مما هو معلوم أنّ النسوية مفهوم غربي نظرياً ومنهجياً، وأنّ كل الذي أنتج قبلها أو جاء بعدها في بلدان خارج المنظومة الثقافية الغربية هو عيال عليها، لكن ذلك لا يعني شطب عقود ليست بالقليلة من كفاح المرأة العربية في سبيل قضيتها وبكل ما في هذا الكفاح من صور مريرة لمآلات النضال التي جاهدت الحركة النسوية العربية في العصر الحديث من أجلها، محاولة رفع الحيف عن المرأة ووضع حد لما تعانيه في ظل المنظومة الذكورية من تعسف واستبداد.
ولا شك أن الحقائق موجودة لكنها كامنة يقتضي الحصول عليها مزيداً من الحفر والاستغوار بغية كشفها ورفع الستار عنها لتبدو عارية غير متقنعة بنقاب، والرجل هو الذي جار على حقيقة المرأة فشوهها بالاحتراب والعبودية والاحتكار، مما جعل تاريخه مدلهما بالمسكوتات ومتشحاً بالزيف والتشويه والإفك والاختلاق، حاكماً على وجوده أن يتسيد زعيماً وإلهاً صنماً متبوعاً وعلى المرأة أن تتخلق جارية ذليلة تابعة.
وبسبب ذلك غدت الحياة مرتعاً زمكانياً يغص بالمتناقضات والمتضادات التي أشاعتها عصور سالفة أسست قواعد الأنظمة السلطوية بأشكالها الشمولية المختلفة، فانتقلت من العبودية إلى الاقطاع ثم الرأسمالية ومن ثم الى الامبريالية لتخلفها اليوم الرأسمالية العالمية في صور مختلفة تمثلها العولمة والشركات المتعددة الجنسيات ومراكز الاقتصاد المتروبولية بمخططاتها المضللة ودعاياتها المريبة.
ولا مناص من القول إن البحث في موضوعة النسوية والذكورية هي مهمة الفكر عامة ومنه النقد الثقافي نظرا لما تتطلبه من حفر قرائي في النتاجات الابداعية عموما والروائية تخصيصاً التي تتدارى في تضاعيفها فلا تبدو للعيان إلا بمعاول نقدية تحفر في الانساق دايكرونيا كاشفة المخفي سايكرونيا في البنية النصية.
وقد أسهمت منظرات نسويات غربيات في تبني طروحات ثقافية جديدة كما وضعن تصورات باهرة عن النسوية والأنثوية والأمومية والأبوية والجسدية، وبعضهن كن من اللائي دفعن بدراسات التابع قدما لتندرج في مرحلة ما بعد كولونيالية جاعلات الاهتمام النقدي يتمحور حولها منذ الربع الأخير من القرن العشرين وإلى يومنا هذا.
ولقد ذهبت دونا هلاواي وماري ديلي في كتابهما( الايكولوجيا النسوية) وكذلك هيلين سيسو في كتابها( ضحكة ميدوسا) الذي تغالي فيه كثيراً كقولها:" إن المرأة عندما تكتب عن نفسها فإنها تعود إلى الجسد الذي صودر منها.." وهذا الرأي ينطلق من نظرية الأنوثة مما تعارضه نظرية النسوية، لأن أساس نظرية الأنوثة الفصل البايولوجي بين الرجل والمرأة، الذي فيه المرأة هي الكاتبة وهي نفسها المكتوبة، بينما تتغافل النظرية النسوية عن مسألة الفصل لتجعل المرأة المقصودة في حدود المكتوب أو المسرود، فاتحة المجال للمذكر أن يصير نسوياً وذلك حين يجعل مسروداته إناثاً فاعلات أو حين يجعل تنظيراته متمركزة حول فاعلية الأنثى، شارحاً المتاحات التي بإمكان الأنثى بلوغها والتفوق فيها ومبيناً الممكنات أو المهيئات التي ستعيد لها ما صودر منها طوعاً أو عنوة.
