هذا المقال يعتبر محاولة تقديم تفصيل بسيط لأفضل الجامعات الأميركية في مجالات التعليم والبحث العلمي،
وبيان أسباب تقدمها وتميزها لكي تكون أمثلة تساعدنا في تطوير تعليمنا العالي كمؤسسات يتوافر لديها فلسفة اجتماعية ومنهجية علمية وخطط واضحة تحدد معالم وطرائق العمل في مجالات خدمة المجتمع وتجهيز سوق العمل بما يحتاجه من خبرات وكفاءات. وقبل أن أدخل صلب الموضوع أحب أن احذر من دعوة أي جامعة أميركية لمجرد إنها اميركية، فالتجارب الحديثة لوجود الجامعات الاميركية في المنطقة لا تمنحنا ثقة بأنها ستقدم ما هو أفضل مما تقدمه الجامعات العربية، وبالتحديد لا الجامعات الاميركية في قطر والخليج، ولا في السليمانية استطاعت أن تصل الى مصاف الجامعة الاميركية في بيروت أو الى تلك التي في بلدها، ولهذا أسباب عديدة قد أعود لها في المستقبل.
تعتبر الولايات المتحدة أكبر دولة للتعليم العالي ولربما أفضل دولة في نوعية التعليم. توجد فيها حوالي 4000 مؤسسة تعليم عالي تضم أكثر من 17 مليون طالب و41% من هذه المؤسسات تمثل كليات مجتمعية تدرس لمدة سنتين و20% تمثل نسبة الكليات الأولية، ولا تمثل المؤسسات الجامعية التي تمنح شهادة البكلوريوس إلا 18% من هذا المجموع منها 15% تمنح شهادة الماجستير و6% فقط تمنح شهادة الدكتوراه ونصف هذه الجامعات (3%) يطلق عليها بالجامعات ذات القاعدة البحثية.
تتميز الجامعات الاميركية باختلاف المهمات فيما بينها، فعلى سبيل المثال تعتبر جامعة ييل (Yale) وهي من أفضل الجامعات في العالم أن مهمتها أولاً هي تخريج قادة للولايات المتحدة وللعالم، وثانياً تطوير ونشر والحفاظ على المعرفة والثقافة المجتمعية (Culture) . استطاعت ييل أن تخرج 530 عضو كونغرس بضمنهم الرؤساء بوش الأب وفورد وكلنتون وبوش الابن وهي بهذا تكون قد نفذت مهمتها الأولى. أما المهمة الثانية فيبدو أن نشر المعرفة ينطبق على معظم مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة إلا أن المحافظة على المعرفة والثقافة وتطويرهما فلا يشاركها في هذه المهمة إلا 1% من هذه المؤسسات.
المثال الثاني على الجامعات المتميزة في أميركا هو معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك) (California Institute of Technology) ومهمته هي توسيع نطاق المعرفة وإفادة المجتمع من خلال إجراء البحوث المتكاملة والتعليم. "كالتك" ليس بجامعة وانما معهد صغير يدرّس فيه حوالي 400 مدرس وفيه 2000 طالب لكلا الدراسات الأولية والعليا، ومع ذلك فإن المعهد يفتخر بحصول علمائه على 31 جائزة نوبل، ممثلاً بذلك أعلى مساهمة لاغناء المعرفة من قبل أية مؤسسة بنفس الحجم . ويتميز المعهد بمواضيع محددة هي الطيران والفضاء وعلوم الحياة والفيزياء. "كالتك" يمكن أن يكون مثالاً نحتذي به لإنشاء مؤسسة جامعية تهتم بمواضيع رائدة كالمياه، وبيولوجيا النخيل، والنفط، وتضم خيرة من العلماء في هذه المجالات يهتمون بالبحوث العالمية الرائدة ويندمجون بالعلم العالمي وبمؤسساته.
أما جامعة هارفرد (Harvard) فتعتبر من أعرق وأفضل جامعات العالم إلا أنها لاتضم إلا حوالي 6500 طالب ويعتبر برنامجا الطب والتجارة من أحسن البرامج المماثلة في الجامعات الاميركية. تخرج من هارفرد 8 رؤساء اميركيين بضمنهم روزفلت وكندي، وفيها عمل أو يعمل حالياً 48 عالماً من الحاصلين على جائزة نوبل. قوة هارفرد الأساسية تكمن في قدراتها المادية فهي تمتلك أكبر الاوقاف المالية في العالم. أما غاية الجامعة فهي ببساطة "انتاج المعرفة وفتح أذهان الطلاب على هذه المعرفة وتمكينهم من الاستفادة القصوى من الفرص التربوية" ، ولتحقيق هذه الغاية تقوم الجامعة بتشجيع الطلاب على احترام الرأي المغاير والأفكار الجديدة وعلى التعبير الحر والتفكير النقدي والى السعي لتحقيق التفوق من خلال روحية عالية من التعاون المثمر، وتشجع طلابها على تحمل المسؤولية والمشاركة الجماعية واكتشاف قدراتهم وتطويرها، كل هذا من أجل تكوين أشخاص لهم قدرات الاكتشاف والقيادة والتحدي والتخليق.
