على الرغم من تعدد تعريفات الثقافة وتنوع طرائق البحث فيها؛ فإن الموصوف بها ما زال إشكالي التحديد من ناحيتي المفهوم والممارسة؛ وهل يشترط في المثقف أن يكون ذا صفات مقننة بمعايير متفق عليها أو أن لا اشتراطات لمن يوصف بالثقافة أو من يوصف بأنه مثقف؟
وإذا كانت الثقافة بهذه اللاتعريفية وكان المثقفون بلا اشتراطات تحديدية للتوصيف، فلماذا إذن تتغاير الثقافة متوزعة بين مركز وهامش ويتنوع المثقفون ما بين نخبوية وشعبوية؟ وما الوظيفة التي إذا أداءها أحدهم حق للآخرين أن يصفوه بالثقافة أم أن المثقف هو الذي يسمِ نفسه بالثقافة مدللاً الآخرين على صفته الثقافية؟ ومتى يمكن للثقافة أن تكون مؤثرة وفاعلة بلا قطبية ولا أحادية ممررة نفسها بين المثقفين وغير المثقفين بلا جواز أو استئذان ؟
ليس من جواب شاف على أي واحد من هذه الاسئلة لسبب بسيط أن الثقافة هي الانفتاح حين يكون الانغلاق سائداً وهي الاستمكان حين يكون التضييق واقعاً وهي التعارض والاقتتال حين يكون التوافق والتهادن مخيبا للامال وهي المثال والمثالية حين تطغى خشونة الواقع والواقعية بلا نماذج ثقافية..وقس على ذلك صعد الحياة كلها على اختلاف مستوياتها وتفاوت تمسرباتها.
فبالتضادية المرنة تتغاير مسارات الثقافة وتتنوع حججها فتتداعى أسئلتها من دون اكتراث لمديات الإجابة عنها، وتكثر ردودها بلا رهانات او اشتراطات.
ومثلما الثقافة أوسع من التعريف وأعمق من أي برهان يغدو توصيف المثقف نابعاً من هذه السعة ومتجها صوب هذا العمق. ومن ثم لا غرابة أن نجد المثقف حاملاً سمات الثقافة نفسها تضاديا ومرنا وبلا حدية ولا قطعية وبانفتاحية لا تتطابق معها أية توصيفات أو توسيمات. ولولا هذه الديالكتيكية لوجدنا المثقف مستمكناً/ منعزلاً في برج عاجي يتدرع بالمثاليات ويحلم بيوتوبيا وردية سادراً في النظر إلى العوالي غير دار بما حوله ولا عارف بما يغلي تحته.
وقلما نجد مثقفاً متقوقعاً في عزلته الطوباوية فهذه وسيلة الضعفاء والمنهزمين والمدحورين، والمثقف إذ يوصف بالضعف والانهزام والاندحار تنتفي عنه صفة الثقافة ولبوسها لن تلائم حجمه لأنه ما أن يرتديها حتى يبدو كالمهرج يتخيل نفسه مثقفاً وهو بلا ثقافة.
هذا الترهين التوصيفي لمفهوم الثقافة وحال المثقف هو في الحقيقة ارتهان منطقي، فيه الوصف على شاكلة الموصوف والنعت منطبق على المنعوت حالاً ومآلاً. وإذا أردنا أن نطبق هذه الارتهانية المنطقية على واقعنا الراهن، فكم سيكون عدد الذين يحق لنا أن نصفهم بأنهم مثقفون؟
ولا غرو أن الاجابة عن هذا السؤال ليست بالصعبة، إذا ما وضعنا في بالنا التضادية المرنة أعلاه حيث الثقافة التي بها يغدو المثقف مثاليا هي نفسها التي بها يسعى نحو الواقع منغمساً في تحدياته.
ولقد عرف تودوروف الثقافة أنها التهذيب الذي هو تعلم العيش مع الآخرين وعدها خطوة أولى نحو الحضارة التي تقوم على الاعتراف بتعددية المجموعات والمجتمعات والثقافات الإنسانية والوقوف على قدم المساواة مع الآخرين واجداً كلمة ثقافة ترادف كلمة حضارة وهي صلة الوصل بين أعضاء الجماعة.. وبدون الثقافة لا يكون الإنسان تنويرياً ويصبح الحكم الثقافي أمام خيارين أما الدوغماطية أو العدمية.
