ساهمت الحركات النسوية التي كانت سمتها الغالبة الرغبة في التحرر والمناشدة السلمية بالحقوق والمساواة في إعلاء الصوت الرافض للحيف الذي لحق بالنساء عبر هذه العصور والانتصار على الجور الذي فرض على أسلافهن ، مؤكدات أن ذلك هو حق مشروع تكفله لهن الشرائع السماوية قبل الدساتير الوضعية ..
وقد تعددت صور هذه المطالبات فمن النساء من اتخذن من الجهود الميدانية طريقاً إلى ذلك ومنهن من آثرن اعتماد الجهود الذهنية وأهمها الكتابة التي وجدت فيها المرأة ملاذاً رحيباً وسلاحاً فاعلاً في إيصال صوتها الى الأبوية لتهز أركان عرشها من الأساس وتهدهد ما كانت قد أجبرت عليه الأجيال النسوية الغابرة وهي ترضخ لسطوتها وتجنح تحت طائلة تعاليها..
وكان لفليسوفات ومفكرات غربيات دور مهم في هذا الصدد ونذكر منهن كلارا زيتكين وفرجينيا وولف التي دعت منذ عام 1919 الى تأسيس هوية خاصة بالنساء وسيمون دي بوفوار التي رأت أن المرأة ليست جنساً؛ بل هي هوية ثقافية، وآمنت توريل موي بكارل ماركس في حين ذهبت الناقدة هايدي هارتمان إلى أكثر من ذلك وشخصت تضاد الماركسية بالنسوية مما سمَّته الزواج التعيس بسبب تضادهما في بعض الطروحات.
ومن بعدهن روائيات غربيات وهنديات وصينيات وعربيات بدت لديهن هموم واحدة تجمعهن تحت شعار واحد هو استرداد هيبة المرأة من خلال مساواتها بالرجل وتشريع القوانين الداعمة لها بما يمنحها دورها الطليعي في الحياة السياسية والاجتماعية والنفسية وغيرها وليس ذلك فحسب، بل لتكون المرأة هي الوجود والحقيقة واللغة والكينونة وهي الكتابة والقراءة وهي الجمال والأدب والفن.
وكان للنقد الانجلوسكسوني إسهام كبير في تعزيز الطروحات النسوية في النقد الادبي، فركزت الين شوالتر على المرأة وأخذت بمتابعة عطائها الأدبي كما أدت كتابات دريدا الفلسفية دوراً مهماً في بلورة الدعوة إلى قلب المركزية الذكورية ولاسيما مفاهيمه عن الكتابة والاختلاف وقد تأثرت كاتي ملليت به كثيرا وانعكس ذلك في كتاباتها ومنها كتابها(السياسات الجنسية).
وتبنت الفرنسية ماري وول أفكار الثورة الفرنسية وأفكار جاك لاكان بعكس هيلين سيسو التي فنّدت طروحات لاكان النفسية لانها وجدتها تصب في باب الرؤية الذكورية للعالم وهو ما وافقتها عليه لوسي اريجاري التي رأت أن هناك تصميماً كامناً لاستبعاد المرأة من إنتاج الكلام. أما فاليري سميث التي تعد من أنصار النظرية النسوية السوداء، فإنها وجدت أن النسوية قدمت نفسها إلى العالم مختلفة عن كثير من اتجاهات التفكير المعاصر وأنها عرّفت نفسها تعريفاً سياسياً..
واهتمت المفكرة الهندية غاياتري سبيفاك بدراسات التابع ونشرت مقالها المهم( هل بمقدور التابع أن يتكلم ) وفيه طرقت أثر الثقافة الذكورية والتأثيرات الاستعمارية في تهميش المرأة ..
وهكذا حاولت اولئك الناقدات وغيرهن تفحص وضعيات المرأة الكاتبة في ظل الثقافة السائدة التي هي في جوهرها ثقافة بطريركية دوغماتية وكن متأرجحات بين التحدي المنفلت من قبضة الذكورية وبين التجاوز المحتشم تحت جلباب الابوية .
وإذا كانت النساء ـ بحسب انجلز ـ في عصري الوحشية والبربرية يتمتعن( بوصفهن أمهات وبوصفهن الوالدات الوحيدات المعروفات بكل ثقة..بقدر كبير من الاحترام والتقدير بلغ .. حد سيادة النساء التامة بجينيكوقراطية أي حكم النساء) فإن دونية المرأة بدأت تاريخيا مع عصر الحضارة كاعلان لتناقض بين الجنسين لم يعرفه التاريخ كله من قبل..
