الأمومية صفة جينالوجية من صفات المجتمع البشري مخصوصة بالكيان المؤنث، وهي تقابل الأبوية التي هي صفة جينالوجية مخصوصة بالكيان المذكر.
ومن الطبيعي أن تكون هاتان الصفتان المخصوصتان بالاختلاف هويتين جنوسيتين تجمعهما لا محدودية العطاء العائلي واتحادية التضافر المصيري إزاء المنتج البشري الحاصل من اجتماعهما المتمثل في الأبناء الذين تتحد فيهم اختلافية الأبوين وفيهم تتجلى البنوة كمحصلة للأبوة والأمومة ، ليس من الناحية التكوينية الفسيولوجية حسب؛ وإنما من الناحية الحياتية الاجتماعية والتربوية والأخلاقية أيضاً.
وفي عطاء الأبوين ولا محدوديته تتجسد نواميس الطبيعة وفعلها النظامي الذي يعطي كلاً منهما ما يناسب تكوينه واستعداده. فالأم في مقدار ما تعطيه من الحنان والأمان والاحتضان يكمله عطاء الأب الذي في ما يبذله من جهد وحرص وما يقدمه من تضحية وإيثار تكون العائلة وتكبر ويتمكن الأبناء من أن يكونوا رجالاً ونساء فاعلين.
وهو ما عرفته البشرية منذ أولى صور تشكلها قبل آلاف السنين، فكان العقل والجسد يعملان بتوافقية اختلافية نتيجتها بنوة ستكون سبباً للامتداد الحياتي ذاته . هكذا توطدت مكانة الأم في المجتمعات البدائية من خلال الأب بشكل لاشعوري فيه البنوة هي نتاجهما وليس نتاج أحدهما ومن ثم لا عائدية يمكن لأي منهما أن يطالب بها دون الآخر، فأبوة الأب هي في بنوة الأم التي تحتويه وتحتوي أبناؤه معاً.
والعائلة كتشكل مجتمعي تطرأ في مدد زمنية متباعدة وطويلة على علاقات القرابة والنسب وتراتبية التأثير والقيادة فيها تغيرات، أما تطوراً وأما اختفاء واستحداثاً على مستوى المكان والزمان والثقافة واللغة والأخلاق والفلسفة والتربية والسياسة والاجتماع.
وما أن صار الإنجاب هو الغاية التي تقف إلى جانبها غايات أخرى منها الاستقرار والأمان والتواصل والأخذ والعطاء صارت الأنثى بالنسبة للذكر هي الأم التي فيها تتجسد كل الغايات فهي التواصل الدائم والعطاء الذي لا حدود له، وحضنها يتسع للجميع وعقلها فاعل يمكنه أن يفسر الغامض والمخيف والطارئ ويمنح الحب بلا حدود.
ولأن فيها كل ما تقدم إخصاباً وإنجاباً قدّسها الرجل ورأى نفسه ابنا لها صنعته هي ومنحته الحياة. ولكي يظل حياً عليه أن يطيعها ويتبع أمرها. وكانت محصلة هذا الفهم الأمومي المبكر ولادة مجتمعات بشرية تؤمن بالأم الكبرى حكيمة وملكة. ثم تشكّلت الأساطير التي هي تفكير يعطي للإنسان الوهم بأنه يفهم العالم وبها حاول الإنسان فهم الكون وكانت المرأة تحتل فيها مكانة إلوهية مقدسة بوصفها الأم الكبرى منتجة البشر. وهذا الفهم وأساليب التعبير جعلت ليفي شتراوس يرفض تسمية هذه الشعوب بالبدائية وفضّل تسميتها بالشعوب التي لا تكتب أو دون مستوى الكتابة without writing أو الشعوب دون مرحلة الكتابة، نظرا لقدرتها على القيام بالتفكير وعقلها الإنتاجي كان منزهاً عن الهوى، يتحرك من خلال الحاجة والرغبة لفهم العالم المحيط بها.