ولا يميز تودوروف بين ثقافة نخبوية وأخرى شعبية، بل هما عنده سواء لا تناقض بينهما كونهما ليستا مفصولتين بحائط، كما أن كل واحدة منهما هي غالباً ما تكون الرسم المنجز أو الشكل المعقد أو الصيغة السامية للأخرى. ويرى جان ماري بيساز الثقافة علما وهي عنده(علم آثار يأخذ بعين الاعتبار أولا المظاهر المادية للحضارات وعليها يبنى تعريف الثقافات) ومن الطبيعي أن تفضي أية فاعلية ثقافية إلى الايمان بالتعدد في الألسن والهويات والأعراق والألوان والأجناس حتى يغدو كل فرد شخصاً متعدد الثقافات تلتقي في داخله هويته الفردية بالهويات الجماعية المتعددة.
والثقافة خيار لا إجبار وداخلها منفتح على خارجها مولدة التعددية كاندماج معيشي وانتماء هوياتي وتعدد نظامي وتحرر مجتمعي. ولا دليل على تحضر الدول والمجتمعات إلا بالثقافة وهذا ما يحقق بحسب تودوروف المواطنة أو الكوزموبوليتية التي هي مجموعة من كيانات أصغر بينها فروق وتتمتع بحقوق متساوية..
والثقافة هي التعدد الذي هو أفضل وسيلة في حماية الاستقلال الذاتي، وهذا التعدد لا يتم الإعلان عنه بمرسوم أو قرار أو قانون إنما هو يتحقق مباشرة في الواقع كأساس به تتحقق الكوزموبوليتية التي اطلقها المفكر الألماني اولريش بك وعدها سمة من سمات عصر العولمة بوصفها( الفكرة المستقبلية الكبرى التي ستحل مكان الأفكار التي طالما استخدمت في التاريخ مثل القومية والشيوعية والاشتراكية والليبرالية) وما ذلك إلا بسبب التعددية التي من نتائجها الكليانية والديمقراطية.
وبالثقافة أيضا تتحقق اللائكية بمعنى القبول بالاختلاف مع الإيمان بالهوية المشتركة مع الآخر، وأقرب مثال على اللائكية هو ما حصل للشعوب الأوروبية التي تباغضت واحتقر كل منها الآخر واحتربت فقتل الاوروبيون عشرات الملايين من الاوربيين ثم توصلت إلى العيش معا داخل وحدة ثقافية مشتركة ومتعددة.
وتعلي ما بعد الحداثة شأن الثقافة وتعمم فاعليتها على المجتمع كله، من منطلق أن الثقافة مثل البيداغوجيا ليست علما ولا فنا يمكننا أن نحدد له مجموعة من العادات والممارسات والتنظيمات، وإنما هي إمكانية العيش على أساس منظم، به يضمن الإنسان إنسانيته.
وأيد توماسيللو الطرح ما بعد الحداثي الذي يداخل الثقافة في كل حلقة من حلقات العلم الوضعي البراغماتي وهي عنده تتطور بشكل تراكمي يعتمد على التعلم على طريق المحاكاة وربما أيضا التعلم التلقيني. والثقافة في نظره ( مصنوع فني اجتماعي أو أداة تكيف متطورة تعدل في تفاعلها مع وظيفتها الاجتماعية المتطورة والتي نشأت اجتماعياً لأدائها)
وتغدو الثقافة في نظر المفكر غرامشي عاملاً ستراتيجياً لا ينفصل عن التاريخ ويذكر في مقال له بعنوان( الثقافة والهيمنة الإيديولوجية) أن خلق ثقافة جديدة لا يعني الاكتشافات الفردية الأصلية التي يحققها الفرد حسب، بل يعني أيضاً وبتخصيص أكبر نشر الحقائق المكتشفة سابقاً، نشراً نقدياً وتنشئتها اجتماعياً.
وتحدث بورديو عن رأس المال الثقافي، واهتم ادورنو بالحديث عن صناعة الثقافة، وهي عند عالم الاجتماع اميل دوركايم ترتبط بالأخلاق، وأن مشكلة الثقافة هي مشكلة التربية الأخلاقية التي تهز المجتمع بدرجة كبيرة من العنف والخطورة. وبسبب هذه الأهمية وضع دوركايم للحياة الأخلاقية ثلاثة عناصر ثقافية هي على التوالي: 1) روح الاحترام للنظام 2) التعلق بالجماعة الاجتماعية 3) استقلال الإرادة..وبتوافر هذه العناصر يتمكن المرء من بناء شخصية قادرة على التحكم بذاته، متحليا بملكة السيطرة أو المنع الذي يمكنه من كبح جماح عواطفه ورغباته وعاداته وإخضاعها لقانون منظم.
