منذ انطلاقه في تشرين الأول 2019، طالبَ الحراكُ الاحتجاجي الثوري –في غالبيته- بإجراء انتخابات برلمانية نزيهة مبكرة وبإشراف أممي وقانون انتخابي منصف ومفوضية انتخابية مهنية، بوصفه سبيلًا لإنجاز التغيير السياسي السلمي دونما هزات صدمية إضافية قد تبتلع الجميع في فراغ سياسي عنفي لا قرارة له.
وبمرور أسابيع ساخنة من الاحتجاجات الحاشدة، اقتنع جزء أساسي من النخب الحاكمة وقتها أن احتواء الشارع الغاضب وتهدئته يمكن أن يمرَ من خلال الموافقة – الظاهرية على الأقل- على إجراء انتخابات مبكرة بعد أن جرى بالفعل تشريع قانون جديد للانتخابات في 24 كانون الأول 2019، يمكن تكييفه بما "يحفظ" لهم إمساكهم بمفاصل السلطة الأساسية بلا خسائر جسيمة.
هذا التوافق بين الموقفين (الاحتجاجي والسلطوي) حول مطلب الانتخابات المبكرة مع اختلافهما في الدوافع والغايات، جرى التعبير عنه عمليًا عبر قرار رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي قبل أيام بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة في 6 حزيران 2021. وهو قرار غير مُلزم –رغم استناده إلى برنامج الحكومة المصادق عليه برلمانيًا- ولا يمتلك سلطة التطبيق الفعلي، إذ يبدو أنه اتخذ في سياق تنفيسي لنقل قطبية الضغوط التي تُمارَسُ على الحكومة إلى ساحة البرلمان والزعامات السياسية المقتاتة على جثة الدولة، ولم يُتخذ في إطار شامل يراعي العواقب السياسية والمجتمعية العميقة المحتملة.
وفي أحسن الأحوال، قد يكون قرارًا جرى اتخاذه –عمديًا- بالاستناد إلى خلفية سياسية مناوراتية، ولا يمثل إرادة حقيقية للحكومة التي طرحته من أجل التفاوض وكسب الوقت، بما قد "يتيح" لها العمل في فضاءِ أقل تقييدًا واستهدافًا من الفضاء العدائي الحالي. فالقرار سيبقى شكليًا أو متاحًا للمزايدة والابتزاز والتفاوض ما لم يسارع البرلمان لاتخاذ الخطوة الدستورية "الحتمية" بحل نفسه تمهيدًا لانتخابات مبكرة، أو قد يعمل على تسويف ذلك إلى أمدٍ غير محدود.
ودون الخوض في أسباب هذه المواقف و"أحقيتها" في إدراكات أصحابهما، فإن تجارب بعض بلدان الربيع العربي، إلى جانب فشل كل الدورات الانتخابية السابقة في العراق في أن تكون ممثلة للإرادة العامة للناس في الاستقرار والتنمية والخروج من الطائفية السياسية، فضلًا عن اشتداد موجات العنف والتطرف والانقسام المجتمعي والاغتراب السياسي وتدهور الثقة السياسية قبل وبعد كل انتخابات، تشير إلى العكس تمامًا من أهداف التغيير السياسي الجذري الذي دعت إليه ثورة تشرين غير المكتملة. وبعبارة، فإن كل تلك الجولات الانتخابية –بالتوقيتات والظروف التي رافقتها- لم تكن إلا وسيلة لإنتاج المزيد من العنف السياسي والتفكك الدولتي. إن الانتخابات بحد ذاتها، مبكرة كانت أو غير مبكرة، لا تشكّل أكثر من شرطٍ واحد – غير مؤكد بشكل مطلق- للديمقراطية، ضمن حزمة متشعبة من الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتداخلة. وهذه الشروط تبدو غائبة (أو مغيبة) إلى حد كبير عن المشهد العراقي، ولذلك فإن إجراء انتخابات برلمانية مبكرة في المرحلة الراهنة، قد يعني توفير فرصة ملائمة لأحزاب وجماعات السلطة لإعادة إنتاج منظومتها الفاسدة بمسميات جديدة (سواء بترشيح الأفراد أو القوائم، بدائرة واحدة أو بعدة دوائر، حسب الأقضية أو حسب النسب السكانية) بسبب قدرتهم المالية واللوجستية الاحترافية على إعادة التكيف مع المستجدات، في ضوء عدم وجود أحزاب وتيارات سياسية بديلة تناظرها في إمكانيات التعبئة والتسويق الانتخابي، بل إن الحراك التشريني نفسه انقسم إلى توجهات متناحرة غير منسجمة، وعاجزة عن بلورة جسم سياسي يمثلها حتى الآن. يضاف إلى ذلك أن السلاح المنفلت حاليًا بيد المجموعات الموازية والمخترقة للدولة معًا، سيكون وسيلة أساسية لتوجيه بوصلة الانتخابات، تستثمرها النخب السياسية الموزعة في استثماراتها السلطوية من بداية الدولة إلى أقصى اللادولة.
