كان الزَّمن (1201م)، قبل ثمانمائة عام، شيعت بغداد «البدر محمد بن الفراش المغني، شاب جميل الصُّورة، مشهور بحسن الغناء، وطيب الصَّوت، وشيعه خلق كثير، وفُجع النَّاس به، وحزنوا عليه»(ابن السَّاعي، الجامع المختصر).
كانت كثرة المشيعين تدل على المنزلة، ومازالت، لكن الكثرة في تشييع الفنان تأتي خالية مِن الحشود المدفوعة بالوهم والإجبار، فكم مِن لصٍّ وقاتل جنازته ليست لها بداية ولا نهاية. فلا نظن أن بين مشيعي البدر مَن أتت به العقيدة أو المراءاة حينها، وكذلك الحال مع عبد الحليم حافظ وأم كلثوم ومحمد القبانجي وناظم الغزالي وسواهم.
كذلك لو كان أمر النَّاس، بعيداً عن مؤثرات التَّدين الملفق، لأصبح مشيعو مغنيات بغداد، أكثر مِن تشييع قائد ميليشيا، أتباعه يلوحون بحرابهم على رؤوس النَّاس، أو صاحب منبر يغزو السامعين بالوهم. ليس هناك كاتب لم يتمنَ نشر كلمة رثاء بِحَقِّهِنَّ، ويحسد الجمهور الذي شيع ابن الفراش على وعْيه وجرأته، لكنّ يمنعه عدم رضاء الجمهور المغلوب بالتَّدين الفارغ مِن الدِّين، ومَن يمتنع عن مصافحة النِّساء أمام الكاميرات لإثبات ورعه، لأن المنصب عنده تكليف شرعي.
بهذه الأجواء «الصَّحوية» المشوهة، لم تخجل قناة دينية، مِن شتم مُغنية سهلت على النَّاس حياتهم، في أفراحهم وأتراحهم، غير أن خطيب منبر اضطر إلى الاعتراف بفضلها، مع عدم نسيان الحط منها، كي يُبرر لزملائه اعترافه بإنسانيتها، وتلك ثقافةٌ جُبل عليها، وهي أن الفن بطبعه متهتك، لكن بعد (17) عاماً ثبت العكس.
عندما انقطعت الطّريق به، في ليلة ماطرة، ومعه مبلغ من المال يخشى مِن النَّشالين عليه، وقفت سيارة، وإذا بها فنانة مشهورة، أوصلته إلى المحطة التي توصله إلى مقصده، وانتظرت حتى صار في أمان. فكانت مفاجأة له أن يخرج عمل الخير مِن مطربة! قرأت الحادثة في "جولة في دهاليز مظلمة" .
إنها حَيرة الألباب، أن يعج الإعلام برثاء قاتل ومختلس، داعم لفوضى السِّلاح، «ومرتكب حفت به الشُّبهات»، بينما لم ينطق الإعلام كلمة بحقِّ فنانات وفنانين، ملأوا النفوس حبوراً، في أصعب الأزمنة. إنها ثقافة المراءاة، أن يسموا الذين ذلوا البلاد أعزتها، وتعلوا لهم أضرحةٌ، دون تذكر الموت الجماعي الذي مارسوه بحقّ الأبرياء.
إذا كان الفنان في العهد السَّابق، عليه أن يؤدي الواجب أمام «القائد الضّرورة»، بالإنشاد لأمجاده، ويستمر في حياته، ففي العهد اللاحق لا يُقبل وجوده في «جمهورية الإسلاميين» أصلاً، لأنه يتعارض مع «التَّكليف الشَّرعي»، والعبارة لمَن استلم وزارة التَّربية والتَّعليم، فكان همه العبث في معهد الفنون. فأيّ فنٍ ينتعش والحكم يدار بالتكليف الشَّرعي؟! هل رأيتم مغالطة أفظع مِن «ديمقراطية وتكليف شرعي»؟! مع أن الجماعات المسلحة تحمي الفن الهابط مقابل دفع رشَا لاتقاء شرّ المرتشي نفسه «حارس الفضيلة»؟!
رحلت الفنانة أحلام وهبي مؤخراً، بدأت فنها بِـ«عشاق العيون»، لحن لها كبار ملحني العراق ومصر(سالم، مغنيات بغداد). كانت «عشاق العيون» «ذات المضمون الشَّعبي المألوف»(العبارة لكمال سالم). أقولُ: كلّ ما غنت نراه ذا مضمون شعبي مألوف: «سبع تيام(أيام) من عمري حلالي»، و«هلهلي وغني يوم الفرح»، «عندي هدية للولف وردة» وغيرها.
ليس لدى العراقيين، غير ما تركته مغنيات بغداد، مِن أغانٍ تُنقي النفوس، أغانٍ لا تُمل. بعد استلام القوى الدِّينية أمرها أخذت بغداد تكفهر مِن أهل الفن، فالعناية وجهت لمنابر الجهل، حتى غدت الأوهام وقائعَ. هيأت لبسط ثقافتهم «الحملة الإيمانية»(1993)، المستمرة بما هو أشد، ومِن قبلها كان التَّنمر على الفنانين جارياً.
خسرت أغاني مغنيات بغداد المعركة مع ما سموه بـ«دليل المجاهد»، فالمال وتنمر الجماعات المسلحة باسم الفضيلة، ليست بيئة لهنَّ، زمنهنَّ زمن السِّلم والولاء للبلاد، لكنْ إذا وزع الولاء على المذاهب، أين محل المغنيات منها؟! كذلك السّلم والوعي ليسا مناسبين لمَن يتوهمون الجهل علماً، والسِّلاح نهجاً، ولأبي الطَّيب(اغتيل354هجرية): «كدعواك كُلٌّ يدّعي صِحَّةَ العَقلِ/ومَنْ ذا الذي يَدري بما فيه مِنْ جَهْلِ»(الدِّيوان، دون الشَّهدِ إبر النَّحلِ) .