وكان انجلز قد حدد تاريخية المرحلة الشفاهية بأطوار فالطور الأول وحشي وفيه كانت علاقات البشر جماعية بنظام قرابة وزواج داخلي وخارجي ثم جاء الطور الثاني وكان بربرياً فيه عرف الفن الفخاري فصار الفهم الأمومي يتجلى ايقونياً في شكل تماثيل الأم الكبرى الإلهة. وفي هذين الطورين كانت المرأة تتمتع بالحرية وشغلت مركزاً مشرفاً جداً في العائلة التي كانت نواة مجتمعية نشيطة وفعالة تطورت مع الزمن بعكس نظام القرابة الذي ظل خاملاً لا يتطور إلا بعد مرور حقب طويلة من الزمن. ولا تعني الهيمنة في العصر الوحشي ما تعنيه في العصر البربري فقد تغيرت بعض تراتبيات التأثير وعلاقات القرابة فالنساء كن ينتمين جميعهن أو أغلبهن إلى القبيلة نفسها بينما كان الرجال ينتمون إلى قبائل مختلفة.
ويستدل على هذه المرحلة بدلائل عقلية وإثارية هي بمثابة مؤشرات على تراث أسطوري كانت فيه للنساء مكانة مهيمنة بفاعليتهن الروحية والحياتية وعلاقاتهن الاحتوائية بالأزواج والأبناء. وهذا الاحترام الذي نالته المرأة في المجتمع الطفولي هو تعبير طبيعي لحالة التضاد التي فيها الأنثى ليست كالذكر في ظل حياة فيها لكل من الأنثى والذكر دوره الاختلافي الذي عائديته دوماً اتفاقية ونفعية.
وما دام الإنجاب هو حاجة الإنسان الأولى ظل العقل البشري فاعلاً باتجاه توازني فيه للأم وللأب وللأبناء مكانة وانتفاع من هذه التوازنية، فهم يشتركون في تشكل كيان العائلة التي هي النواة الأولى في تشكيل المجتمع البشري ومن مجموع العائلات تتشكل القرى ومن مجموع القرى تتكون المدن والدويلات ثم المستعمرات والممالك التي منها نشأت حضارات العالم القديم.
ولم يكن للعائلة في نشوئها الأمومي تاريخ خاص بها ولا بعلاقاتها البطريركية، فتنتمي إليه كل متعلقات التكوين الأمومي والأبوي ولكن كانت هناك نظريات درست العائلة وعلاقاتها ومكوناتها ومنها النظرية الطوطمية التي وضعها ماك لينان ومكلبتان عام 1881.
وفي ستينيات القرن التاسع عشر استعمل باخوفن الألماني مصطلح الأمومية لأول مرة في كتابه ( حق الأم) عام 1886 وفيه درس التقاليد الشفاهية للأساطير والشعائر والفلكلور باحثاً عن جذر الأمومية داخل العائلة في أول تشكلها التاريخي ليكون أول مجترح لتاريخ مغيب هو تاريخ العائلة. وكان لتاريخ باخوفن العائلي أن يتطور لو أن اهتمامه تجاوز الأطر الدينية المحددة وتعداها إلى الجوانب الأسطورية والأخلاقية والسياسية الداخلة في تشكل ثقافات الشعوب الأولى وحضاراتها.
هذه الشعوب التي توصف بالبدائية والطفولية والوحشية والجلافة والعلاقات الجنسية بين أفرادها علاقات غير محددة ولا نظامية؛ فوضوية أطلق عليها العلاقات الهيتيرية وهي بالعموم تنطوي على البراءة واللاقصدية لكنها كانت توازنية لأن البشر عاشوا فيها حياة كان فيها للمرأة حقها بوصفها الأم الوالدة للعائلة وللعشيرة. وبسبب ذلك الحق تمتعت النساء الأمهات باحترام وتقدير بوصفهن الأصل الذي ينتمي إليه الأبناء أو ما سمي ( جينيكوقراطية ) أي حكم النساء كما ذكر انجلز الذي رأى أن هذا الانتماء هو الأساس الفعلي في الهيمنة التي كانت تتمتع بها المرأة البدائية في العصر الوحشي في كل مكان.
ومع تطور الجماعات البشرية وتوسع مجموعاتها في العصور اللاحقة ولاسيما في عصور الكتابة حتى صارت الغلبة والقوة حاجة إلى جانب الحاجة إلى الإنجاب فاستغلت احتوائية المرأة ورحمائية علاقتها بالعائلة واستحوذ الأبناء الذكور على مكانتها الروحية والحياتية، وحل حق الأب محل حق الأم.
