حصرت مفردة الثَّورة بين قوسين، فلستُ باحثاً في الفروق بين مصطلحات: الثَّورة والانتفاضة والانقلاب والتّمرد، وقد بُذل جهدٌ في النقاش فيها. وهل "ثورة العشرين" ثورة شعب عراقي أم تمرد عشائر بمساندة رجال الدِّين؟! هل كانت ثورة عراقية أم خاصة بمذهب معين؟! هل أهل العراق كافة كانوا ضد البريطانيين، أم هناك عشائر ورجال دين كانوا معهم؟! هل كان الدافع الحصول على الاستقلال، أم مصالح ضيقة قادت إلى تبني هذا الموقف.
لعلَّ هذه الأسئلة ما كانت تُطرح بصراحة تجاه ما حصل في الثَّلاثين مِن حزيران (يونيو) 1920، فعندما كنا نقرأ عنها، في مثل هذا اليوم في الصحف العراقية نتخيلها بداية بناء العراق وازدهاره، واضعين لها أكاليل الانتصار والتمجيد، وعلى وجه الخصوص الطرب للأهازيج، التي ملأت المؤلفات الكثيرة عن الثَّورة؟ فلربَّما ليس هناك حدث عراقي صنفت فيه الكتب ونشرت عنه البحوث والمقالات كثورة العشرين، لم تبق كبيرة ولا صغيرة لم ينلها الدارسون، ولم يبق المشتركون فيها، والشهود الذين وقفوا على التَّل خلال الحدث، زاوية أو اسماً لم يكتشفوه، مِن خلال المقابلات واللقاءات معهم.
أكثر مِن هذا، توسع الخيال، ليصبح كل رئيس قبيلة أو عشيرة، كتب ذووه صلةً له بهذه الثورة وبطولاتها، مع أنه لم يكن له اسم ولا فعل فيها، ومَن قادته عجرفة الضباط البريطانيين إلى تبني الوقوف مع الثَّورة، فضامن أمن الطريق للبريطانيين صار أحد أعلام الثَّورة، وأن ابن مرجع له غاية داخل إيران صار ثورياً، كل هذا كتبه مَن أرخوا لهذا الحدث. نقول ذلك مِن دون التقليل مِن أهمية الحدث في وقته، ومِن بطولات عراقيين كانوا بالفعل يفكرون بعراق جديد، تجاوزوا، في الإعداد للحدث، النعرات الدينية والطائفية، التي تركها العثمانيون وخلفاء الصفويين والقاجاريين.
عندما يُكتب عن حدث ما بعد مائة عام، لابد من النَّظر بما حصل خلال هذا القرن مِن حوادث جسام، أعادت العراق مؤخراً، إلى ما يسمى في السياسة بـ"المربع الأول"، وكأن الزَّمن ظل يراوح مكانه لم يتحرك. أما مَن كتب عن ثورة العشرين بأنها انتفاضة مذهب، وبقية العراقيين كانوا مستسلمين، فهذا لم يتحرك مِن إطار ذلك المربع، ويبحث في بناء المذهب لا بناء الوطن، ويحمل السياسة التي جاءت إثر هذا الحدث بأنها خلق الطائفية، مِن دون فحص على ما كان عليه العراق أيام العثمانيين، ولم يأخذ فتاوى رجال الدين ومنعهم لأتباعهم من الاشتراك في الانتخابات، وبالتالي الاشتراك في الوظيفة الحكومية.
بعد قرن مِن الزَّمان عاد العراق وانقسم بين مقاوم للأجنبي، لكن هذه المرة الأمريكان، ومتفق معه، عاد رجال الدين يفتون ضد الدستور والمناصب الحكومية، لكن هذه المرة فقهاء المذهب الآخر، الحدث واحد فقط اختلفت مواقع الشخوص والعناوين.