ولا شك أن بناء الذات أساس من أساسيات الصناعة الثقافية، وعملية البناء تتم ثقافيا في وقت مبكر جدا وهي عملية منظمة تتشابك بعمق مدهش مع براعة اللغة نفسها ..ومثل كل السمات الأخرى لصنع العالم يعتمد صنع الذات بقوة على النظام الرمزي الذي يتصل به؛ بيد أن آخرين يرون بناءها يتحقق على مستوى النظريات النفسية التي تعنى بفهم كيفية ممارسة الأفراد وعلاقاتهم الإنسانية من قبيل نظرية المعرفة السلوكية ومنحى الاستبصار الموجه.
وبالاندماج والتداخل بين العلوم الإنسانية والتلاقي بين مختلف الاختصاصات يتحقق التعدد الثقافي الذي يفترض أن الناس كلهم مثقفون ملتزمون أخلاقيا لهم مواقفهم، ولأن نزوع الانسان للثقافة فطري لذا يمكن للشعبي أن يكون مثقفا تماما مثل النخبوي.
والثقافة أبعد ما تكون عن التبعية التي بها بحسب هربرت ماركوز يتم تجاوز معنى خضوع الذات للآخر إلى معنى الخضوع للمنطق، والسبب أن (سيطرة الإنسان على الإنسان ما تزال تمثل في الواقع الاجتماعي ..استمراراً تاريخياً وما تزال هناك رابطة بين العقل ما قبل التكنولوجي والعقل التكنولوجي)
وأقرَّ هربرت ماركوز أن المجتمع الأحادي أخذ يتلاشى ويزول لتزول معه أشكال الرقابة ومنها النزعة الكلية الاستبدادية والنظام النوعي للإنتاج والتوزيع الذي يتوافق.مع تعدد الأحزاب والصحف وهذا ما يتيح للأحادية الفردية أن تشمخ بوصفها اتحادية يتعدد داخلها الفرد الواحد ليغدو صورة لمجتمع ثقافي تعددي.
وإذا كانت نظرية المجتمع الأحادي قد سقطت فإن العناصر الثقافية المشكلة لهذا المجتمع والتي هي عادة ما تكون متعالية ستكون أيضاً في سبيلها إلى الزوال.
وحذر هربرت ماركوز مما سماه كارثة التحرر التي تحدث حين لا تكون الثقافة متحكمة في هذا التحرر و" حين لا يستطيع المجتمع أن يزعم أنه يحترم الفرد وأنه في الوقت نفسه مجتمع حر وهو عاجز عن حماية الفرد الخاص حتى داخل جدرانه الأربعة.
والثقافة بوصفها تنوعاً وتعدداً لن تفضي داخل المجتمع الواحد إلا إلى السلم والأمان، ويسود التنظيم الاجتماعي وتشيع قيم التسامح والاعتراف والتحرر والمساواة..
وليس في توصيفات الثقافة هذه أية طوباوية ما ورائية بل هو الإصرار والتصميم والعزم الذي لا سبيل لبلوغه إلا بالتثقف الذي معه ننبذ كل أشكال الوصاية والاتباعية والصنمية التي عدها علي حرب سبب الفواجع الإنسانية مؤكداً أن ما من سبيل إلى بناء مجتمع ثقافي؛ إلا إذا تخلى المثقف عن أطيافه النخبوية وغادر فكرة أنه صاحب الدور النبوي. تلك الفكرة التي ما تزال تستحوذ على تفكير المثقف الراهن. وعد المعيارية والنمذجة والوصاية صور تمثيلية لهذه العقلية الطوباوية التي عفت عليها إمكانات التحرر والاستقلال والجدارة.
وهذا ما دعا إليه أيضاً عبد الرزاق عيد الذي نبذ مفاهيم النخبة والمعيار والنموذج، داعياً الى التعدد الثقافي محذراً من الانغلاق والتمركز، ناظرا الى اللغة بمنظار جديد فمع ازدياد نخبوية السلطة ومركزيتها المطلقة راحت اللغة تزداد مركزية ونخبوية وغدت الثقافة من اختصاص السلطة وبطانتها الإيديولوجية وصار العقل عاملاً من أجل السلطة والسلطان.