بمعنى أن المجموعات البشرية الأمومية التي تنوعت طرائق معيشتها ولغاتها كانت محتاجة إلى قوة جسدية تنظمها وتقودها كي تواجه غيرها أو تتوسع على غيرها وهكذا تغيرت نظرة الذكر /الأب للأنثى / الأم ولم يعد الرجل يرى نفسه ابنا لها أو صنيعة من صنائعها وإنما هو بقوته التي تحتاجها عملية تنظيم المجموعة البشرية ستكون له الأفضلية لسبيين: السبب الأول أن المرأة بعطائها الأمومي الذي لا حدود له لن تكون إلا إلى جانبه ما دام النفع يعود على الأبناء والسبب الثاني أن أفضليته لن تضرها لأنها تظل مالكة العقل الذي يملكه.
وغدت المجتمعات الأبوية مجتمعات بربرية استحواذية فيها الأب هو الابن الذي سلب أمه سيادتها وبعد أن كان هو التابع لها صارت هي التابعة له الخاضعة لقوته الحاكمة وإلوهيته المقدسة وملكيته الفردية داخل دويلات ومدن وممالك منها تشكلت أولى الحضارات والدساتير ليكون العصر الأبوي عصراً ذكورياً فيه عُرفت الكتابة ومعها ابتدأ التاريخ البشري المدون.
وما عادت المرأة هي الأم الكبرى وإنما هي الخادمة التي عليها أن تخضع لقانون جديد هو ليس قانون الطبيعة القائم على الثنائية الجدلية وإنما هو قانون الغاب القائم على الأحادية المطلقة التي فيها الغلبة للأقوى.
وعلى الرغم من ذلك الاستحواذ فإن المرأة ظلت إلى عصر الحضارة لها الغلبة في أداء الأعمال المرهقة الملقاة على عاتقها كما أن التراث الأسطوري الشفاهي ظل يتناقل ميثولوجيا كتاريخ مفتوح وقابل للتكرار وكنوع من الوراثة المشتركة لكل المجموعات والقبائل والسلالات.
ويدعم التفكير العلمي التفكير المثيولوجي حول عملية الانتقال الجينالوجي بين الأجيال البشرية، فأما التفكير العلمي فينظر على وفق نظام بايولوجي تنتقل عبره الصفات الجينية بطريقة انتقائية من الأم والأب إلى الأبناء. فتكون الأمومة التي هي علم اشتراك القرابة من طرف الأم، والأبوة التي هي علم اشتراك القرابة من طرف الأب حصيلتهما البنوة التي هي علم اشتراك عائدية القرابة التي بها يكون الأبناء امتداداً عائلياً لأمهاتهم وآبائهم في سلوكهم وأعمالهم ومواهبهم وانجازاتهم.
وأما ميثولوجية الانتقال الجينالوجي فشفاهية كامنة في الذاكرة التي عبرها تنتقل العادات والطقوس والأعراف الاجتماعية عبر الأجيال انتقالاً لا واعياً وبطريقة طبيعية لا إرادية فلا تستبعد فيها أية ممارسات ثقافية ما ورائية كانت قد تجسدت في العائلة على مر الأزمنة وضمن أمكنة معينة.
وتظل للمرأة في الفكرين العلمي والأسطوري مهامها في إدامة النوع البشري كما للأب مهامه في نشأة العائلة غير أن ناموس الطبيعة أعطى للأم عطاء يفوق ما للأب من عطاء وهذه الفائقية ليست اختلافية كون العطاء فيها ليس تضادياً؛ وإنما هو حتمي كنظام عليه يقوم الوجود كله والمتمثل في ديالكتيكية التضاد حيث الزمان نهار وليل والمكان بر وبحر وارض وسماء والأشياء حية وجامدة والبشر ذكور وإناث. والنتيجة الانتظام الطبيعي الناجم عن تآلف ما هو متخالف حتى لا احتمال للزلل أو اللاانتظام.