وعربياً اختزنت الذاكرة النسوية مكابدات واحتملت معاناة كبيرة على مرِّ الأزمنة وإختلاف الأمكنة فما بين غواية الجسد وهيمنة الذكور واستبداد اللغة غابت الذات النسوية وتشتت العنصر النسوي ولم يعد بإمكانه إثبات حضوره الفعلي ذاتياً إلا بالتمرد الذي به تستكشف المرأة وعيها وتعبر عن مكنونات الأنا داخلها وتصعِّد فاعلية شاعريتها باتجاه من حولها وتوجه صيحتها بوجه من هو الحكم والخصم معاً.
ولقد واجهت المرأة العربية عبر العهود السابقة والراهنة تحديات مجتمعية كبيرة وخطيرة وظلت ترزح كما الرجل تحت نير الظلم والمطاردات والسجون والتعذيب والنفي والتشريد ليكون تاريخها لا يقل مرارة عن تاريخ نساء العالم المليء بالحروب والكوارث وكأنها صورة لكائن كُتب عليه أن يظل هامشيا غير فاعل ومعطل عن تأدية دوره الريادي..!!
وعلى الرغم من أن النساء اليوم هن متعلمات عاملات وطليعيات ومكافحات ومناضلات وربات بيوت؛ إلا إنهن لم يتمكن بعدُ من تأدية الدور المطلوب للبداية الصحيحة.
ولقد جعلت الشعوب في عصورها المبكرة المرأة في أوج دورها وأهميتها فكانت أن علَّمت البشرية وقادتها إلى التعرف على الحياة بكل معانيها عيشاً وكفاحاً وأملاً، فربّت الاجيال وأسسّت الجماعات حتى تشكلت المجتمعات ومن ثم قامت على يديها المدن والدويلات حاكمة وقائدة وحكيمة وموجِهة..
لكن الحياة البشرية فقدت هذه الصورة حين استلب الرجل من المرأة هذا الدور شيئاً فشيئاً حتى جرّدها من كل صفاتها الطليعية فلم تعد حكيمة ترعى الرعية ولا حاكمة توجه الحكم ولا سيدة يُذعن لارائها أو يُعمل بها ومن ثم اقتصر دورها على ناحية من نواحيها الطليعية وهي الأمومة ورعاية الذرية والإنجاب فغدت وسيلة من الوسائل التي بها تتعزز مكانة الرجل كأسلحة صيد طرائده أو وسائل تنقله.
ومنذ ذاك الوقت صارت المرأة حاجة من حاجات حياتية لا غنى للآخر عنها لكنها ما عادت ذلك الكائن القيمي الذي يعهد إليه أمر البقاء والتحضر والتأنسن كأصل ومركز.
وكون المرأة حاجة لا قيمة، هو انكسار تاريخي كما يقول انجلز وتغيير لدفة الانسانية التي أخذت تتجه صوب الاحتكام إلى منطق القوة لا العقل ونحو العدوانية لا السلام. وهكذا شهدت المجتمعات قيام الإمبراطوريات التي ما انبنت إلا على الدماء والشرور. مما قاد البشرية باتجاه جديد تتصارع فيه كفتا الخير والشر والغالب في الأعم هو منطق القوة شراً كان أم خيراً.
ولو افترضنا أن حال البشرية ظل مرهونا بالقيادة الأمومية وإنها ما انجرفت نحو هذا المآل الأبوي لظلت الرحمة والتعقل والعاطفة غالبة على حياتنا ولاتجهنا بعقلانية الى بناء مجتمعاتنا الإنسانية.
وليس في ذلك مغالاة فلطالما كانت الإنسانية في ظل الأمومية تنعم بالرحمة والحنو والرقة والرعاية وكل الكلمات والعبارات التي تنضوي تحت يافطة المحبة والسلام لكنها ما أن أسلمت قيادها الى الرجل حتى صارت الإنسانية قالباً ذا صناعة ذكورية تستوعب تطلعات الفحولة واستحواذاتها على البشرية التي غدت لعبة يديرها الابويون باتجاه الهيمنة والاستيلاء وفرض النفوذ والتسلط وبذلك انبنت عصور الحضارات بناء ذكورياً وصارت قيادة البشرية موكلة إلى من لا يتوانى أن يجتث الرحمة من قلبه ويلقي بالمشاعر وراء ظهره في سبيل تحقيق حلم السيطرة وفرض الجبروت.