وتساءل كيف يمكن الدفاع عن جبهة الثقافة ؟ ورأى السبيل إلى ذلك يتحقق عبر العلمنة التي هي الانفتاح الذي به تزال الحدود والفوارق وهي أيضاً رسملة للعالم على مستوى العمق بعد أن كانت قد رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره وبالعلمنة يمكن تحديث الثقافة وصياغة وعي وطني حديث قادر على القبول بالتعدد والتنوع والمغايرة وهي التي تتيح النجاة من التخلف وتحصن ذاتيا من الوقوع في النكوص والرجعية أو ما سماه( ثقافة التحريم) التي يراها انتصرت عندما تمكن الأصوليون من جر العلمانيين إلى مناقشة نص أدبي مناقشة فقهية أي عندما جروهم إلى التعامل معه بوصفه وثيقة عقائدية.
والغريب أن بعض المثقفين العرب ممن هم تحرريون حداثويون يدعون إلى نهضة واقعنا العربي والإسلامي، لا يكترثون بالثقافة وهم يرونها إتباعية تخدم السلطة وتعبر عن نخبوية متعالية، لا بل يمقتون مقولات التعايش والتنوع التي تنادي بها أدبيات ما بعد الحداثة.
ومن ستراتيجيات انفتاح الثقافة ولامركزية المثقف التجرد من الثقافة المتثاقفة أو المتعالمة التي تأتي طارئة ثم سرعان ما يتعالى صاحبها بنوع من الاستنارية المفتعلة والطهرانية المتكلفة التي لا طائل من ورائها سوى الاستعاضة عن الأصولية بالهجانة والتعصب بالتشرذم والمخاتلة بالمجمجة. وهذا هو المتثاقف الذي فعله هوائي استهلاكي ومؤقت لا طائل من ورائه ولا سبيل لدوامه، بل هي دعائية propaganda وانشقاق وتحريف وارتداد.
ويصح القول إن التعدد الثقافي هو نتاج إعادة إنتاج ثقافة او ثقافات، بحثا عن التجدد والانفتاح. وواحدة من الاستراتيجيات التي يمكنها أن تجلب هذا الطرح إلى منطقة التمكين الواقعي هي فاعلية اللاتمركز التي تحررنا من الفردانية والنخبوية والانوية والنرجسية وتجعلنا برمين بمختلف أشكال الزعامات وثائرين على مظاهر النمذجة وأنماط الاقيسة وقوالبها المزيفة.
وليس غريبا إذا قلنا إن لا ثقافة لدى اولئك الذين يعتقدون أن الثقافة معيارية تحتضن المثقف ذاتا تابعة لمركز / نموذج يتمحور حوله( أيا كان هذا المركز حزباً أو مؤسسة أو زعامة أو تكتلاً) ناظراً للمسالة كوازع نضالي إيثاري ثوري وغيري، أو بالعكس يرى الفرد نفسه ذاتا متمركزة على نفسها متطرفة عن غيرها بوازع نفسي نرجسي يُصيره كيانا متقوقعاً منعزلاً ومتعالياً في أبراج من عاج.
فالثقافة الحقة تدحض هذه التابعية في الانسياق للمركز والمعيارية في الطواع والتسليم، وتحاول قلب تلك التابعية في التعاطي المتمحور حول الذات إلى تفاعل ثقافي واندماجي أهم سماته أنه دائم التغير بلا توابع ولا مركزيات نافضاً يديه من الركود ونافراً من الجمود.
وعلى وفق هذه الرؤية الإدماجية والانفتاحية، يصبح المثقف أواباً للتعدد والتعايش بمنظور ائتلافي يرى العالم من زاويتين في آن واحد، الأولى هي زاوية الإيثار والغيرنة والثانية هي زاوية الأنا والذوتنة.
ولا مثقف الا وهو يسعى الى اللاتمركز مستجمعاً المتضادات وملاقياً بين الثنائيات بلا أي تصادم أو اضطراب ومن دون أدنى احتمال بالتشوش والفوضوية أو الانحياز. وهو ما يجعل المثقف مجموعة مثقفين داخل منطقة الرؤية الكلية وبمنظار ثلاثي الأبعاد يرى الأشياء من مختلف الزوايا والأركان. هذا على مستوى المثقف أما على مستوى الثقافة؛ فإنها ستتسم بالمداومة والمثابرة والاستمرار بدأب، وهو ما وصفه تودوروف بالثقافة الحية التي تكون في تحول دائم وبما يجعل كل فرد يحمل في داخله ثقافات متعددة.