والسؤال هنا إذا كانت المجتمعات ما قبل الكتابة أمومية فما الذي جعلها في عصور الحضارة وتدوين التاريخ تصبح مجتمعات أبوية ؟ لماذا لم تتطور الأمومية وتؤسس لها نظاماً خاصاً مع تطور المجتمعات من زراعية إلى صناعي إلى ما بعد صناعية؟ وإذا كانت العائلة على مر التاريخ هي النواة التي منها تشكلت الحضارات فلماذا غاب الدور الأمومي بوصفه عنصراً في تشكيل العائلة ؟ ولماذا استفز تمركز المجتمع حول الأمومية الذكور وجعلهم يمركزون المجتمع حولهم أبويا ؟
أ لأن الأول مجتمع حر غير منتظم وغير عدواني بفكر غيري والثاني مجتمع منظم وقوي بأنانية فكرية ؟ وما دام الفكر الميثولوجي سكونياً قار في ذاكراتنا فما مقدار حاجتنا إلى أن نعيد إنتاج هذا الفكر تاريخاً وانثروبولوجياً بحثاً عن مغيباته ومسكوتاته وتحريفاته وكشفاً عن الأسباب التي أدت إلى السيطرة التي غيبت الأمومية ومركزت الأبوية ؟
بدءاً لا بد من التمييز بين الامومية عصراً والامومية نظاماً، فالأولى كانت موجودة لكنها تلاشت مع انتهاء العصور الوحشية وما كان يسودها من علاقات فوضوية ومشاعية في الزواج والقرابة، بينما تمثل الأمومية بوصفها نظاماً لوظائفية المرأة داخل المجموعة التي تنتمي إليها وتتمثل تلك الوظائفية في الإخصاب والإنجاب والإرضاع والحضانة والتربية.
وعلى الرغم من أن دحض أهمية هذه الوظائفية أو نكران فاعليتها غير ممكن بأي حال من الأحوال؛ فإن النظام الأمومي الذي يؤدي هذه الوظائفية ما زال غير معترف به أخلاقياً ولا مفكراً فيه بجدية.
وبات منطقياً وطبيعياً أن يذهب الظن عند سماع مفردة الأمومية إلى العصور الوحشية حيث تعددية المجامعة وفوضى الاتصال بين الذكور والإناث، ويستبعد معنى الأمومية كنظام أنثوي له فكره الذي له تاريخه الخاص أيضاً.
والسبب وراء هذه النمطية الذهنية هو الفكر الأبوي الذي نظم العلاقات تنظيماً بطريركياً، فأعطى فيه المركزية لنفسه وزحزح الأمومية إلى الأطراف فصارت هامشاً وظلاً تابعاً بلا أولوية مع أنها هي الأصل والأساس. وساهم اختراع الكتابة في إقامة الدساتير ووضع القوانين وكذلك نشوء العلوم وأهمها الفلسفة وهذه كلها وجهت توجيهاً ذكورياً ساعد في تعزيز هيمنة النظام الأبوي ليكون نظاماً راسخاً مع مر العصور.
فكأن غياب المرحلة الشفاهية الوحشية والبربرية مع ظهور الكتابة قد أسس لوحشية عصرية من نوع جديد هي وحشية الغلبة والاستئثار حتى ليبدو أن ما شذّبته عصور لاحقة لعصور الوحشية لم يكن تشذيبا كاملا وتاما وإنما تسربت منه إلى حياة البشر ممارسات صارت بمثابة أنظمة وقوانين نظمت العلاقات بين الجنس البشري على مبدأ تفاضلي فيه يستفرد الذكور ويشيع الفكر البطريركي فيغيب الحق الأمومي ويكون النفع للحق الأبوي وحده. أما النساء فمجرد توابع ثانوية ووسائل بشرية يتعزز بها نفوذ الذكور.
وغدا من مفارقات التاريخ البشري أن الامومية ـ التي هي حاضرة وفاعلة كفعل فسيولوجي وممارسة وظيفية مغيبة ـ بدت كأنها ليست نظاماً له مواضعاته والياته ومحايثاته وإنما هي هامش يمد المركز بالانفرادية والمركزية التي بها أصبح التاريخ واللغة والأدب والفن والفلسفة صنيعة الفكر البطريركي. وفي هذه المفارقة تتجلى مأساوية الوجود الموضوعي للعالم التي فيها صارت القوة قانوناً والصراع بين الخير والشر أزلياً وباتت المجتمعات البشرية تستغل بعضها بعضاً بقوة السيف الحديدي.