وما كان لامبراطوريات الشرق وامبراطوريات الغرب في العالم القديم والجديد أن تسود وتتعملق لولا قانون الغلبة المعتمد على صراع القوى، وبه يتحقق النفوذ وتتم الهيمنة حيث لا احتكام سوى لمنطق القوة لا العقل وهكذا عاشت أسلافنا النسوية معيشة الاذلال والخضوع لكبرياء الآخر المتغطرس والقوي وقد كُتب عليها أن يشطب فعلها المؤسس أو الريادي فلا تتطلع الى أي شيء من هذا القبيل أو تفكر بالظهور علناً إلا تحت وصاية الرجل وبموافقته وعلمه.
ولعل من تبعات هذا الوضع أن فرضت الأبوية على المرأة أن تظل في صيغة الحاجة التي تلبي نزعات التناسل والبقاء والتكاثر التي هي أهم الحاجات التي تتطلبها المجتمعيات الأبوية وأكثرها ضرورية إذ بها تفرض عسكرتها وتبني سلطانها وتحقق أحلامها في الهيمنة والامتداد والتوسع.
وقد لا يكون الضرر في أن تصبح المرأة حاجة بهذه الاهمية التي لا يمكن التنازل عنها أو الاستغناء عنها بغيرها؛ بل الضرر أن ذلك كان قد حال دون أن توطن نفسها في مرتبة قيمية تماثل أو تناظر وضعها الأول وضعها الريادي الذي سلبه منها الرجل وهذا بالتحديد هو ما جعل الأبوية تغاير الأمومة ليكون شعار الشعارات التي تحملها الأبوية هو الهيمنة بوصفها لب الوجود ومركزيته وأن أساس الاساسات هو تبعية الفحولة والرضوخ لها طوعاً أو كرهاً.
وهكذا تقادمت القرون وتناسلت العصور وتتابعت السنون فتباعدت العوالم البشرية بفعل التقسيمات الكولونيالية والهيمنات الاستعمارية التي جعلت من العالم منقسما الى عوالم عليا ودنيا ونامية .
ومن ثم تقاربت تلك العوالم بفعل الانفتاحات ما بعد الكولونيالية العولمية التي كان من توابعها الثورة المعلوماتية الرقمية والتكنولولوجية لتغدو الأبوية اليوم بمثل حالها بالأمس بذات الهيبة والهيمنة والسطوة والاعتداد مع بعض بوادر تضعضع مرتكزات صرحها العتيد بفعل ما أنتجته هي بنفسها من وضعيات الانفتاح والانفلات والتقارب سائرة باتجاه تدمير نفسها بنفسها.
وعلى الرغم من أنها ظلت ماسكة للعصا من الوسط تفرض هيبتها على الآخر طوعاً وقسراً؛ إلا إن هذا الآخر ما عاد مفروضاً عليه أن يكون مغلوبا كما كان في العالمين القديم والاستعماري؛ بل غدا في العالم الجديد العولمي أو ما بعد الاستعماري ذا تأثير لا ينكر وحضور لا يوارى وليكون وصف المرأة بالجنس الاخر أحد المقوضات التي أرادت النساء المطالبات بالتحرر تفتيتها تخلصاً من جور الذكورية التي آثرت الابقاء على حالة الغلبة لصالحها فارضة ذلك كاحد الثوابت التي لا تقبل الزحزحة او التغيير.
وبسبب التغييرات الجيوبولوتيكية والستراتيجية التي خلّفتها الحرب العالمية الثانية أخذنا نشهد قيام نشاط أمومي جديد تتشكل بذوره من نساء واعيات طموحات ومتطلعات لاستعادة ريادتهن التي سُلبت منهن، فنادين بحقوقهن ورفعن شعارات سلمية واحتججن بعنفية وقدمن تضحيات وهن يردن إبداء آرائهن الطليعية في أن تكون الأمومة خيراً لا وبالاً على جنسهن وهكذا بدت بوادر هذه التنويرية النسوية والثورية الأمومية تتصاعد ضد الأبوية لتؤتي أُكلها في الغرب ما بعد الكولونيالي سواء في الولايات المتحدة الأميركية أو في الدول الأوروبية وبعض الدول الأخرى.