ووفقا لهذا الطرح الانفتاحي يصبح المثقف مطالباً بنقد ذاته قبل نقد واقعه، وهو ما طالب به هابرماس داعيا المثقف الى أن يقبل النقد والتعرية ولا يتمسك ببنى ثقافية فوقية والمثقف وإن كان صاحب مشروع نضالي أو تنويري في الأقل؛ فإن مهمته ليست تحرير الناس بقدر ما هي إعادة النظر في مفاهيمه للحرية والحقيقة والمصلحة العامة كشفاً عن الأوهام والتهويمات. وبهذا الوازع النقدي تتطور أرضية الواقع الثقافي المعيش فتكون إرادة الجميع فوق أية إرادة.. وتسود فاعلية التسابق بلا صراع والتنافس بلا عداء والاختلاف بلا رقابة أو تسلط.
وتنطوي هذه الستراتيجية على فكرة حضارية أساسها الثقافة المشتركة والجماعية المتحصنة باللاتمركز والنابذة للواحدية والفئوية.
وحري بهذه الستراتيجية الثقافية أن تسبغ على الحياة تحضراً، وتجعل المثقف مهيئاً في كل مكان وزمان للاعتراف بإنسانية الآخر أيا كان ذلك الآخر مؤيدا أو معارضا غريما ندا أو صاحبا رفيقا . ولأن الفرد المثقف فرد واع داخليا ينتسب خارجيا إلى مجتمع تعددي، لذلك لا يمكن للنفور أو التعصب أن يستحوذ عليه. والسؤال هنا كيف يغدو المثقف واعياً داخلياً وخارجياً ؟ وما الذي يؤسس لهذا الوعي أهي الفطرة التي تدفع ببذرة الوعي إلى النماء والتطور ؟ أم أن المسألة رهن بفعل مؤسساتي أو حاضن نظامي يعمل على إثبات هذا الوعي ودوام فاعليته ؟
بدءاً؛ إن التوعية الذاتية هي فطرة تنبع من الداخل وينميها الاكتساب من الخارج، لتغدو سلوكاً سماته التفاعل والمساندة والانضباط بإرادة وتصميم. وكلما كان الاكتساب محرراً الفرد من ذاتيته ومعززا في الوقت نفسه كينونة الأنا فيه، كان الناتج فرداً مندمجاً ومتعايشاً ومنفتحاً سائراً في درب التحضر والمدنية والعصرنة.
وإذا كان المجتمع أفراداً وجماعات يقر بالتعادلية والموازاة، فإن مسألة الوعي ستغدو توصيفا ثقافيا لكنه ليس معياريا حيث لا مشروطية في المغالبة والانتماء ولا منازعات حول تبعية الحضور أو التواري. فالثقافة هي التي تصنع الأمن للمجتمعات وهي التي تخلصها من كل مظاهر التبعية وأمراض الاستهلاك والإرهاب والتطرف.
وستسود إنتاجية ثقافية لصور شتى من الحوار والاندماج والانفتاح متحصنة بوعي هو بمثابة درع يحمي المجتمع من الممارسات السلبية واللااخلاقية دارئاً عنه الحروب والأزمات والكوارث.
ليس هذا التوصيف النظري للثقافة مقصوراً في مستوى العملي على الدول المتقدمة والغنية، بل هو متحقق أيضا في المجتمعات الأقل تطورا سواء النامية منها أو الفقيرة، كون الثقافة سمة لا يتطلب انجازها إمكانيات تستنفر الموارد وتستلزم الوسائل والإمكانيات، وإنما هو شأن داخلي ينبع من الإحساس الذاتي بالتوازن والمدعم بالتمظهرات الحياتية الواعية التي تتسم عموماً بالامتلاء والاكتفاء.
وقد لا نغالي أيضاً إذا قلنا إن وجود المجتمعات الثقافية ليس مرهونا بالتقدم والتكنولوجيا وإنما هو رهن بممكنات دواخلها أو دواعيها الفطرية وما فيها من قناعة وتسام وجمال، ولهذا كانت المجتمعات الأولى مجتمعات ثقافية تنتج وتستهلك وتناسل أفرادها رجالاً ونساءً ويعيشون متشاركين متعاونين بلا رئيس ولا مرؤوس ولا سيد ولا عبد وغايتهم واحدة هي الحفاظ على وجود الجماعة الذي فيه وجود الجماعات الأخرى.