ونعتقد أن الطرح الذي تتبناه نظرية النسوية وليس الأنوثة أو الأنثوية هو الذي سيمكن النساء من تحقيق مطاليبهن وتأكيد شرعية ما يبغين الحصول عليه، وبهذا لا تطالهن اتهامات الفصل الجندري والتعنصر للنوع ، كما لن تنال منهن إدعاءات الترويج للجسد والجنس، هذا فضلاً عن استبعاد مسألة المساواة بين الجنسين، والتعالي على الهيمنة التي طالما أتهمت المرأة بها الرجل وحرصت على فضح ما جرَّته عليه هذه الهيمنة من استلاب لحقها ومساومة لها على فاعلية دورها بدعوى الوصاية عليها وحراستها.. فكيف تأتي بعد ذلك كله لتطالب بالهيمنة وتعطي الغلبة لنفسها ملغية الاخر ؟!!
ولعل هذه النزعة للتفرد والهيمنة هي التي جعلت نظرية الأنوثة واهية وضئيلة، بينما استطاعت نظرية النسوية وبدرجة عالية من الوعي بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق العنصر النسوي أن تستمر وتتجدد بتواصل وتوليد واضحين.
ومن منظرات الأنوثة بيتي فريدان التي اهتمت بالكيفية التي بها تتم إعادة تشكيل الصورة الثقافية للأنوثة. أما كنييبلير فعدت الأنوثة حقيقة اجتماعية تنفرد بها المرأة في تصورها لفكرة الأمومة، وبينت أن سيمون دي بوفوار تضع هوة فاصلة بين المرأة واكتسابها خاصية النوع الأنساني، ولا يعني ذلك أن لسيمون نظرة إقصائية للمرأة، وإنما هي النظرية التي تفصل بايولوجياً بين الذكر والأنثى. وهذا الفصل البايولوجي كما أشرنا هو الذي ذبذب النظرية وجعلها غير قادرة على إثبات صلاحيتها الفكرية على الدوام، بعكس نظرية النسوية التي تعالت على المسألة الجندرية فلم تر الفرق إلا في حدود التقييم الثقافي وضرورة إعطاء المؤنث أحقيته في التمركز لا لأنه يتسم بسمات بايولوجية ينبغي أن يُراعى بسببها.
ومن هذا المنطلق النسوي أيضاً تأتي طروحات سيمون دي بوفوار، التي وقفت إلى جانب المرأة بكليتها معطية للجنوسة حقها، وهي القائلة:" لا يمكن للمرأة أن تكون بالمقابل فرداً كاملاً مساوياً للرجل إلا إذا كانت هي نفسها شخصاً بشرياً لها جنسها الخاص فالتخلي عن أنوثتها يعني التخلي جزئياً عن انسانيتها". ولم تتردد دي بوفوار من مؤاخذة المرأة حين تصبح شريرة تحت تأثير عاطفة الجسد النابعة من أنوثتها ومن خيالاتها وزهوها وتهافتها على المظاهر البراقة التي تنقصها مؤكدة أن المرأة لا ترتكب الشر للشر بل تلجأ اليه مكرهة دفاعاً عن نفسها وعن زوجها وأطفالها وتطلعها الى المظاهر البراقة.
وبالرغم من أننا نعيش في مرحلة عبر ثقافية تجاوزت التنوير والانوار ودخلت في ما بعد الأنوار، إلا إننا نجد النسق المهيمن في منظومتنا الثقافية العربية ما زال يراهن على العقل بذكوريته وأنانيته.
والدليل كثرة الممارسات الفكرية والثقافية التي تتعامل مع الذكورية بشمولية ودوغماطية حتى لا مجال فيها للترحيب بمفاهيم تدلل على النسوية إلا في حدود ما تسمح به الابوية الثقافية ومن ثم تتسيد طروحات مثل أدب المرأة وتعليم المرأة وتحرر المرأة بينما لا نتقبل مفاهيم مثل أدب نسوي وحركة نسوية ومركز نسوي وكتابة نسوية وغيرها، التي تظل في حدود التوصيف الذي لن يصل إلى مرحلة تدشين المفاهيم أو المصطلحات.
