إذا كان الصينيون يعتقدون، ومنذ مئات السنين بأن انهيار الحضارة في اي مكان، يبدأ من خروج الموسيقيين عن القاعدة الاساسية للسلم الموسيقي، فان انهيار الوعي باهمية الثقافة وبداية التصدع الحضري في العراق بدأ من اليوم الدراسي الاول،
لدى طالب المدرسة الابتدائية، الذي دخل الصف فوجد زجاجة الشباك مكسورة، وماسحة الطباشير خرقة ملابس بالية، ومن نظرته الاولى الى ملابس واناقة المعلم، ومن الشعارات المرفوعة في اروقة المدرسة، ومن هوله وفزعه وهو يدخل الحمامات لقضاء حاجته البسيطة.
كنا تحدثنا في مكان آخر عن أهمية الثقافة، ولعلنا اقتصرنا في ذلك على ما ينتجه المثقفون من شعراء وكتاب وموسيقيين وفنايين وو.. إلا أن الفعل الثقافي ومفهوم الحضارة عند العراقيين، بشكل خاص حقل واسع، كنا تلمسنا معالمه قبل نحو من نصف قرن، في مفاصل كثيرة من حياتنا، وفي النظرة البريئة عبر السياج الواطئ لحديقة المدرسة، وفي الشرفات الجميلة لبيوت الطبقة الاولى، وفي السينما والمسرح والنادي الاجتماعي، وعلى عشب حديقة الامة التي تمتد طويلًا وفي الاشجار العالية لشارع الكورنيش.... ومن يقرأ في كتاب (هكذا مرت الايام) لبلقيس شرارة، زوجة المعماري رفعة الجادرجي، يفهم جوهر الخطى (الثقافية) الاولى والراسخة، والتي أخذت بنقل العراق الى مصاف الدول المتحضرة في العالم، آنذاك، ثم لا حظنا كيف تبلور الوعي هذا عند طبقة المجتمع العليا واصبح واقعًا، ومن ثم، كيف بدأت درجات السلم بالنزول إيجابا الى طبقة الموظفين الثانية والثالثة فيه.
كان المجتمع العراقي قد قطع الخطى الطويلة، باتجاه استخدام الثقافة في حياته بعد تراجع سلطة رجال الدين وشيوخ القبائل، ومع نمو الوعي باهمية الدولة كبديل حاكم في الحياة، عبر مؤسساتها الخدمية والانتاجية، التي أصبحت تمنحه الكرامة في عيشه والصحة في بدنه والتعليم بين ابنائه، بل وكان الانسان العراقي يجد التطور ويتلمس التحضر ويتمثل الثقافة في مراجعاته للمؤسسات تلك. ففي المدرسة والمستشفى والسوق ولدى صاحب المتجر الكبير وعند نقطة الحدود وفي دوائر الجنسية والجوازات والضريبة وغيرها رأى المواطنُ البسيط، والفلاح، القادم من أطراف القرية الموظفَ الانيقَ والجادَ في متابعة ما يريده منه، وتعرف على الرجل الخلوق والمهذب، الذي احترمه ومنحه الكرامة فأجلسه على كرسي الانتظار، ريثما يكمل حاجته هناك.
لكن، ما حدث في العراق بعد جملة الانقلابات العسكرية، وبعد الحرب مع ايران، كان فجائعيا بحق، فقد انهارت المنظومة الاخلاقية والمدنية، التي كانت قد قطعت خطاها الاجمل، ولعل تحطم صورة الضابط الوطني والمعلم المبدئي والموظف الشريف وغيرهم كانت الحد الفاصل بين زمنين، ويمكننا معاينة صورة زوجة الشهيد وهي تتابع معاملة راتب تقاعد زوجها، وهي تتنقل بين الغرف الكثيرة، او صورة والده وهو ينتظر مفجوعًا يائسًا بين الجنود ذوي القبعات الحمر، وعند بوابات الفرق والالوية والافواج، من هناك ابتدأت خطى الانهيار.