لعل مِن الكتب الرصينة التي أرّخت لهذا الحدث هو كتاب الأكاديمي عبد الله الفياض (ت 1983)، أستاذ التاريخ الإسلامي في كلية الآداب- جامعة بغداد "الثَّورة العراقية الكبرى"(مطبعة دار السَّلام 1975)، ولا نغفل الرواية الحيَّة التي قدمها محمد مهدي البصير (ت 1974)، في كتابه "القضية العراقية". أما مَن تجرأ وأعطى رأياً مخالفاً للجمهور العريض من الكُتاب الممجدين والمجاملين فهو أستاذ علم الاجتماع علي الوردي (ت1995) ضمن "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق"، فعلي الوردي مِن خلال مقولاته شكك بوجود فتوى صريحة بإعلان الثورة، والذي أشار للذين اجتمعوا مع المرجع حينها محمد تقي الشيرازي (ت1920) هو نجله، لأن المرجع كان يهمه التكافؤ بين سلاح العشائر ورجالهم وسلاح الإنكليز وعساكرهم، ومعلوم ان يعتبر أبناء المراجع حُجاب لآبائهم.
على أية حال، لم يكن توقيت الحرب على الإنكليز مناسباً، لا مِن حيث عدم التكافؤ ولا مِن حيث الاستعداد لبناء دولة بلا حاضنة خارجية، فالعثمانيون لم يتركوا داخل العراق غير الجهل والخراب، وهم لم تربطهم بالعراقيين غير الرابطة الدينية، وقد استغلوها بشكل فظيع، كامتداد للخلافة الإسلامية، وكانوا يمنحون شيخ القبيلة السلطة المطلقة على منطقته، طالما يدفع الخراج لهم، ويُجند أعضاء قبيلته متى ما احتاج إلى ذلك الجيش العثماني. وليس أقسى مِن حملات "السفربرلك" أي النفير العام، بالحرب مع دولة أو لحرب داخلية. فهل كان الثَّوار، أعني ثوار العشرين، قد ثاروا بدافع العاطفة للعثمانيين والكره للإنكليز، لأنهم أخذوا يبسطون نفوذهم بإزاحة شيوخ القبائل عن مسؤولياتهم المطلقة، ويضعفوا دور رجل الدين؟! على اعتبار أنهم مع بناء دولة مدنية.
كان العراق بحاجة إلى دعم خارجي لبناء دولة حديثة، هذا يُقال في حالة التجرد مِن العواطف، فالثورة ليست دائماً إسقاط عروش أو إخراج محتل، الثورة هي أيضاً، كم تستفيد مِن المحتل لبناء بلدك. نقول هذا، مثلما تقدم، بعد مرور العراق بالنكسات الكبرى خلال المائة عام الماضية. فهل الدولة العراقية، في العهد الملكي، استطاعت بناء المدن وتأسيس البنية التحتية، المفقودة في العهد العثماني تماماً، مِن دون التعامل مع البريطانيين؟! يُنفى هذا بسهولة إذا كان الخطاب تعسفياً، وليس بحثاً دقيقاً في طفرة العراق خلال الثلاثين عاماً (1921-1958)، من دون أي تستر على سلبيات ذلك النظام، وطموحات البريطانيين.
بعد مائة عام، مِن ثورة العشرين، يسحبنا الحديث عمّا حصل بعد 2003، كيف استفادت المعارضة السابقة مِن إسقاط النظام السابق، وحلت محله في السلطة، وكان رأي بعض وجهائها أن نطلب مِن الأمريكان الخروج من العراق، مع الاستفادة مِن وجودهم لإعادة بناء الدَّولة. وانطلقت المقاومة وكلفت ما كلفته من الدماء. لكنْ هل فكر أحد أن التعامل في المعارضة مع الأمريكان سيمتد بشكل آلي إلى التعامل مع السلطة، فلا أمريكا ولا بريطانيا جمعيات خيرية، ولا هما بهذه النقاوة أن يسقطوا لك النظام، ليُسلم إلى بلد آخر؟!
هذا ما حصل قبل مائة عام، أن رجالاً تعاملوا مع الإنكليز، ولكن بعد أن اهتزت تلك المعاملة ثاروا عليهم، مع أن بريطانيا كما هي أمريكا 2003 شقت المجتمع إلى مؤيد ومخالف، والمصالح هي اللاعب الأول والأخير. انظروا في خطابات ووجوه العدد الأكبر من السياسيين، داخل البرلمان وخارجه، هل تجدون منهم حريصاً على بناء العراق كحرص "المس بيل" مثلاً؟! الإجابة بنعم، تفسر الكثير من دهشتنا وحيرتنا على رأس المائة عام، ويغلب على الظن كانت مختلفة كلياً عن بول بريمر، الذي عمل على تأسيس الفساد بتوزيع الملايين من المال العراقي ليعمي به مَن تولوا الحكم، حتى اندفعوا إلى تسليم نموذج سيف ذي الفقار لوزير الدفاع الأمريكي.
