في الزاوية هذه من الجريدة، وفي مطبوعات أخر كنت قد كتبت عن البحر والفاو والصيادين والمنطقة المنسية في جغرافيا العراق، ومن نافذة الطائرة حيث كنت عائداً، ألقيت نظرة على المسطح المائي في خور الزبير، شجرة الترع والأنهار التي يحدثها المد ويمحوها الجزر مرتين في الليل والنهار من كل يوم،
ومن تسنّت له زيارة الارض متباينة التضاريس، والمحصورة بين شط العرب شرقاً وأم قصر غرباً وجنوباً في البصرة سيجد أنها الأهم والأجمل هنا، لكنَّ يد الحكومة مغلولة عنها، فهي من وجهة نظرها بلعوماً يقيئ النفط لا أكثر.
ولا أهونَ عليَّ من القول إنَّ الحكومة وبأهمالها البحر كمورد سياحي، ومتنزه وحجبه عن العراقيين كان وراء السبب في ضياع خور عبد الله وقرية الصامتة وقطع من البر البصريّ، مع يقيني بأن 90 % من البصريين لم يروا بحر الفاو أبداً، لذا لم يسقم في ذاكرتهم، على العكس من كل بقاع العالم التي لها منفذ على البحر، وما تطاول إيران على شط العرب إلا لأنه لم يعد ممراً ملاحياً عراقياً، يصل المعقل والبصرة بالعالم، ولأن الحكومة العراقية تتعمد بعدم انتشال الغوارق منه، وتهمل كريه وتعميقه في فعل راسخ بالعمالة وتنفيذٍ لمصالح إيران في الحدود وهكذا، يعيش البصريون أزمة طرفاها دول الجوار التي تستثمر التردي والفساد العراقيين والحكومة التي تنفذ إرادة الدول تلك.
ولعلمنا بأن منفذنا على البحر ضيق (أقل من 60 كلم) إلا أن ذلك لا يمنع من امكانية توسعته، مثلما لا يمنع من اقتطاع مسافة( 5-10 كلم) وجعلها منفذاً سياحياً عراقياً، تنتفع الدولة منه، ويكون مقصداً وغاية للناس، في فعل من أفعال الضغط على الآخر المجاور وإشعاره بتعلق الناس به وحاجتهم اليه، وأن أمر وجوده في حياتهم هو وجود الضرورة والانتماء، وبما يعني وقوفهم موقف الدفاع عنه إذا تعرض للتطاول والعبث. كل ذلك لم نسمع به، ولم نر حكومة عراقية بحثت فيه.
يحدثني أحد سكنة مدينة الفاو، الذين طالت إقامتهم في الكويت، وعاد لها بعد العام 1991 وهو فنان وبحّار وحافظة تواريخ بانه اشتغل في تلفزيون الكويت زمناً، وعنه أخذوا الكثير من الانغام والمقامات والأشعار والحكايات البحرية... إلا أن أحداً من فناني البصرة لم يلتقه، ثم مات وماتت معه حكاية طويلة تمتد من الماء والنخل الى البحر فالصحراء، بمثل هذه وغيرها سوّغ لنفسه الفنان نبيل شعيل انتساب السندباد البصري الى الكويت.
يتحدث مدونون على الفيسبوك عن ازدهار زراعة نخل البرحي في استراليا وآخرون مثلهم تحدثوا عن البرحي وتجارته الرائجة في كاليفورنيا، وقبل ذلك عن وجوده في بساتين الخليج كلها، وهكذا تناهب القريب والبعيد البرحي البصري، لوغو المدينة، ولأنهم في العمالة، لذا نجد في الحكومة من تحدث عن أسباب انتشاره في العالم وضياعه في البصرة، موطنه الأمّ.
امنحوا العراقيين فسحة ينتمون فيها الى بحرهم، واغرسوا برحية في بيت كل منهم. نحن لا نقول شعراً هنا، إنما نتحدث عن وطن يضيع، وعن إمكانية شعرية في استرداده.