وهذا ما جعل تلك التجمعات البشرية مسالمة تندمج الواحدة في الأخرى مؤسسة أمماً وشعوباً، وهكذا كان المجتمع القديم مجتمعاً مكتفياً بذاته، وفي الوقت نفسه جاذباً لغيره منيراً بفكره على ما حوله مستقطباً أقواما مختلفة، في تآخٍ وتفاعل واندماج وقد استقرت أحواله.
هذا المنوال الذي عرفته شعوب العالم في طفولتها ظل سائداً فيها إلى أن غلبت القوة العقل وحلت فكرة الهيمنة محل الثقافة وتضعضعت فكرة الاكتفاء واستبدلت بفكرة التابعية، واستحوذ الاستعباد على الانتماء.
من هنا تبدو المجتمعات التي تعنى بالثقافة مجتمعات لا تعنيها فكرة الدولة بقدر ما يعنيها التنظيم الإنتاجي والاعتراف بالتشارك الجماعي الواعي، وهذا ما يجعلها محصنة المواقع ومصانة الحقوق. وبالتحصن الداخلي والتوعية الخارجية تصبح فكرة الانتماء والولاء حقيقة لا تحتاج إلى عوامل تعززها أو أدوات تحافظ عليها وتعمل على إظهارها.
ولا سبيل إلى أي ارتقاء ثقافي إلا بمغادرة عقلانية التفرد والأحادية ودمج فكرة وجود نموذج إتباعي بفاعلية الانفتاح التي فيها التطور ليس تراكمياً فحسب، وإنما هو تجديدي اقتراني يتصف أولا بالاعتدال بعيداً عن التقوقع ويتحرز آخراً من الانجرار والانبهار.
والثقافة معرفة والإنسان بطبعه كائن معرفي أي يتعرف، ويمتلك العقل ويمارس التفكر ويجري حساباته معللاً ويتأمل مستنتجاً.. فكيف بعد ذلك كله تَحتكر الثقافة فئةٌ تعد نفسها نخبوية وتحرم غيرها منها فتصفهم بالرعاع أو أي نعوت دونية أخرى ؟!!.
ومثلما أن لا حيازة في العلم فكذلك الثقافة مشاعة، والمجتمعات الأكثر استقراراً واتزاناً هي التي تسود فيها الثقافة معممة على الأفراد غير منحسرة في طبقة ولا متقوقعة في أشكال أو تمثلات بعينها.
وصحيح أن الاعتراف بأهمية اللاتمركز في مجتمعاتنا العربية ما يزال مبكرا، إلا إن أول لوازم بذر ممكناته في الواقع العربي هو الإيمان الصميم والجوهري بأن الثقافة حاجة حياتية ومطلب لا مناص من تأمينه من دون اضطراب ولا تعجرف.
ومستقبل الثقافة يظل مرتهنا بطبيعة ستراتيجياتنا التي تهيء الأرضية المناسبة في مجتمعاتنا العربية متجاوزة الحروب والنزاعات وشروخات الهوية والانتماء وترسبات النظرة الدونية للمرأة وبقية المهمشين.
ولأن الثقافة فعل تنويري، تتحرر الذوات المهمشة من التابعية وفي مقدمة تلك الذوات المرأة التي عليها يتوقف النهوض المجتمعي فلا انحياز ولا غلبة . وكذلك كانت سيمون دي بوفوار كصوت نسوي مهم نادى في منتصف القرن الماضي بالتحرر والتعدد الثقافي.
وما مطالبة المرأة بالتحرر في مجتمعاتنا العربية سوى صورة من الصور الثقافية التي مورست في إطار إنساني مشترك. ومن المفرح أن المرأة العربية التي درجت على أن ينظر إليها كهامش تمارس ضده مختلف صور الاستعباد والاستبعاد، ظلت متمسكة بثقافتها واعية لحال مجتمعها، مؤمنة أن التحاور والتعدد هو السبيل الى احترام الآخر، وهو التحرر الذي فيه يضمن المرء وجوده من دون تمركز وإقصاء وبلا هيمنة ولا مصادرة ولا إلغاء.
وستكون أول مظاهر تحررنا هي الثقافة التي عادة ما تكون في وادٍ، والمهادنة والتملق والانزواء واللافاعلية في واد آخر. ولا ثقافة إلا بنبذ التمركز والهامشية كأحد الممكنات التي تمنح المجتمع التفاعل والصيرورة. وبهذا الصنيع سيتاح للمجتمعات أن تتقدم في عجلتها وتستمر.. فبالثقافة ينبغي أن نحيا ونتجدد.