ليكملوا مشوار الطلائع المجاهدة التي ضحت من اجل دولة التقدم والعدالة الاجتماعية التي ينشدونها.
! الرفيق عبد الأله القزاز " لذكراك العاطرة الف تحية... دمت خالداً في القلوب "