ومن دلائل هذه المفارقة في الاستحواذ والهيمنة ما نقلته إلينا مدونات الآداب القديمة التي فيها البطولة فردية ومحسومة لصالح الذكور وقد غُيب الفكر الأمومي من خلال تحريف دور الإناث في الأساطير لكن ذلك التحريف يظل على مستوى الكتابة فقط بينما حفظت الذاكرة الجمعية اللاواعية شفوياً ميثولوجيا التراث الأسطوري الذي فيه المرأة كائن له سيادته وقدسيته جسداً وعقلاً.. ناهيك عما خلفته الحضارات من آثار ومنحوتات تدلل على عصر ذهبي، فيه كانت المرأة هي الأم الكبرى الحاكمة والحكيمة والقائدة بالود والملكة بالسلام.
وعلى الرغم من جينالوجيا تلك الآثار المرئية واللامرئية وانثروبولوجيتها الفكرية؛ فان الكتابة ظلت دالة قوية من دلائل شرعية النظام الذكوري التي ترسخت في الأذهان حتى ليتوهم كثيرون اليوم بأن النظام الأبوي هو الأصل وانه الينبوع وليس للأمومية أي جذر أو نظام.
وصحيح أن معرفة البشر للكتابة وضعتهم على أعتاب الحضارة غير أن الكتابة وظفت فكرياً أيضا توظيفاً استقطبه الذكور لصالحهم فكانوا هم صانعو الحضارات وهم الذين دونوا التاريخ وأنتجوا الآداب والعلوم بيد أن الأمر الخفي وراء ذلك الاستقطاب فكرا استحواذياً مارس الخديعة والمكر مزيفاً الدور الأمومي في سبيل إثبات شرعية سيادته، فشوّه مثلاً حين دوّن الملاحم دور الآلهة الإناث وجعلهن شيطانات وشريرات وعاقبهن مؤكداً غلبة الآلهة الذكور، وجاعلاً البطولة دوماً في الرجال.
والأمر نفسه نجده في المسرحيات التي كتبت وفيها انبثق الفكر الذكوري بطولياً مجلبباً بجلباب تقديسي كما في مسرحيات اسخيلوس التراجيدية التي فيها الصراع الدرامي يستلب حق الأم من اجل إثبات حق الأب كما في ثلاثية اورستيا التي فيها الأم كليمنسترا يقتلها ابنها اورست وذلك انتقاما لأبيه ولأن قتل الأم جريمة لا تغتفر طاردت الايرنيات الشيطانات اورست استرداداً لحق الأم المقتولة وهنا يظهر الإله ابولو واقفا إلى جانب اورست متوسطا الآلهة أثينا كي تعفو عنه.
وهذا الانحياز للأبوية في المسرحيات الإغريقية جعل انجلز يرى أن شكل العائلة التاريخي ظهر بكل صرامته عند الإغريق ممثلاً في الميثولوجيا التي تصور لنا عهداً أسبق شغلت فيه النساء مركزاً أوفر حرية وتقديراً واحتراماً وهو ما تغير في العهد البطولي فغدت المرأة منحطة المقام من جراء سيادة الرجل ومزاحمة العبدات. وعن ذلك يقول انجلز:" حسبنا أن نقرأ في الأوديسة كيف يقاطع تيلماك أمه ويجبرها على السكوت. وفي مؤلفات هوميروس تصبح النساء الشابات الأسيرات عرضة لأهواء المنتصرين الجنسية"( أصل العائلة والملكية الخاصة، ص43)
ولم تكن الآثار الأدبية وحدها المجسدة للفكر الذكوري بل نجده مجسداً أيضاً في الآثار الفلسفية ولاسيما ما كتبه أفلاطون وأرسطو عن المرأة ودورها في المجتمع. فأرسطو الذي استلهم أفكار أستاذه أفلاطون في الإمرة والطاعة والاستعلاء والانحطاط أكد أن الذكر سيد بالطبع على المرأة والعبد بوصفهما متوحشين مخصوصين لغرض واحد وكائنين من طبيعة واحدة، وأن للرجل العقل وليس للمرأة سوى إرادة ناقصة.
وعلى الرغم من إقرار أرسطو بالتشاركية العائلية المتمثلة باجتماع كائنين لا غنى لأحدهما عن الآخر كنزعة طبيعية إلى أن يخلف تشاركهما موجوداً على صورتهما ـ وليس صورة احدهما ـ فإنه جعل الطبيعة نفسها ذكورية حين تصورها ترمي إلى كائنات مخصوصة للإمرة هي الرجال الأسياد والملاك وبعضها مخصوصة للطاعة هي النساء والعبيد والحيوانات. وكأن الطبيعة هي التي أرادت للكائن الموصوف بالعقل والتبصر أن يأمر بوصفه سيداً وزوجاً له السلطة العائلية.
