لعل أقبح ما فعلته أحزاب السلطة منذ 2004 الى اليوم، هو انها أفقدت مواطنيها معنى المواطنة، وجعلتهم ينظرون إليها بوصفها المثال السيئ للسلوك المنظم، وما أمتناع المواطن عن تسديد فاتورة الكهرباء، على سبيل المثال، إلا لأنه يشعر بانه إنما يدفع المبالغ لسارق ولص محترف، وأنْ عليه ألا يدفع، لعلمه بان المبالغ إنما ستذهب الى وزارة وحكومة فاسدة، وبذلك تكون قد ولّدت في داخله شعور بالمشاركة، وهكذا تكون قد أجهزت على أوثق الروابط التي تجمعه بالحكومة.
ولا حصر للأمثلة، فهو لا يجد ضيراً في رمي النفايات بالجزرة الوسطية مثلاً، لشعوره بان شركة التنظيف وجملة العاملين النافذين فيها إنما يسرقون من موازنة المدينة، وهم السبب الأساس في تراجع صورة المدينة هذه، والأمر ينسحب على كل مفاصل الدولة، من الدائرة الخدمية البسيطة الى المؤسسة الكبيرة. أقول لأبني: لا ترمِ الحجارة في النهر القريب لبيتنا فيردُّ علي: "بابا أنت شايف نهر العشار شلون تصب المجاري بيه؟" وحين طلبت من أولادي أن يجدوا لنا حلاً في التخلص من النفايات التي يرمي بها صاحب الدكان القريب ! قالوا: "تريدنه نتعارك وياه؟" مثل هكذا سلوك، لا يمكن معالجته عبر منظومة الأخلاق التي يحملها كلُّ منا، هناك خلل في البنية المجتمعية، التي لم نصل لها طواعية، إنما لجملة الاسباب التي انتجها السلوك السيئ للحكومة.
قبل سنوات نصحني كاتب العرائض عند دائرة الجوازات بأنه قادر على تجديد جواز سفري بثلاثة أيام فقط مقابل(200 $) دولار، لا أكثر، وحين عوّلتُ على قدراتي في الصبر والمطاولة بالوقوف والانتظار قرب شبابيك الدائرة وجدتُ أنني كنت مستمعاً سيئاً لنصيحته. لا أقول باننا كنا في مجتمع مثالي أيام حكم صدام حسين، أبداً فالحروب والحصارات تخرب النظم السياسية، ثم تأتي على النظام الاجتماعي فتنهكه لا محالة، لكنَّ ما يحدث من منهجة في التحلل والخراب يقودنا الى اليأس أمام كل محاولة للاصلاح، ولعل السيد الكاظمي يدرك حجم ما وقع فيه.
في الأزمات الكبيرة، غالباً ما يتوجه الناس الى المثال( الإيمان بالرب والدين، مكان العبادة أو الضريح، وحتى السحر ربما..) ذلك ليقينهم بان الحكومات عاجزة بقدراتها التقليدية عن التصدي لكوارث مثل الزلازل والفيضانات والاعاصير الشديدة والبراكين الثائرة وغيرها، مما تتراجع أمامه قدرات الانسان، لذا نجده يلجأ الى القوى المثالية تلك، في استنفاد أخير للحلول، وبحث يائس عن النجاة. ترى، كيف؟ والى أين يهرع الناس إذا كانت الحكومة القائمة على أمر الناس هي الدين والدينية، ودستور البلاد يؤكد الاسلام منهاجاً للحكم، وترجع في كل برامجها واحامها الى الشريعة المحمدية، وتحظى مؤسساتها بالهيبة والوقار، بل، والويل كل الويل، لمن يتعرض لـ (قداسة) أحد من رجالاتها. وهنا، يكمن المطب الاعظم، فهي (الدولة) ستكون قد اجهزت بنفسها على قداسة الرب والدين ورجاله ومؤسساته.
ربما، يجد متطرفٌ، كارهٌ للدين في الاجهاز هذا فسحته في التشفي والنيل وتفريغ بغضائه، لكن، الحقيقة تشير الى العكس من ذلك تماماً. أن يُصاب المواطن في أعمق نقطة مقدسة في روحه، تلك هي المصيبة الحقيقة، فقد تكون هذه آخر معقل يلجأ اليه.