ألا يكفي هذا من مهمات لكي تترشح الجامعة بكل جدارة للتصدر؟ يتضح أن هدف جامعة هارفرد هو صناعة الإنسان وليس مجرد تعليم الطلاب طب وهندسة وآداب وفنون كما تفعل معظم الجامعات. ما استذكره من زيارتي الأولى وفي مقتبل حياتي الاكاديمية لاستاذي المرحوم البروفسور فخري البزاز الذي كان يحتل كرسي التطور البيولوجي في جامعة هارفارد إنه أخذني للاطلاع على قسمه وأول ما فعل هو أن أراني مفتخراً بقيم وأصول الجامعة مكاتب جوار مكتبه كان يعمل فيها بعض من الحاصلين على جوائز نوبل كجيمس واتسون، وتوماس ولر، وفرتز لبمان، وكونارد بلوخ. فكان أن انتابني شعور بالاعجاب بعظمة هؤلاء الذين هم من نتاج ثقافة البحث والتحري والاكتشاف، والتراث والأخلاق العلمية للجامعة، وليس كنتيجة لقابلياتهم العقلية فقط. على سبيل المثال لم يكن فرتز لبمان إلا رجلاً فاشلاً بلا مستقبل قبل أن تشحذ هارفرد قابلياته ليتم له أكتشاف واحد من أهم الانزيمات في صناعة البروتينات.
المثال الأخير هو جامعة برنستن (Princeton) وهي الجامعة الاولى في الولايات المتحدة. في الوقت الحاضر لا يتعدى عدد طلبتها 7500 طالب منهم حوالي 2500 يدرسون دراسات عليا. تمتلك الجامعة أكثرالدراسات رغبة بها في الولايات المتحدة وهي الطب والقانون والتجارة، ومع ذلك فهي من أفضل الجامعات في العالم، والسبب إنها تتبنى نظاماً تعليمياً من أكثر الانظمة صرامة وباستخدام موارد محدودة استطاعت من خلالها انتاج 25 من الحائزين على جائزة نوبل (17 منهم في الفيزياء) و 12 من الفائزين بجائزة فيلدز (والتي تعتبر جائزة نوبل في الرياضيات).
ومن هنا نرى أن مهمات الجامعات تختلف باختلاف تراكيبها ونشأتها واهدافها فنرى جامعة ييل تركز على مهمة انتاج قادة بينما تفضل "كالتك" أن يكون طلبتها من ذوي الإرادات القوية والمثابرة الفائقة في حل المشاكل وتركز خاصة على أولئك الذين يتمتعون بمواهب موسيقية فذة.
من هذه الأمثلة وغيرها ما يتوفر لنا حول نظام التعليم الجامعي في الولايات المتحدة، نرى أن الجامعات المختلفة لها مهمات مختلفة وبالتالي لها نظم تشغيلية مختلفة تتمتع بميزات فردية. الجامعات في العراق يجب عليها ان تتميز بعضها عن البعض الآخر في مهماتها وفي مواضيعها وأن يكون لها خصوصيات كالجامعات الحرة لكي تستطيع أن تسّخر إمكانياتها المحدودة لتحقيق اهداف قليلة توصلها الى مصاف الجامعات العالمية المتميزة. ليس لكل الجامعات أن تكون كما يقول المصريون "بتاع كلّو"، بل عليها أن تتعرف على إمكانياتها وحاجة سوق العمل المحلي، واهتمامات أساتذتها وتوفر الاختصاصات العليا لكي تبني مشاريعها وتنتقي برامجها التعليمية والبحثية. الجامعات يجب أن تكون مراكز انتاج المعرفة ومراكز تعاون ومحبة بين منتسبيها يجمعهم هدف واحد وهو الرقي بجامعتهم لا يتصارعون بينهم لتحقيق أهدافهم الشخصية وإنما يتصارعون مع منتسبي الجامعات الأخرى في سبيل مصلحة جامعتهم.