تجربة البيع المباشر لجريدة طريق الشعب
اواسط سبعينات القرن الماضي
لكي تصل اية صحيفة الى ايدي القراء كخبز صباح طازج, لابد من مؤسسة تتولى توزيعها, بعد انجاز عمليات جمع المقالات وتنقيح الأخبار واعدادها ومن ثم تبويبها واخراجها وطبعها وإلباس الصحيفة حلتها الأخيرة.
بيد ان التجربة أثبتت ان ترويج صحيفة شيوعية, حتى لو كانت مرخصة رسمياً, والحزب الناطقة بلسانه مشترك في تحالف مع حزب قومي حاكم مثل البعث, لاتقل خطورة كثيراً عن توزيع منشور سياسي لحزب محظور.
ففي أواسط سبعينيات القرن الماضي شهدت الصحافة الشيوعية العلنية اثناء فترة الجبهة الوطنية مع البعث ازدهاراً كبيراً... فقد استقطبت, هذه المدرسة الصحفية, خيرة الكتاب والمفكرين والمثقفين ومبدعي الفنون في مختلف مجالات الأبداع, كما شكل الحزب المكاتب الأعلامية في كل محافظات البلاد لكي ترفد صحافته وجريدته المركزية بالخصوص بالمقالات الأستقصائية المطلبية والريبورتاجات والنتاجات الفكرية والشعرية وتغطية الفعاليات الثقافية... وقد حضيت بأستحسان شعبي واسع, مما اوغر صدور البعثيين, التي لم تستطع صحافتهم رغم توظيفها لأمكانات الدولة لدعمها, وما تمتلكه من تقنيات طباعة متقدمة من مجاراة الصحافة الشيوعية شكلاً ومضموناً.
فبدأت بوضع العراقيل امام انتشارها, بالتضييق والمماطلة في توزيع الصحافة الحزبية الشيوعية بواسطة مؤسسات التوزيع الرسمية, بذرائع واهية.
ازاء هذه الممارسات غير الديمقراطية لقيادة البعث, المستندة الى فكره الأستبدادي وعدم اكتراثها كسلطة لأستحقاقات حرية الرأي والعمل الصحفي الديمقراطي, قرر الشيوعيون قبول التحدي بتحمل الحزب وجماهيره مسؤولية توصيل صحافته الحزبية طريق الشعب و الفكر الجديد والثقافة الجديدة, الى اوسع الجماهير وتغطيتها لأبعد مناطق البلاد.
وكانت انجع الطرق بأشراك القاعدة الشعبية للحزب في توسيع دائرة قراء الصحافة الشيوعية باعتماد البيع المباشر للجيران والأصدقاء بتوصيلها الى عتبات بيوتهم او من خلال تشكيل لجان لبيع الجريدة في ايام نهاية الأسبوع, من منطلق لينيني معروف بأن " الجريدة الحزبية ليست فقط داعية جماعية او محرضاً جماعياً, بل هي في الوقت نفسه منظم جماعي ".
فتشكلت لذلك لجان توزيع الجريدة في المنظمات الحزبية وبدأ العمل. وقد انتظمت اسوة برفاق الحزب واصدقائه وجماهيره في العملية.
كنا طلاباً وكادحين نبّكر صباحاً ايام الجمع للتوجه الى مركز توزيع الجريدة لنأخذ حصتنا منها ثم ننتشر لبيع الجريدة في غير مناطق سكنانا لأسباب تتعلق بالصيانة والأمان.
شخصياً المكان الذي اخترته مع صديق كان في الجهة المقابلة لسينما السندباد في أحد أهم شوارع العاصمة بغداد, شارع السعدون.
فكان هناك من يشتري الجريدة بأضعاف سعرها ومنهم من كان يصرح بأن الباقي تبرع, مع ابتسامة تشي بالتضامن.
لم تمر فترة طويلة حتى تنبهت اجهزة السلطة الأمنية وتنظيمات البعث, لهذا النشاط, في الوقت الذي كانت صحافتها الحزبية والحكومية تعاني من كساد, فقررت وأد المبادرة الشيوعية بأعتقال بائعي الصحف الشيوعيين من الشوارع والساحات وحجزهم في أقبية الأمن العامة.
احد الرفاق المعتقلين سألوه : " هل انت شيوعي ؟ " اجابهم بالنفي. فسألوه : " اذاً لماذا تبيع طريق الشعب الشيوعية دون غيرها من صحف ؟!".
أجابهم بمكر : " كيف ذاك ؟ أبيعها كلها, لكن الشعب يتلقف بلهفة صحيفتي " الثورة " ( صحيفة البعث المركزية ) و " الجمهورية " ( الناطقة باسم الحكومة ) فتنفذ, ولا تبقى سوى " طريق الشعب " هذه !
وبين التكذيب والتصديق كان لزاماً عليهم تقبل جوابه, ربما لملامحه البروليتارية الرثة, رغم عدم قناعتهم المؤكدة بما قاله. ونفذ من بين براثنهم !
انا وزميلي نجونا من مصير الأعتقال, بطريقة اخرى... بفضل شخص لا نعرفه ولكنه بالتأكيد شيوعي, أسرّنا : " إكلبوا... الأمن جاي يلّم بيّاعة طريق الشعب ! ".
حقيقة كنا مترددين, فقد تكون هذه مكيدة بعثية, ولكن قر قرارنا أخيراً على ضب القليل المتبقي من بضاعتنا ومغادرة المكان.
عرفنا بعدها بأنه جرى فعلاً احتجاز بعض الرفاق والأصدقاء في مديرية الأمن العامة والتحقيق معهم, ثم جرى اطلاق سراحهم بعد تدخل قيادة الحزب.
كانت هذه الممارسات البعثية احدى اولى عمليات قضم اسس التحالف الجبهوي والتي اودت به.
كشفت هذه التجربة من بين ما كشفت, سمات البتي برجوا لدى بعض الرفاق, برفضهم الأشتراك في بيع الجريدة على نواصي الطرق, يمنعهم في ذلك الخجل البرجوازي والأعتداد بالذات, لكنها أيضاً ابرزت الجانب المشرق المقابل, وحتى المتمادي, بقيام رفاق كادحين بالتأنق ولبس افضل ما عندهم من بدلات ووقوفهم على نواصي الطرق ليبيعوا جريدتهم المفضلة تحدياً لسلطات البعث, ولأرسال رسالة للمواطنين بأن فعلهم هذا ينبع من سعيهم لنشر الثقافة التقدمية والفكر النير وليس لكسب المال.
قد تكون هذه الممارسة سابقة عملية رائدة في النضال السياسي من اجل توصيل الكلمة الحرة والفكر التقدمي الى أوسع الجماهير, لم تعهدها أحزاب شيوعية وثورية في العديد من البلدان, لذا فأنها تسجل بفخر في سجل الإيثار الشيوعي والصحافة الشيوعية العراقية المناضلة.