عموماً، مِن إيجابيات التحرك ضد المحتل قُبيل إشعال الثورة من قِبل عشائر الرميثة، أن حصل تقارب لم يكن يألفه العراقيون بشكل واضح في العهد العثماني، ما بين الطوائف والأديان، فالاحتفال صار متبادلاً بين عاشوراء والمنقبة النبوية، والوفود تتبادل بين أهل الأديان. مِن جانب آخر أعطت بريطانيا الفرصة للدولة العراقية ممثلة بالملك فيصل الأول (ت1933) أن تشرع بالبناء، وإلغاء الانتداب (1932) والخلاص من المستشارين البريطانيين المباشرين على الوزارات، والبناء الاقتصادي والمالي والذي أسس له بحكمة أول وزير مالية ساسون حسقيل(ت1932)، وفتحت كوة للعمل الفكري والسياسي الجديد بالعراق، ومن رأيي، وربَّما رأي آخرين، أن وجود الملك فيصل الأول كان يعطي الأمل بقفزات نهضوية، ولكن وفاته مبكراً انعكست سلباً على الحياة السياسية.
كيف الزَّمن يدور، بعد مائة عام، لم يجد ساسة العراق اليوم غير تاريخ (1932) ليكون عيداً وطنياً، لم تكن هناك معارضة حادة لاختياره، بعد الاختلاف على بقية المناسبات الوطنية، وهذا ليس من ثمرات ثورة العشرين، ولا مِن ثمرات الحركة الوطنية العراقية، فآنذاك لم يكن لهذه الحركة مِن فعل، إنما من ثمرات أن الدولة العراقية، خلال عقد مِن الزمان، استطاعت أن تقف على أقدامها.
ألم نجدها مفارقة بين الأزمنة، أن يُستجار بالأمريكان ضد الإنكليز، قُبيل وبعد ثورة العشرين، ثم تمضي العقود وتصبح أمريكا وبريطانيا قُبلة للمعارضة العراقية. قد ينسى النَّاس لكن مَن يجهل قصيدة محمد باقر الشبيبي (ت1960)، في تكريم المبعوث الأمريكي المستر كراين، ومنها البيت المشهور: "المستشار هو الذي شرب الطلا/فعلام يا هذا الوزير تعربدُ"، الذي وصل العراق بعد حين مِن وصول رسائل الاستنجاد مِن قبل كبار رجال الدين بالرئيس الأمريكي وودرو ولسون (ت1924)، الذي أعلن مبادئ حق تقرير المصير، قبل الاستقواء الأميركي، وتقادم الزَّمن على الثَّورة الأميركية (1765-1783)، ونسيان لوعة الاحتلال البريطاني، عندها تقدمت الزَّعامات الشيعية طالبة العون ضد البريطانيين. ففي (13/2/1919) كتب المرجعان محمد تقي الشِّيرازي (ت1920)، وفتح الله الأصفهاني (ت1920) رسالة إلى ولسون: «ابتهجت الشُّعوب جميعها بالغاية المقصودة مِن الاشتراك في هذه الحروب الأوروبية، مِن منح الأمم المظلومة حقوقها، وإفساح المجال لاستمتاعها بالاستقلال حسب الشُّروط المذاعة عندكم، وبما إنكم كنتم صاحب المبدأ في هذا المشروع، مشروع السعادة والسَّلام العام، فلا بد أن تكونوا الملجأ في رفع الموانع عنه»(الوردي، لمحات اجتماعية).
بعد مائة عام، على ثورة العشرين، عاد التاريخ على العراق، ولكن هذه المرة بكوميديا فجة، طبعاً وفي زمن أمريكي آخر، زمن الانقضاض. يقول أبو تمام حبيب بن أوس (ت231هـ): "عَلى أَنَّها الأَيّامُ قَد صِرنَ كُلَّها/ عَجائِبَ حَتّى لَيسَ فيها عَجائِبُ"، وهل هنك أعجب مِن عودة الزَّمن إلى الوراء، ببلاد لا ينقصها غير التحكم بالزمن نفسه لصالح انطلاقها، مع أنه المنطلق إلى الأمام دائماً.