وبعض النقاد يحاولون الانطلاق من منطلق توفيقي يتبنى مفاهيم النسوية بشكل حذر كي لا يخرج عما تسمح به المنظومة الذكورية، ماسكاً العصا من الوسط فلا هو يرفض النسوية ولا هو يماشيها، فيبدو في الظاهر نسوياً وفي الباطن موالياً الذكورية مسلماً بالسياقية متمسكاً بالثوابت الفكرية من دون اكتراث للثقافية وحفرياتها القالبة والمقوضة.
فيغدو التسطيح والتبسيط من سمات التوجهات النقدية بخصوص النسوية. تلك التوجهات التي فيها المرأة محنطة وجامدة في حدود النسوية الغربية كنظرية جاهزة للتعميم على نساء الأرض جميعاً. ولا شك أن نضالات المرأة في العالم المتقدم منه والنامي ما زالت في طور النهوض والاستعادة، لذا يصبح مثل هذا التعميم غير منطقي ولا واقعي، فهل وصلت النساء حقاً الى الاقتناع أن الغربيات عبرن عن تطلعاتهن وحملن بدلاً عنهن شعارات التحرير والمساواة والعدالة والاستقلال ؟
ومعلوم أن النسوية الغربية لم تصل بعد الى مرحلة الجزم بأحقيتها في التمركز والزعامة كما لم تقطع شوطها الذي ترجو في ما يتعلق بحقوقها في الأمومة والحضانة والعمل والتربية والمواطنة وغيرها، فظل التعامل معها محصوراً في حدود المنظومة الثقافية الذكورية وفضاءاتها البطريركية. ولا عجب أن الحركات النسوية الليبرالية والاشتراكية والماركسية والسوداء والراديكالية وغيرها لم تبلغ بعد مرحلة التبلور في طروحاتها سواء في المجتمعات الصناعية المتقدمة أو النامية أو المتخلفة كما أن منظومتها الثقافية والمفاهيمية مازالت في طور الاعداد ولم تكتمل بالشكل الذي يجعل قضيتها ناجزة في تحققها وتامة في مؤدياتها ومقتضياتها.
وما دامت الذكورية تتعنت في تجاوز منطقة الاحتفاء والتأييد للنسوية الى منطقة الإقرار فإن مشاريع الحركات النسوية في التحرر والتسوية ستظل متزعزعة في مطامحها، قلقة في توجهاتها ومتضعضعة في اثبات دورها الطليعي الذي ينبغي أن يصب في صلب حركة المجتمع لا أن تظل ذات دور لا يتجاوز حدود التجريد والتنظير.
ولا نبرح في أية دراسة لأدب أو نقد نسوي ودراسات نسوية إلا نجد طرحاً للاسئلة حول قضايا تخص العنصر المؤنث أكثر مما نجد فيها اقتراح حلول وتقديم إجابات، تحيل النساء إلى كيانات قيمية قادرة على تأسيس القواعد ووضع الدعامات للاجيال اللاحقة من الاناث من اجل ان يتمتعن بمنجزات النسوية الراهنة ومكتسباتها. أما السبب فهو الافتقار إلى فكر يتخندق في جبهة هي بمثابة حاضن ثقافي لا يملك القدرة على مناهضة الحاضن الرسمي المركزي سواء بالتجسيد الفعلي لقضايا تصب في صميم النسوية المعاصرة أو بالارتهان الواقعي بقضايا تخص التاريخ النسوي.
وتظل مهمة النقد النسوي فضح هذا التصور وغربلة صورته المقنعة بالاحتفائية، وكشف ما فيه من تحامل فحولي ومعاداة ذكورية تحاول أن تخرس الفعل النسوي وتسكته إن لم ترد تغييبه.
وقد يذهب بعضهم إلى القول إن النزوع النسوي يندر وجوده أصلاً عند الكاتبات العربيات المعاصرات، بسبب نمطية الدور الكتابي المتاح لهن في ظل الهيمنة الأبوية، وإنه إن وجد فسيوجد عند أسماء شابة أو مغمورة دون الأسماء الروائية الكبيرة والمعروفة، [فنقول] إن مسألة الندرة أو الاستثنائية في وجود نزعة نسوية في الكتابة الابداعية، قد يظل مغايرًا للحقيقة وقد يبدو جزافياً واطلاقياً، بعيداً عن حقيقة المشهد الثقافي النسوي، مماشياً ما يروّجه النقد الذكوري من أفكار تتصف بمجانية الطرح ومعتادية التصور المتبلور في الأساس من هاجس فحولي ذي نبرة استعلائية، لا يقر بالدور الأنثوي في الكتابة الابداعية النسوية، غير آخذ بالحسبان التمشكل الجمالي والفكري الذي تحاول أن تقطعه الكتابة النسوية على المستوى الإبداعي بعامة والمستوى الروائي بخاصة.