وأخذت بعض المطالبات صفة شرعية أيدّتها فيها المؤسسة الذكورية الراديكالية نفسها بعد أن اقتنعت أن الوقوف بوجه هكذا تطلعات ستكون عاقبته وخيمة عليها فصارت تقف إلى جنب بعض مطالب النسوية على سبيل المداراة والمجاملة ومن طرف خفي لعلها تمتص نقمة الاحتجاج الذي ما أن تبلور حتى غدا بمثابة فتيلة موقوتة لها تبعات خطيرة ومدمرة لذلك ظلت الأبوية في هذا المضمار مهادنة لا طائعة ومخاتلة لا مؤيدة ومتوجسة لا مناصرة.
وتبقى الحاجة لبناء نظرية ستراتيجية للهوية النسوية قضية ملحة نظراً للحاجة الماسة إلى وجود أنساق ايديولوجية نسوية تعتنقها المرأة عن وعي، وبما يلهمها مزيداً من الأمل بالانعتاق من السطوة.
والسؤال الذي ظل ملاحقاً النسويات الجديدات هو ما الشوط الذي قطعنه وهن يناضلن في سبيل إعلان بنات جنسهن قيما لا حاجات ؟ وهل استطعن أن يرأبن صدع الانكسار الذي تركته جداتهن في جسد التاريخ البشري ؟ وهل سيكنّ قادرات ـ بما سيتاح لهن من امكانات ـ على تغيير خارطة الثوابت والمبدئيات التي بذلت الأبوية، الغالي والنفيس في سبيل ارسائها وتوطيد كيانها، حتى صارت جذورها من القوة التي لا يستطاع معها رؤية نهايات تلك الامتدادت أو معرفة أبعادها؟ وما الذي جعل مرتكزاتها من الثبات الذي لن يفك عراه تفكير نسوي مثابر وحثيث ليغدو من ثم اجتثاث أعماق هذا الثبات الفحولي وزحزحة المتأصل منه أمراً غير وارد إن لم يكن محالاً.؟
ومن جملة الاسئلة التي تستدعي الطرح والنقاش أيضا ونحن بصدد النسوية العربية : لماذا لم تأخذ النسوية العربية اليوم خطاً نظرياً واضح المعالم؟ وهل يصب التعدد النظري للنسوية الغربية في صالح النسوية العربية ؟ وما الدور الذي أدته الكاتبة العربية على طريق تعزيز الأدب النسوي وترصين قواعده وفرض نظرياته؟ وما موقع النظرية النسوية بين النظريات الأدبية والنقدية الأخرى ؟ كيف ستجد الجماليات النسوية وجودها في عالمنا العربي ؟ ما الدور الذي قامت به الناقدة العربية بازاء النظريات النسوية ؟ والى أي الحدود انطلقت الاكاديميات النسويات في البرهنة على نجاعة التوجه النسوي؟ وما المحددات التي فرضتها المؤسسة الأبوية العربية على مشروعية الانطلاق للنسوية كنظرية ومنهج ومدرسة ؟ ولماذا ما نزال ندور في حلقة مفرغة ونحن نطرح رؤانا النسوية ؟ لماذا يتم الخلط بين النسوية كاشتغال فني أدبي ذي صلة وثقى ومباشرة بالكتابة الابداعية وبين النسوية بمفهومها التايبوغرافي والجيوبولوتيكي العام ؟
وهل انعكست الدعوات الى أدب نسوي في ظهور نتاجات نسوية بالمعنى الاصطلاحي ؟ ولم لا نشهد بزوغ ظواهر أدبية واضحة وبينة كتبعة من تبعات الانخراط في هذا الادب؟ وهل تلقى الدعوات الى الكتابة الادبية النسوية ترحيباً عند الرجال أكثر أو عند النساء ؟ أ باستطاعة النسوية أن تقهر العبودية أم انها عززت تلك العبودية وشرعنتها؟ ولماذا لا نجد بوادر لملامح شيوع النسوية كمنهج عمل وبرنامج مستقبلي للتحرر والتخلص من أسر التبعية والانصياع للمنظومة الفحولية؟
ولعل سؤال الاسئلة كلها مما ينبغي أن يتقدم على أي سؤال آخر أو لعله يصادر الأسئلة القبلية والبعدية كلها هو هل باستطاعة النساء موازاة الرجال وقلب معادلة الصراع ليكون الضعيف بجانب الغالب والقوي، مساندا المغلوب على افتراض أن الرؤية الواقعية تحتم الاتزان العقلاني في التعامل مع الاشياء وقياسها قياساً دقيقاً بحجومها وأبعادها ومساحاتها ليكون المتحصل سليما بالمنظور المنطقي؟
ثم ما دليل انهزام الرؤية الواقعية للفحولة بازاء الرؤى التطلعية للنسوية ليغدو المرأى التطلعي هو الغالب في رهان إثبات السيطرة والاستحواذ؟!!
