يثير الدهشة اختلاف الباحثين المختصين بالشؤون الدولية، في توقع ما ستحدثه جائحة «كوفيد- 19» في العالم، «ستيفن وولت» أستاذ العلاقات الدولية في «جامعة هارفرد»، يعتقدُ أن «العالم سيصبح أقل انفتاحاً، وأقل رفاهية، وأقل حرية»،
ويتوقع أن تعزز الجائحة سلطة الدول، وأن مختلف الحكومات «سوف تتبنى إجراءات طوارئ لمواجهة الأزمات، وسيأنف كثير منها التخلي عن هذه الإجراءات الجديدة بعد زوال الأزمة». ويذكر «وولت»، أن الجائحة تضطر الآن الحكومات والشركات والمجتمعات، إلى تعزيز قدراتها لمواجهة فترات طويلة من العزلة الاقتصادية الذاتية، «وستُسّرع الجائحةُ تحول القوة والتأثير من الغرب إلى الشرق، ويكشف بطء وارتباك استجابة أوروبا وأميركا صورة الغرب».
"هل انتصرت الصين؟"، كتاب الباحث الأكاديمي السنغافوري «كيشور ماهبوباني»، وفيه يذكر أن جائحة «كوفيد-19» لن تغير بشكل أساس الاتجاهات الاقتصادية العالمية، بل ستُسرِّع فحسب التغير الذي بدأ فعلاً، وهو الابتعاد عن العولمة الأميركية المركز إلى عولمة أكثر تمركزاً حول الصين، وفقد الأميركيون في هذا المنعطف التاريخي إيمانهم بالعولمة حتى قبل تولي ترامب الرئاسة، فيما أقبلت الصين على العولمة في الوقت والموقع الملائمين تاريخياً، عقب عقدين من انبعاث اقتصادي مرتبط بالعولمة.
ومقابل هذا التشاؤم «نرى في كل بلد قوة الروح البشرية»، قال ذلك «نيكولاس بيرنز» الأستاذ في معهد كنيدي بجامعة هارفرد، ويذكر بيرنز أن جائحة كوفيد- 19 تهدّد كل شخص من نحو 8 مليارات إنسان يعيشون في العالم، ويفوق تأثيرها الأزمة المالية التي أعقبت «الركود العظيم» مطلع القرن الماضي، وقد تُسّبب صدمة زلزالية تحدث تغيرات دائمة في النظام العالمي، وتوازن القوى، وهذا في تقديره يمنح الأمل في أن تتغلب ردود أفعال الرجال والنساء حول العالم على هذا التحدي غير المسبوق.
وسرعان ما تحققت توقعاتُ الباحث «عندما هرب أغنياء نيويورك، وحافظ العاملون على استمرار الحياة فيها»، وهو عنوان تقرير «نيويورك تايمز»، الذي رصد كيف واصل سكان حي «برونكس» العمال عملهم، بينما لزم أهل نيويورك منازلهم، وأول من خرج للعمل هم العاملون في الرعاية الصحية، وعمال البناء، وأعقبهم سائقو شاحنات تجهيزات السلع المنزلية، وبوابو العمارات، وأصول معظم هؤلاء أفريقية وإسبانية، وقد قال عنهم «روبن دياز»، رئيس الحي: "هؤلاء مُجّندون وضعناهم في الخطوط الأمامية دون ذخيرة، ولا معدات لقتال العدو" .
ورأيتُ ذلك بنفسي مع ممرضات قسم طوارئ مستشفى «كنغستن» جنوب لندن، كان قلق أهل منزلي على وضعي الصحي بسبب نوبة سعال، قد دعاهم إلى استدعاء طبيب الطوارئ، الذي أمر بنقلي إلى المستشفى، ليس قلقاً على وضعي الصحي، بل على أهلي القلقين، وهناك كان عليّ طمأنة الممرضات أني بأحسن حال، وخجلتُ من رعايتهن الشديدة، ومعظمهن نساء ملونات يحتجن الرعاية أكثر مني، في ظروف عملهن السيئة الناجمة عن إهمال حكومات بريطانيا المتعاقبة خدمات الرعاية الصحية العامة، وحزنتُ لظروف عملهن الخطرة ساعات، وهن ملفعات بأردية طبية، وأقنعة، وقفازات، وبذلتُ جهدي لطمأنتهن أنني بأحسن حال، وسألتهن فحصي للتأكد من ذلك، وأجرين الفحص الخاص بالإصابة بفيروس كوفيد-19، وأخبرنني بأن النتيجة ستكون جاهزة بعد ثلاثة أيام، واتصلت الممرضة هاتفياً مبتهجةً بإبلاغي نبأ سلامتي، وابتهجتُ مرتين، لها ولنفسي.
وعندما تنطلق قوة الروح البشرية لملايين الناس في شوارع عواصم العالم، تنشأ جائحة كبرى يستحيل توقع مسارها، ومَن توقع ما يطلقه مقتل الأفريقي الأميركي «جورج فلويد»، ليس في مينيابوليس، حيث قُتل، بل أينما يُقتل سود وملونون وعرب أيضاً، يزداد ذكرهم في التقارير العالمية! واليوم يعادل عدد ضحايا الجائحة السود والملونين في بريطانيا أربعة أضعاف السكان الآخرين، حسب الإحصائيات الرسمية، والتظاهرات في عواصم الغرب، بداية جائحة تطيح بقايا إمبراطوريات تواصل حتى اللحظة قتل وتهجير ملايين الناس في أفغانستان، والعراق، وسوريا، وليبيا، والجزائر، وفلسطين.