توغلتْ اغاني الخشابة بإيقاعها الخاص عميقًا في ذاكرالبصريين، وشكلت الدشداشة البيضاء مع اليشماغ الاحمر وخشبة سعد اليابس ورقصات الهيوة والليوة وانغام الحدادي والبحري والصفقة البصرية وهي تتصادى وتتردد وسط النخل، وعلى الانهار هوية للمدينة،
التي تنفتح على البحر ساعة تضيق السبل الى الصحراء، مثلما تنفتح على الرمل والاثل ساعة تنغلق بوابات البحر وتضيق الرؤى الزرق، وعبر اكثر من ثلاثين سنة أنجزت فرقة البصرة للفنون الشعبية أجمل الاغاني والرقصات، بما أسهم في منح البصريين ساعات من التأمل تارة والنسيان تارة أخرى، تأمل صناعة الجمال وامكانية الحياة فيه، ونسيان القبح واسباب البقاء فيه.
ومع الزمن الرديء، زمن الخذلان والحيرة في كل شيء، زمن استعباد الفن لصالح الطاغية وحروبه، ومن ثم زمن الحكم الديني، الذي أفاض في كراهيته للفن، ظلت فرقة البصرة للفنون الشعبية تناور، وتتعارك وتتصالح مع محيطها المريب ذاك، عبر مخاوف بالطرد والخروج من رحمة الدولة يومًا، بوصف أعضائها رافضين لأداة النظام السابق، أو متهمة بالمروق والمجون عند الحكومة اليوم، وقد أكد احد وزراء مالية الحكم الديني الحالي، بانه ربما سيطول وقوفه بين يدي ربه، مُساءَلًا عن احقية صرف رواتب اعضائها من الطبالين والراقصين والمغنين، وسط هذه وتلك واهمال متعمد من الجميع ظلت الفرقة تكابد وتحاول.
ربما أسوق الوصف هذا تبريرًا لما تعاني الفرقة منه اليوم، من قلة في الموارد المالية وعدم وجود مسرح وقاعات عرض مناسبة، وغلق الباب بوجه تعيين الكوادر الشابة وندرة في العنصر النسوي، وبقاء الفرقة على آلاتها القديمة، دونما تحديث فيها، وهناك جملة أسباب تعرقل عملها ليس آخرها ندرة كتاب الاغنية الشعبية –الفولكولورية وموت او تقاعد مصممي الرقصات، وبقاء اعمال الديكور دونما تطوير او اقتصارها على ما متوافر لديهم، فضلًا عن انحراف في الذوق الشعبي لصالح الفنون الاخرى -إن وجدت- كذلك تمكن الانشاد الديني- التعبوي- الوطني بما فيه من رثاثة وسطحية وتشدد من الهيمنة على المزاج العام، بفعل قدرته على محاكاة المشاعر التي تدنت تباعًا بسبب الحروب والازمات وعجزها عن فهم ما يتوجب على الفن من فعل وصيرورة.
ربما كان ما قُدِّم ما إغاني لفرقة الفنون الشعبية البصرة على إحدى القنوات العراقية حافزًا لكتابة المادة هذه، حيث تداككت الاسباب في عدم تحقيق الغاية المرجوة من السهرة، والتي منها ان لا جديد في الالحان والاغاني، كما أن رداءة الصوت (الحفل قدم على الهواء الطلق) لم يمنحنا فرصة التذوق، كذلك كان الاقتصار على عدد محدود من الفنانين، إذا ما تذكرنا أن فن الخشابة يعتمد بالدرجة الاساس على مشاركة جمهور المنشدين (الكورس) في ترديد الكوبليه والتصفيق، وهكذا، أخفقت الفرقة في تحقيق الحد المرجو في السماع والانسجام والطرب. أما إذا اردنا الخوض في تفاصيل انقاذها مما هي فيه، فنقول: بان تشكيل هيئة مستشارين من شعراء وموسيقيين ومخرجين ومصممي رقصات ورواة حكايات شعبيين ومختصين بالفنون الشعبية، مممن درسوا الفن هذا وبرعوا فيه، مع تأمين التخصيصات المالية والادارية اللازمة وفسحة في حرية التنقل والاداء... وهناك جملة آراء أخرى، ستكون قمينة بعودة الفرقة الى عصرها الذهبي.