ولا غرابة إذا قلنا إن الذكورية في فكر أرسطو نابعة من إيمانه بأنها طبيعية وأنها هي الأصل لذا الرجل عنده هو المتفوق بعقله وله الأولوية، ولم تعنه عصور طويلة سبقت الإغريق عاشت فيها البشرية ببراءة وسلام تحت قيادة امومية فيها المرأة هي الأم الكبرى حيث لا ملكية ولا انفرادية ولا سلطة سوى للنساء.
هكذا ضاع الحق الامومي في خضم الحق الأبوي الذي استحكم نظاماً هيمن على التاريخ البشري المدون لكن ذلك الاستحكام لا يعني أن دور الأمومة كنظام شرعي انتهى وأن عطاء النساء نضب بل الأمومة والنسوية دائمتان كالنهر يجريان بلا منّة ولا شكران.
ولعل مشاعية هذا العطاء وعموميته هي السر وراء بقاء الأمومية فكراً يتناقل جينالوجيا عبر الأجيال وهي أيضاً السبب في جعل البساط يسحب من تحت قدمي الأمومية لتستحوذ عليه الأبوية. وهذا لوحده يستوجب منا النظر إلى النسوية بوصفها فكراً عمومياً، نظامه شمولي يقوم على برتوكولية التضحية والتسامح والاحتواء والتواد الأصيل والحقيقي.
ولا فرق في عمومية العطاء بين امرأة الأمس وامرأة اليوم لأن العطاء واحد لا حدود له والنظام واحد في حقيقة فاعليته التي غيبها التسلط الأبوي.
وبعبارة أخرى نقول إن الامومية لم تغب تماماً عن عصور الحضارة لكنها تدارت ظاهرياً بينما بقيت ممارساتها شاخصة ومتجسدة فعلياً في ما توارثته الشعوب من العادات والتقاليد المترسخة عميقاً في تلافيف الذاكرة الجماعية التي هي شفاهية ومن تلك الشعوب أمة العرب التي كانت على المستوى الديني لها ميثولوجيتها الخاصة في التعامل الأمومي مع الحياة منذ الحياة الجاهلية الأولى التي فيها شاعت عبادة الحيوانات كإلهة يتقرب بها إلى الله.. وفيها تمثلت ميثولوجية الطوطم الذي كان محصوراً في الأنثى.
أما على المستوى الاجتماعي فإن مرجع القرابة عند قدماء العرب يعود إلى الأم في مسائل النسب وتعدد الأزواج. وقد فسر ( ويلكن) هذه العائدية بأن العرب في الجاهلية كانت تفضل النكاح الوقتي على غيره لذا لم تكن تعرف زواجاً مستمراً ترتبط فيه المرأة مع رجل معين لأجل غير مسمى، بينما فسرها (جواد علي) بفوضوية الغزو التي فيها يتقاتل الإنسان مع الإنسان بما يؤدي إلى انتهاك الحرمات واستباحة الأعراض وتوالد أطفال ليس في مقدور أمهاتهم معرفة آبائهم " لكنه أيد( ويلكن) في ما ذهب إليه من أن الرجل كان يجتمع بالمرأة ثم يتركها ليجتمع بأخرى وهكذا تكون المرأة قد اتصلت بجملة رجال. هذا من جانب ومن جانب آخر كانت العرب تسمي تجمعاتها بتسميات ذات أبعاد أمومية مثل بطن وفخذ ورحم.
وعلى الرغم من ظهور شجرة الأنساب التي كانت ظاهرياً تخضع لنظام أبوي يتمثل في وجود رجال رواة هم حفظة أنساب وكانت مهمتهم تدوين أسماء أجيال من الأجداد والآباء الذكور في كل قبيلة؛ فإن الأمر على المستوى الشفاهي كان يماشي النظام الأمومي متمثلاً فيما حفظته الذاكرة الجمعية العربية من عادات وتقاليد وأعراف فيها الولد يتبع الأم في خصاله. وتظل وجهة النظر العلمية منطقية وهي تؤكد توازنية النظام الحياتي القائم على تشاركية النظامين الأبوي والأمومي في إدامة النوع البشري.