سيدخل العِراق عامه الثامن عشر، بعد سقوط النظام السابق، ومعلوم أن هذا العُمر يتحمل فيه الإنسان المسؤولية، فمعظم المذاهب الفقهية والقوانين المدنية جعلته سنًا مثاليًا للزواج، ومعظم الأحزاب لا تمنح عضويتها إلا بعد بلوغه. كذلك ليس خطأً أن تلك الفترة تكفي لبناء وإعمار الدُّول، فالدولة العراقية بعد العثمانيين نضجت خلال عشرة أعوام، خرجت من الانتداب، وصارت اسمًا مهيبًا، تحكمت باقتصادها، وانطلقت فيها المدنية، بينما أسرع الخراب لدولة بعد 2003.
ذهب "إخوان الصفا"، قبل ابن خلدون (808هجرية)، بخمسمائة عام إلى "أن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، وغاية إليها ترتقي، وحدٌ إليه تنتهي. فإذا بلغت أقصى غاياتها ومدى نهاياتها، تسارع إلى الانحطاط والنّقصان، رويداً رويداً في أهل الشّؤم والخذلان" (المصدر نفسه)، وهل نجد مثالاً على تحقق الفكرة أوضح مِن الدولة بعد 2003، ثروة هائلة وميزانية خاوية، عندما أخذت أملاك الدَّولة تباع بأموالها لأهل الخذلان. لمَ لا وجامعة بمساحتها الشَّاسعة وبناياتها، بيعت بأموال محافظة بغداد لصاحب عمامة دعوية. قد لا تعني هذه الجامعة شيئاً مع مؤسسات كبرى نُهبت نهباً!
جاء مصطفى الكاظمي على واقع دولة تحكم فيها أهل الشؤم والخذلان، الِّدماء مستباحة والثّروات منهوبة. تحولت إلى بستان لغير العراقيين، وهنا نعني الولاء عراقيا لا الجنسية. فقديماً توهم مَن توهم أن العراق مجرد بستان، فبرز مَن ردَّ عليه: "قد أتاكم يزعم أن هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش والسواد مساقط رؤوسكم ومراكز رماحكم" (البلاذري، فتوح البلدان).
نعم، 17 عاماً مِن الشَّر أُبيحت خلالها الدولة تحت مبرر "المال الذي لا مالك له"، وتحت مبرر أن الدَّولة، التي كانت يُحاربها الإسلاميون، أنها دولة شرّ وشعبها، لا تكون إلا بستانًا (للمؤمنين). فتلك حقيقة غائصة في أعماق الأحزاب الإسلامية. لذا صار لكلِّ حزب دولته وجيشه ومكتبه الاقتصادي. لا يحبون وطنا اسمه العِراق، فمشروعهم على امتداد ولائهم العقائدي لا الجغرافي.
هذا ما أراد قوله الكاظمي، وهو الآن يواجه ناهبي البستان، وموجهة عليه حِراب المدافعين عن نظام أجنبي، بعذر الولاء. يعرف أنه قد لا يقدر على ستر الفضحية الكبرى بخراب الدولة، لكنه وافق بما يشبه المحاولة، فإذا كان حيدر العبادي استلم ثلاثة مليارات، وثلث العراق بيد داعش، فها هو الكاظمي يستلمه خزينة خاوية مع دماء سبعمائة مِن حُماة البستان، وأربعة أرباع العراق بيد ميليشيات عنواها "المقاومة" و"الممانعة".
ورد في مقال الكاظمي (المدى 18/5/2020): "ينبغي ألا يغيب عنا جميعاً، أننا نجد أنفسنا بعد سبعة عشر عاماً، في وضعٍ لا نُحسد عليه، فسيادتنا استمرت منقوصة أو منتهكة أو معرضة للشكوك، وأراضي بلادنا يراد أن تصبح ميداناً لصراع الآخرين، وأمن مواطنينا مهدد، لا من استمرار داعش وخلاياها النائمة، بل وأيضاً من السلاح المنفلت خارج إطار الدولة... ورغم أن الثروة التي دخلت خزائن العراق على مدار السنوات الـ 17 الماضية، كانت تكفي لإعادة بناء البلاد وتأسيس صندوق المستقبل، فإن الفساد قد استنزفها، وهُرّب بعضها علناً إلى خارج البلاد، ولم أجد وأنا أستلم المسؤولية إلّا خزينة شبه خاوية".
ليس لدى الكاظمي حزبٌ أو حشدٌ، وليس هو مدين لنظام بالولاء؟ ولا متورط بما يجعله ينظر إلى العراق عدواً. فإذا كان الآخرون لديهم أحزاب وميليشيات، فالكاظمي، حسب ما صرح به، لا حزب يدعمه، ولا كتلة نيابية تحميه، حمله المتظاهرون إلى هذا المركز بإصرارهم، ودماء المئات مِن زملائهم، وتحملهم للخطف والتَّنكيل، القصد هم الذين فرضوا التغيير إلى خارج الإسلاميين. فليكن هؤلاء حزبك يا كاظمي.
انظروا إلى نصيحة جحدر العكلي (الدولة الأموية)، وهو يعد مِن اللصوص الفُتاك: "إذا شئت أن تقتاس قبيلةٍ/وأَخطارها فانظر إلى مَن يروسها" (طريفي، ديوان اللصوص). إذا صلحت رئاسة الوزراء، سيعلن العراقيون الحرب معها، ضد مَن لا يرى العراق غير بستان لحزبه وانتمائه إلى خارج الحدود! لأن جوهر الخراب أن العراق مازال بستاناً لغير أهله.