وإذا افترضنا أن ذلك قد تمَّ على نحو إيجابي صوب الاستحواذ النسوي على مجريات الحياة الإنسانية، فهل ستمارس المرأة استبدادها على الرجل ليكون في ذلك السلوك تبعة من تبعات الفحولة التي كانت في ما مرَّ وجرى قد مارست ـ أي الفحولة ـ ذلك جاعلة الوصف بـ(الجنس الآخر) وصمة على المرأة وليس لها ؟ أم أن النسوية ستتناسى ضغائنها وأحقادها وستتنكر لكل ما أصابها من ظلم وحيف وقهر وعدوان وتهميش لتقول كلمتها التي قالتها أسلافها النسويات الرياديات اللواتي صنعن العالم بحبهن وبراءتهن وليس بالقوة والمكر والدهاء ؟!!.
وما دامت دونية المرأة قائمة؛ فإن الإجابة عن هذه التساؤلات ستظل مرجأة لحين استعادة الحياة نصابها الأول لتغدو الحياة مسالمة ومتكاتفة ومتكافئة يتقاسم فيها كل من المرأة والرجل أدوارهما الحياتية صانعين حياة متجددة لأجيال قادمة تتعاون لكي تتصالح لا لكي تتصارع.
أو لعل أرجاء الإجابة سيطول الى ذلك الوقت الذي فيه سيعلن أن ما بقي للبشرية من وجودها أقل بكثير مما مضى ولعلها تتدارك خطأها وتصلح حالها وتعيد المياه الى مجاريها وتعطي كل ذي حق حقه وبدون ذلك الفعل لن يكون هناك مناص من الندم والبكاء على حياة ما استغلت من قبل البشر الاستغلال الأمثل ليكونوا متعاونين متحابين لا متعادين ومهيمنين.
وليس خافياً أن المؤسسة االذكورية ما كان لها أن تصنع ثقافتها لولا أنها عزمت على ذلك ولعل من أهم ملامح ذلك العزم أن جعلت الثقفيف سائراً لصالحها بدءاً من التعليم الأساس الى الثانوي والعالي، موجهة الكتب المنشورة مدرسية كانت أو غير مدرسية رسمية وغير رسمية نحو التركيز في مقرراتها الأدبية على الأدب الذكوري التراثي منه والمعاصر لتنشأ الأجيال ذات ذائقة لا تخالف ذائقة المؤسسة العتيدة حاملة معاييرها ومحتضنة أفكارها وراضخة لسلطانها.
وبذلك الفعل وبغيره وهو كثير، تمكنت وتتمكن تلك المؤسسة من تحجيم دور الخطاب النسوي في الثقافة المطبوعة مقابل تضخيم الخطاب الذكوري جاعلة منه معياراً للتفوق وسبباً من أسباب النجاح.
ومن هنا تأتي أهمية أن يكون للإبداعية النسوية حضورها لا على صعيد الممارسة الثقافية وانما قبله المقررات الدراسية لمراحل التعليم الأولي منها والجامعي والعالي ايضا وبما يعزز لدى الأجيال الحالية والقادمة معرفة وثقى بهذا الإبداع. والغاية من وراء ذلك كله توكيد دور المرأة التي طالما عدتها الحاضنة المركزية نداً وغريماً ولم ترها متفاعلة ومشاركة.
وكثيرة هي الكتب التي حاولت الخوض في النسوية وحيثياتها الفكرية والإبداعية. وقليل من ذلك الكثير يمكنه التأشير على نواح تستحق الوقوف عند فروضها وبراهينها ومحصلاتها.