ومن أدل الدلائل على النزوع النسوي خطاب المرأة المركزي الأمومي كستراتيجية ذات فاعلية جديدة وعملية ثقافية مغايرة، تحاول عبره الكاتبة زحزحة الأسس العتيدة للفحولة ومعاييرها، طارحة تساؤلاتها بحرية منحازة إلى ذاتها، غير محتاجة إلى انتحال صوت الأبوية، وهذا ما نجد تمثلاته في الرواية النسوية ما بعد الحداثية، بعكس الرواية الحداثية التي باتت أغلب نماذجها النسوية مسترجلة تنظر للأنثوية بمنظار ذكوري.
ويعد الناقد الدكتور عبد الله الغذامي السباق إلى الوقوف عند نظرية النسوية لا استعراضا لصورتها الثقافية في الغرب وإنما استبطانا لواقع نسوي عربي يعارض معارضة صميمية المنظومة الثقافية البطريركية. فكان ناقداً نسوياً يتكلم بصوت الانثى ويتحدث بلسان التابع المقهور مناهضاً منظومته المركزية ومناوئاً ما أرادته له من الاعتداد بصنيعها الذي ينبغي أن يحافظ عليه لا أن يهادن به النسوية متنازلاً عن المركزية لصالحها.
وهكذا انطلق الغذامي من وازع ثقافي عال وبمقصدية نقدية واعية وجوهرية، ترفض الامتيازات التي طالما أغرت نقاداً وباحثين رجالاً ونساءً وجعلتهم يخفقون في إيلاء المرأة اهتماماً، ليتصفوا بالتزييف والمخاتلة. بمعنى أنهم وإن تظاهروا بالموالاة للنسوية فانهم في الباطن يضمرون لها انحيازاً ضدياً كونها أدنى من الذكورية وستظل تالية وتابعة مهما ناضلت وتمردت، بيد أن الدكتور الغذامي بليبراليته المتحررة من أي ضغط وتحت أي ظروف والمتبرمة من الذكورية، تمكن من تدشين قضايا انثوية وتشخيص ظواهر نسوية وبالشكل الذي ينم عن إدراك مرير للواقع العربي عموما والنسوي تحديداً، لتكون مؤلفاته وكتبه جزءاً من الكتابة النسوية ولتوصف دعواته التنويرية بأنها مؤنثة وتأنيثية في صورة تصالح ثقافي ينطلق فيه من دوافع التسوية والاعتراف واجدا المرأة كياناً قيمياً وليس موضوعاً أثيرياً للهيمنة والإشهار.
ولو قابلنا بين ما كتبه مثقفون تصالحوا مع المرأة مثل سلامة موسى وقاسم أمين وعلي الوردي وغيرهم، وبين كتابات عبد الله الغذامي وغيره من النسويين والنسويات، فسنجد الفارق كبيراً لأن دعوات النهضة والتحرير والتعليم لا تناصر المرأة إلا بقصد ضمان التقدم للمجتمع وتطويره بينما تتعمد دعوات النسوية الى التأنيث والجنوسة وغيرها من المسائل التي تتيح للمرأة أن تنصر نفسها بنفسها كقيمة لها وجودها المستقل بعيداً عن أية وصاية تحاول تحجيم قدراتها وإمكانياتها بدعوى حراسة مستقبلها ومستقبل الأجيال من خلالها، فما تريده النسوية هو أن تكون المرأة قيمة ثقافية وأن تنعكس هذه القيمة على ظاهرها وداخلها أيضاً وليس مجرد شعور يعطي للآخر مجالاً لأن يمارس سطوته فيوجهها اجتماعياً بحسب مصالحه محتكراً طاقاتها ومحددا لها مساراتها.