إن فكرة الانتخابات المبكرة – رغم أحقيتها المبدئية- تبقى قابلة للنقد والتشكيك، إذ تنطوي –جزئيًا على الأقل-على تفكير رغبوي وحاجة وهمية إسقاطية على المجريات الفعلية للحراك السياسي القادم. فالبنية الزبائنية لنمط السلطة الحالية، يجعلها قادرة على لي عنق الديمقراطية الهش عبر احتواء صناديق الاقتراع لصالحها بأساليب الترغيب والترهيب والتزوير وافتعال أحداث جسيمة لتسويق خياراتها، دون أن يعني ذلك قدرتها على احتواء الاستياء والنقمة والإحباط التي ستتولد من النتائج المخيبة للانتخابات المبكرة. ولا يُستبعد أيضًا حدوث مقاطعة مجتمعية واحتجاجية واسعة محتملة للانتخابات المبكرة، وما تعنيه من إسقاطٍ مبكر لشرعيتها السياسية بصرف النظر عن نتائجها وما سينجم عنها من خريطة سياسية. إن البديل لمطلب الانتخابات المبكرة هو استمرار الحراك الاحتجاجي في التعبير عن قضيته الجوهرية (نريد وطن) العابرة للمطالب الفرعية المناطقية، ولكن ضمن هيكلية تنظيمية وتنسيقية جديدة واقعية، تعمل على تأسيس إئتلافات شعبية تضم كل القوى السياسية والاجتماعية العقلانية المتعطشة للتغيير في عموم البلاد. هذا النوع من الائتلافات سيمثل قطبًا ضاغطًا على الحكومة الحالية، وداعمًا لها –إذا هي استثمرت هذا الدعم-، لكي تمارس التسويف الإيجابي وتأجيل البت المؤكد بإجراء انتخابات مبكرة، بما يتيح لها العمل –جزئيًا على الأقل-على إعادة هيكلة مؤسسات الدولة الفاسدة، وتقديم قتلة وخاطفي المتظاهرين والناشطين إلى القضاء، وحصر السلاح فعليًا بيد الدولة، وتخليص القرار السيادي من التبعية الخارجية ومن جماعات ما دون الدولة، واتخاذ إجراءات اقتصادية إصلاحية استثنائية، وتشريع القوانين الأساسية المؤجلة، وتعديل قانون الأحزاب، وإعادة النظر بمفوضية الانتخابات الحالية، واستكمال تشريع قانون الانتخابات الجديد. هذا سيوفر مدة انتقالية مريحة نوعًا ما –قد تطول حتى موعد الانتخابات الاعتيادية 2022 أو بعدها- تتيح لشباب الثورة ومن يدعمهم تشكيلَ كيانات سياسية إصلاحية عابرة للإسلاموية والهويات الإثنوسياسية، لدخول انتخابات غير مبكرة، يمكن أن تنتج تحولًا سلميًا ملموسًا في العملية السياسية لصالح المطالب الوطنية والطبقية التي اندلعت من أجلها الثورة. وبمعنى أدق، أن تُهيكلَ ثورة تشرين نفسها في إطار سياسي قابل للحياة والنمو والتأثير وقضم المكاسب، يخوض صراعًا انتخابيًا مباشرًا وجهًا لوجه مع المنظومة الحالية، مع احتفاظها بزخمها الاحتجاجي بوصفه رأس المال الثوري المضاد لرأس المال الفاسد. إن الاستثنائية الهائلة التي يتميز بها الوضع السياسي في العراق، على صعيد السلطة المغلقة والشارع المنتفض والفساد البنيوي العميق، يتطلب حلولًا استثنائية غير تقليدية. فالخروج الآمن من الأزمة الحالية لا يمكن أن يتم بأدوات دستورية وسياسية مكرورة فاقدة الصلاحية، مثلما لا يمكن أن يتم بطريقة القفز في الفراغ دونما تمهيد لبديل سياسي يعيد برمجة التطور السياسي على أسس سلمية وتدريجية.
فإذا "صمدتِ" الحكومة الحالية أمام ضغوط مراكز الاوليغارشية المتعددة، بالاتكاء على شرعية شعبية داعمة للإصلاح، ولفترة انتقالية مناسبة، فإن ذلك يمكن أن يمهد المناخ السياسي في البلاد على المدى المتوسط لأوضاعٍ تصبح فيها الانتخابات غير المبكرة سبيلًا مجديًا لتمثيل الإرادة المجتمعية تمثيلًا ملموسًا في بنية النظام السياسي المتأرجح بين القديم والجديد.
أما هروب الحكومة إلى الأمام نحو انتخابات مبكرة، فلا يعني أكثر من تهيئة مسرح الأحداث لموجة احتجاجية أشد راديكالية من سابقاتها، تطيح بكل الاحتمالات المتاحة حاليًا لإيجاد مخرج سلمي يجنّب البلاد صفحة جديدة من الاقتتال الأهلي ويفتح أفقًا نحو إصلاح تدريجي حقيقي.