ومنارة من نحاس عليها راكب من نحاس بأرض عاد، فإذا كانت الأشهر الحُرم هطل منها الماء فشرب الناس، وسقوا وصبّوا في الحياض فإذا انقضت الأشهر الحُرم انقطع ذلك الماء"(ابن خُردَاذبَة، الممالك والمسالك). يُعبر هذا النص عن حاجة الطَّبيعة إلى استراحة كي تجدد نفسها. وترجم شعراً: «في الأشْهُرِ الحُرُم العَظِيمة حقّها/يُغْنُونَ عَن شُرْبِ الزُّعاق المالحِ»(القزويني، آثار البلاد وأخبار العباد) .
هذا ما أشعرنا به وباء «كورونا»، خلال الحجر العالمي، فالطبيعة تكاد تختنق، بما عليها، مِن شدة التَّلوث، والعبث بغاباتها وحقولها، وبكائناتها الجميلة، التي لم تعد تجد مكاناً يأويها، فالطيور تكاد لا تسمع بعضها بعضاً مِن شدة الضَّجيج، والإنسان اتخذ كلّ عنصر مِن أرجاء البسيطة لمنفعته، تلوث بالغازات وبالأصوات، واستنزاف باطن الأرض وظاهرها، والبشر في تزايد خطير.
هنا، تُطرح فكرة الأشهر الحُرم، التي جعلها العرب، قبل الإسلام، استراحة مِن القتال والكراهية، يتوقف خلالها الغزو والسرقة وكل أشكال الإيذاء، وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، فقالوا شهر مفرد وثلاثة سرد أو متتالية. «كانت العرب في هذه الأشهر تنزع الأسنة عن رماحها، وتقعد عن شن الغارات، وكان الخائف فيها يأمن أعدائه، حتى أن الرَّجل إذا لقى قاتل أبيه أو أخيه لا يعترض له»(القزويني، عجائب المخلوقات). فلا تُسمع قعقعة سلاح ولا صوت مستغيث.
سماها أبو حامد الغزالي (ت505هجرية) بالأشهر الفاضلة (إحياء علوم الدِّين)، حتى الصعاليك كانوا يتوقفون عن السَّلب والغارة والسَّرقة (الأصفهاني، كتاب الأغاني). يتم فيها تبادل الأسرى، وتفتح الأسواق، فمن العادة أن التِّجارة في العموم، بحاجة إلى سلام، فلا تُقام الأسواق تحت ظلال السّيوف، بل تحتها يشتد السلب والنَّهب، وينشط اللُّصوص، هذا في الحروب والأوبئة والكوارث. كذلك يؤجل حكم الاعدام، أو القتل صبراً، أو التَّنعيم مثلما كان يُسمَّى(ابن سعد، الطَّبقات الكبرى) .
خلال الأشهر الحُرم يخرج المعوزون يطلبون «السَّواقط»، الثَّمار التي تتساقط من الشَّجر عند المواسم، وأولها التَّمر (المُبرد، الكامل في اللغة والأدب)، ومِن تقليد الأشهر الحُرم أنها تخلو مِن ظلم الإنسان للإنسان، أي «ليس فيها ظلم»(ابن حزم، المُحلى). فكم يكون فظيعاً اختراق ذلك التقليد، الذي تفرضه الحياة كي تستمر، حتى سميت الحرب التي تنشب في الأشهر الحُرم الأربعة بـ «الفجار»(ابن عبد ربّه، العقد الفريد)، والاسم منحوت مِن الفجور.
وردت هذه الأشهر في القرآن، فكان النَّاس يعرفونها، بل وسميت الأشهر لحرمة القتال والأذى فيها، جاء في الآية: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ»(التَّوبة: 5). النص واضح ليس فيها قتال، لكن فقهاء «الناسخ والمنسوخ»، نسخوها بآية: «فاقتلوا المشركين»(البغدادي، النَّاسخ والمنسوخ)، وبذلك بطلت حرمة القتال في هذه الأشهر. انتقد القرآن النسيء، وهو تأجيل الشهر الحرام إلى شهر آخر «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ»(التَّوبة 37). أقول: مَن شكك بميمية زهير بن أبي سُلمى في تفضيل السّلم، على أن ما جاء فيها ليس مِن بنات أفكار ما عُرف بـ«الجاهلية»، يُرد عليه بتقليد «الأشهر الحُرم». «وقد قلتما: إن نُدِرِكَ السِّلمَ واسعاً/بمالٍ ومعروفٍ مِن القَوْل نَسلمُ»(الزَّوزني، شرح المعلقات السّبع) .
كانت الحاجة وراء الاتفاق على تخصيص أربعة أشهر، مِن أجل الزراعة وتوفير المعاش والمحافظة على الأرواح، نجد لهذا التقليد أهمية في الوقت الحاضر، ليس على مستوى الحروب بين البشر، بل لتكون بين الأرض وساكنيها، تخصيص زمن لراحة البيئة من العبث، زمن للتشجير، والاقتصاد باستخدام الماء، والكف عن الصيد، والتغلب على التلوث بالتقليل مِن استخدام المركبات بكثافة، والعمل على العناية بالأنهر، التقليل من الشراهة في استخدام الآلة، فهناك مَن لاحظ، خلال الحجر بسبب وباء كورونا، أن الحياة أصبحت أكثر هدوءاً، وسُحب التلوث تفرقت، والهواء أصبح أكثر نقاوة. ليكن زمن تستريح فيه الطبيعة، فمثلما فرضت الحياة قديماً تقليد «الأشْهُرِ الحُرُم»، نجد مِن دروس هذا الوباء الفظيع أن يكون للطبيعة مثلها، ولتكن أياماً أو شهوراً، في أي فصل مِن الفصول، يتفق عليها دولياً.