وما ذلك إلا لأن المؤنث عنصر مغلوب على أمره بسبب طغيان النزعة الانفرادية لدى المذكر. ولا سبيل لقلب ذلك الطغيان إلى نقيضه سوى الفكفكة والتفتيت التي تفرض على الذكر الاعتراف الذي هو بالنسبة إليه رضوخ لأنه ينقله من الانفراد الى الاتحاد ومن الاستبداد الى الاستناد ومن الاستعلاء إلى الاستواء بينما به تتمكن النسوية ـ أيا كان متبنيها كاتبا أو كاتبة ـ من منهجة رؤاها كي تقوض جبروت المذكر وتعلي سلطة المؤنث لا بقصد جعل الأخير مستحوذاً على الأول وإنما بقصد استعادة حق صودر منه واستمالة طرف طغى وتجبر.
ولعل عملية التقويض بصيغتها التي هي عادة ما تكون غير مستقرة ولا توازنية أن تعيد التوازن من جديد، ليكون الطرفان المؤنث والمذكر فاعلين بالدرجة نفسها في صياغة أطر الحياة وبناء صورها الإيجابية التساندية والتعاضدية.
وإذا كانت الحركتان اللتان تشتمل عليهما هذه المعادلة غير مستقرتين؛ فإن الحركة التحصيلية ستكون مستقرة لا بمعنى الصنمية أو التحجر، وإنما بمعنى الحراك الذي يجعل الكفتين تتأرجحان في حركة بندولية جيئة وذهابا، بلا نهائية ولا محدودية وهو ما يجعل التشارك منتجا ومستمرا بارهاصات تحتمها ظروف الحياة وألوانها المتغايرة والمتنوعة.
وليس خافياً أن الرواية هي الحياة نفسها مصوغة في شكل واقعة نصية تحاكي الواقع الحياتي، وكذا الحال مع السرديات عموما والسردية النسوية تحديداً وهي تسعى الى المحاكاة لكن بأطر تنتصر للمؤنث وتقولبه في صورة أقل ما يقال عنها أنها تتحالف مع المرأة وتعاهدها إما على عدم مسايرة الآخر وذلك حين يكون نداً وغريماً وأما مسايرته والتجاوب معه بمطاوعة وذلك حين يكون شريكاً مؤازراً وظهيراً مُعيناً وداعماً.
فلا غرابة إذا قلنا إنَّ تحقيق الكتابة النسوية لأنثويتها سيستنّفر طاقة المرأة كتابع ويسحبها من منطقة الظل ليضعها في منطقة الضوء، مهيئاً لها سبل الكفاح، وكما يقول المفكر فرانز فانون:" لا بد لكل جيل أن يكتشف رسالته وسط الظلام ، فإمّا أن يحققها وإمّا أن يخونها، والأجيال السابقة في البلاد المتخلفة قد قامت بعملين في آن واحد، قاومت أعمال الاستنزاف التي تابعها الاستعمار، وهيأت نضج الكفاح الذي تخوضه الآن، لتغدو النسوية اصطلاحًا لا يعني الجنس البيولوجي مما تذهب نظرية الانوثة، وإنما سمة ثقافية لأنساق جديدة، لا تنفلت من قبضة الأبوية إلا لكي تقبض عليها، انطلاقاً من فهم تجريدي يقوم على المنافسة والأسبقية التي بها ستمتلك الأنثوية القوة التي تجعلها تتحكم بالآخر، تحكمًا ثقافياً ليس فيه تغليب؛ لكنه مركزي انطلاقاً من دور المرأة الأمومي.