وقد يسعى أصحابها إلى توظيف إمكاناتهم المتاحة في هذا السبيل بناء على مقصدية معلنة وأخرى مغيبة الأولى تشتغل في الظاهر والأخرى تعمل في الخفاء. الأولى تتجلى ببساطة وهي أمينة العواقب ولكن الأخرى لا تتجلى إلا عبر الإمعان والتأمل واستفاضة النظر ومقاومة التبسيط الذي تستدعيه المقصدية الأولى ومن هنا تبدو المقصدية المخفية والمتدارية أشد خطراً وأكثر تعتيما ومخاتلة من المقصدية المعلنة والمجاهِرة.
وقد وجدت نظريات النسوية والأنثوية والأنوثة والجندر والآخر وغيرها من النظريات مرتعها الخصب في النقد الثقافي الذي انبثق في مرحلة الانفتاح ما بعد الكولونيالي لكي تصب في باب واحد هو التحرر والمساواة والانعتاق والتي تعد من الموضوعات الأثيرة بالنسبة للحركات النسوية المطالبة بالتحرر والمساواة.
وليس في ذلك بذر لعقدة التفريق والانقسام بين كينونتين إنسانيتين شهدتا مغالبة وتسيداً واستبداداً لأحداهما على الأخرى بل لأنها موضوعات تريد الانتصار للمرأة عبر إعادتها إلى وضعها الحقيقي الذي يتناسب مع تكوينها وطبائعها من جهة ويتواءم مع الآخر/الرجل من جهة أخرى، لكي يؤديا المهمة الأساسية وهي إدامة الحياة بالتجدد والنماء.
ومن هنا يقتضي القيام بمهمات النسوية التحلي بمرجعيات ابستمولوجية وخلفيات شاملة مستمدة من مختلف التيارات والرؤى والمعطيات والأدبيات الإنسانية المندرجة تحت مختلف حقول المعرفة الإنسانية..
ولا غرو أن امتلاك مثل هذه المرجعيات سيتيح للمتصدي للدراسة النسوية كاتباً أو ناقداً أو باحثاً، الأدوات التي بها سيكتشف المغيب ويحفر ليجد المخبوء والمستور ويسفر عن المجسات التي تبدد العتمة وتجعله يرى الأقبية أو الحجابات رؤية واضحة جلية.
وبما يجعل صاحب تلك المرجعيات متحرراً من تاريخية الذكورية وأديولوجياتها مستعيداً ذلك الحس الفطري الذي جبلت عليه النفس الإنسانية وهو محبة الآخر والنظر إليه على أنه كل لا جزء وفاعل متفاعل وواضع لا موضوع.
فلا تكون معطيات الدراسة مندرجة تحت عباءة الأبوية وانما مبنية على نظريات النسوية كشفا لانساق غابت واختفت في ظل استبداد الحاضنة الفحولية الموغلة في القدم، ونشدانا للانتصار للنساء لا مجاملة أو تحببا بل مناصرة للمنطق، ومجادلة بالدلائل والحجج التي قد تكون كفيلة باستكناه أصول منهجية نقدية تتيح عقد المقابلات وتحديد الثنائيات ومحو الملابسات لتنكشف الحقيقة ويتجلى للعيان ما هو مخبأ عن المرأة ككينونة إنسانية وإبداعية.
ولعل من أولى تجليات هذا التنازل عن الذكورية الاحتفاء بالمضمر والمغيب وعدم التسليم بالمعلن والثابت والمكشوف.. وليس لذلك سبيل إلا بالقلب والدحض والنقض والانتفاء الذي قد يطال الشخصية الذكورية نفسها ويسفه أحلامها وآمالها في الهيمنة والاستعلاء وقد يشكك في فاعليتها والمديات الزمنية القادمة التي ستستطيع بها أن تثبت قدرتها على رفع لواء الاستبداد وقد يصدمها أن مدياتها ليست من الارتكاز الذي يجعلها متفائلة أو مزهوة.
وإذا كان الفضل في كل هذا التنوير والتثوير والانشقاق عائد إلى الغرب وحركاته التي قادتها نسوة أحسسن بأن حقوقهن قد سلبت منهن وأنهن بحاجة إلى أن يثبتن حضورهن ويؤكدن دورهن اللاعادي في الحياة..؛ فإن المرأة العربية في ظل المنظومة الثقافية الذكورية هي الأحوج الى أن يكون لها مجال مماثل فيه تبدي آراءها وتعبر عن تطلعاتها.