ما زالت سِنجار الموصلية، مدينة عراقية، وأقول ما زالت، فلا ندري متى يستعيد أردوغان إرثه العثماني الذي أخذ يكثر من التذكير به، والكلام لأردوغان:
«تركيا أكبر مِن تركيا الحاليّة، لذلك لا يمكن أن نكون محاصرين في 780 ألف كيلومتر مربع. لأن حدودنا الجسدية والقلبية مختلفة، قد يكون إخواننا بالموصل وكركوك والحسكة وحلب وحمص ومصراتة وسكوبي والقرم وقفقاسيا جميعها قد تكون خارج حدودنا الفعلية، لكنهم ضمن حدودنا العاطفية. سنتصدى لأولئك الذين يحاولون تحديد تاريخ تركيا وأمتنا بتسعين عاماً. سنتخذ كلّ التدابير، ونُعيد النَّظر في الكتب المدرسية» (المرصد، يوتيوب).
ترجم أردوغان قبل أيام خطابه بقصف سنجار، وقصف 14 حزيران 2020 ليس الأول ولا الأخير، وهي تعيش مأساة داعش، وهتك أعراض شعبها مِن الإيزيديين، قصفها أردوغان بحلم الخلافة، مع أنه إذا أراد الحديث بمنطق التاريخ ليس له غير جبال القفقاس، فمن هناك بدأت رحلة الأجداد، وأزالوا شعوباً بالمنطقة، وفضيحة قتل الأرمن وبقية المسيحيين (1914-1915) وسياسة التتريك تلاحق أحفادهم.
اشتهرت سنجار طريقاً بين العراق والشَّام، ولم تخل التواريخ مِن اسم جبلها، ولا معاجم الرِّجال مِن النسبة إليها «السِّنجاري». عُرفت في الأدب بـ«المَقَامَة السِّنّجاريَّة» التي كتبها القاسم بن عليٍّ الحريري (ت516 هجرية)، درس ومات ببغداد (ابن خِلكان، وفيات الأعيان). كان الحريري، على ما يبدو، قد مرَّ بها: «قفلتُ ذات مرةٍ مِن الشَّام، أنحو مدينة السَّلام، في ركبٍ مِن بني نُمير، ورفقةِ أُلي خيرٍ ومير (الطَّعام)... فصادف نزولنا سِنجار» (مقامات الحريري) .
أما حديثاً فاشتهرت باجتياح «داعش» وسبي سُكانها الأصلاء، بمباركة الجوار، ومَن اعتقد أنه بإدخال «داعش»، وسحب الجيش، سيعلن الطوارئ ويُعمر في رئاسة الوزراء، فتنظيم «داعش» دخل سنجار مِن الحدود الشِّمالية ومِن داخل سجون بغداد، حتى صار «داعش» بعبعاً يُهدد به، مِن شمال العراق وشرقه. يفاخر أردوغان بأُمته، ولأنه «إخواني» العقيدة، فلا يقف عند الحدود التركية، مصراته الليبية ظهرت «تركية»!، والموصل كركوك مآلهما تُلحقان بتركيا!
بأي تاريخ يُفاخرنا أردوغان، ويجعل عثمانيته أشرف الإمبراطوريات! أيفاخر بأهرامات الجماجم، بعد غزو البصرة، ومنها هرم عظيم شُيد بألف جمجمة إنسان (1701)، وظل ظاهراً لأربعين عاماً (لونكريك، أربعة قرون مِن تاريخ العراق)، ومع ذلك يذهب سفير أردوغان إلى الأهوار ليقنع أهلها أن سدود بلاده العملاقة ليست سبباً في عطشها! أقول: بماذا يُفاخر أردوغان؟ أ بأداة «الخازوق»، التي قُتل وعُذب بها الآلاف؟! أم بقتل السلاطين لأبنائهم وأشقائهم؟ يصاحب هذا الخطاب المسلسلات التي تُقدم العثمانية على أنها المثالية. كأن الذين يُفاخر بهم لم يتركوا العراق أرضاً جرداء، جعلوا فيها المدرسة المستنصرية (افتتحت631هجرية) ببغداد محطة لحمير الكمارك، وأهدوا آثار العراق برشاوٍ فاضحة للولاة العثمانيين.
لم يكتف أردوغان بالتسعين عاماً، مِن تاريخ بلاده، إنما يريد تاريخاً بعمق أول غزوة قام بها آل عثمان، قبل كذبة تسليم الخلافة لسليم الأول مِن العباسيين عند احتلال مصر (1517). وما قصف سنجار إلا ترجمة لقوله: «يجب أن تتخذ كلّ التدابير لنجمع أمتنا مع ثقافتها وحاضرتها وتاريخها»، هذه هي مقامة «أردوغان السّنجارية الجديدة»، مفاخر ومقاتل، و«الإخوان» يرفعون له شارة النصر! يجتمعون تحت جناحه، بما ارتكبوه مِن جنايات عنف ببلدانهم.
إنها غزوات بلا حدود، لإعادة نظام «السَّفر برلك»، وها هي الميليشيات قد تأسست، وفق إنكشارية جديدة. نعم، كان تدمير العراق لقرونٍ مناصفة بين صفويين وعثمانيين، والمناصفة تعود ولكن برؤية مستحدثة، بين شطري الإسلام السِّياسي، وكلٌّ له ميليشياته. يقول أمرؤ القيس (565ميلادية): «وقد طوفت في الآفاق حتى/رضيت مِن الغنيمة بالإياب» (الميداني، مجمع الأمثال). أقول: ليتواضع أردوغان، فقد لا يحصل حتى على الإياب، فإعادة الحرس العثماني لا يعني أنه إمبراطور، وإن ناداه تنظيم «الإخوان» بسلطان المسلمين لا يعني أنه سلطان. أعود إلى الحريري ومقامته «السِّنَجارية» وفيها يأخذه الضّيق مِن جار: «لسانه يتقرّب وقلبه عقرب، ولفظه شهدٌ ينقع، وخبؤوه سَمٌّ منقعٌ...»، فمِن سوء حظ العراق أن جواره الأكبر إسلام سياسي، يحثو عليه مِن الضفتين المصائبَ تلو المصائبَ.