ومن الطبيعي أن تحاول الكاتبة العربية المعاصرة، مقاومة التبعية الذكورية، مصممة على تهشيم الاعتداد الفحولي، مؤمنة بقدرتها على جعل الآخر معترفًا بها وبأثرها المحوري والإيجابي في الحياة ، وتنبذ وجهة النظر النسوية هذه ما يشاع من أن المرأة قابعة تحت ضغط التجاوزات الجنسية والمعاناة الواقعية والرضوخ الذي به موت مطامحها والمصير المحتوم الذي لابد لها أن تقنع به. وكأن النساء مجبولات على المطاوعة والتسليم، وأن الطبيعة هي التي حكمت عليهن بذاك، وليس الآخر الذي عمل بقصدية على إيهامها أن أي انتهاك للأعراف والمواضعات، أياً كان هذا الانتهاك فنياً أو غير فني، هو انسحاب من مسرح الحياة، وقبوع مؤبد في الكواليس التي بها دمار ذاتها.
وهو ما يتجسد واضحا في الشخصية النسوية الموظفة داخل الرواية الحداثية وما قبل الحداثية التي تكتبها المرأة كونها تتعاطف مع الرجل وتجرّم المرأة، مجيِّرةً إنجازاتها وأعمالها لصالح الرجل، واصفة إياها بالضحية لعالم اجتماعي فقدت فيه براءتها أو كجنس آخر يغوي ويغري في مسار ذي نهاية متجهة حتما نحو الموت. والنتيجة هي كتابة مسترجلة تريد من المرأة أن تصور بنات جنسها بالشكل الذي يرضي غرور الرجل وعنته، وليس بالشكل الذي تريده هي وتطمح إليه.
ومن ثم يغدو الأساس النقدي للرواية النسوية ما بعد الحداثية غير مهادن الذكورية، بل هو في جوهره الخاص لا يراوغ الذكورية ولا يدعي الظفر عليها، ولكنه يحرّض على الكتابة ضدها في محاولة لإثبات بطلان إدعاءات النقد الفحولي بازاء النسوية والجسد المؤنث، مستولداً واقعاً نقدياً جديداً يغاير الرؤية السائدة التي تدعي أن كل ما يسعى النقد النسوي إلى استظهاره هو ضرب من الأحلام الدونكيشوتية، وأن ليس باستطاعة المرأة استنطاق ذاتها وتمثيلها أنثوياً.
من هنا تتأتى مشروعية النقد النسوي في مناهضة النقد الذكوري الذي لا يريد إعطاء المرأة أهميتها من باب التعالي على الأنثوية، متمنطقاً بلغة التغليب وفاعلية التقليل من أهمية المرأة التي تتلخص في واجباتها وفاعلياتها التي تنافي هويتها وتعيق أداءها لدورها الحقيقي.
ولو عدنا إلى المجتمعات البدائية لوجدنا أن دور المرأة ما كان مقتصراً على الإنجاب والإرضاع وتربية الأطفال، بل إشتمل أيضاً على ديمومة الحياة بالدفاع وإثبات الوجود وهذه النظرة إيجابية من وجهة نظر نسوية، لإنها تعمم الفعل الأمومي ولا تحصره في الإخصاب، بينما هي سلبية من وجهة نظر أبوية، لأنها تقلل من دور الذكر ولا تعطيه سمّوه الاستحواذي في السيادة والتفوق.
إن إثبات المرأة لأنثويتها هو تعبير عن تطلعاتها التي فيها المرأة ليست إيقونة لرموز وطلاسم تخفي كينونتها وتجعلها تبدو في إطار مثالي ورومانسي وأسطوري تستحوذ عليه الأبوية؛ وإنما في صور ملموسة وواقعية للمرأة. وهذه الصور الواقعية للكيان النسوي هو ما تحاول الأبوية تشويهه، واصفة المرأة المتحررة، بأنها كيان منقسم على نفسه، يعيش حالة اللاتوازن والضعف. ولن تغدو الكتابة الإبداعية نسوية، إلا إذا استطاعت التمثيل الثقافي على المرأة بفاعلية وتموضعات فيها الذات المؤنثة تتقارب مع الآخر واقعيا في الهوية والقيمة والفكر والتموقع.
وما موقف التحدي الذي تقفه الروائيات العربيات في مرحلتنا ما بعد الحداثية؛ إلا دليل قاطع على أن النسوية حاضرة لا كمظهر سطحي، بل كفعل استغوار داخلي، فيه النسوية ليست رديفة المرأة حسب؛ بل هي هويتها التي فيها تتجلى حقيقة فاعليتها أيضاً.