كنا في مقالنا السابق المعنون( الأمومية: تاريخية اللاتاريخ) قد بحثنا في موضوعة الأمومية بوصفها تاريخاً مسكوتاً عنه لا مكتوباً، وفي هذا المقال نستكمل الحديث عن الأمومية أو الماتريكية Matriarchy بوصفها نظاماً أو منظومة تقابل النظام الأبوي البطريركي، فنقول:
توسع النظام الأبوي في نظرته المزدرية للنساء بدءاً من عصور العبودية إلى عصر الرأسمالية حتى تجاوز التاريخ والفلسفة إلى اللغة واللاهوت والسياسة والقضاء، متغلغلاً بطريقة راديكالية صارمة وغاشمة، مستلباً من المرأة حقها الأمومي، محِلاً محلها صفتها البايولوجية الإنجابية بمعناها الاستهلاكي الذي يحول الأنثى الى وعاء للإدخال والإخراج حسب، وليس بمعناها الإنتاجي الذي يميز المرأة عن سائر الحيوات الأناث بوصفها هي أساس الإخصاب كأصل ومنبت كما نقلت إلينا الأساطير والحكايات الخرافية التي حرّفها النظام الأبوي كثيراً وتلاعب في أصولها وشطب بعض حقائقها.
ومن هنا نعدُّ التاريخ المدون تاريخاً ذكورياً، كونه طوّع الكتابة لصالح نظامه، فصار هو الحاكم الذي يتحكم بالكتابة التاريخية سيداً ووصياً على تاريخ المرأة. وهو ما تصدت له الدراسات النسوية ما بعد الحداثية لا سيما دراسات التابع والدراسات الثقافية على يد نسويات مثل سبيفاك وجوليا كرستيفيا وليندا جين شيفرد ولوسي ايجاري والين شوالتر وغيرهن ممن تناولن قضايا تمس جوهر الكيان النسوي تاريخاً وواقعاً حاضراً.
وما يريده النظام الأمومي هو نفض الهامشية والركود والاختفاء عن الكيان النسوي من خلال الاحتجاج الثقافي الذي يمتعض فكرياً من نزعة الإسكات الذكوري للنسوية. هذه النزعة التي تسعى الى حصر الفعل النسوي في زاوية مادية ضيقة جوهرها إغوائي وإغرائي بدلاً من النظر إلى هذا الفعل وصاحبته نظرة ايجابية تتجرد من ماديات الجسد وفي الوقت نفسه تستعيد صفات كانت التابعية قد أزالتها أو شوهتها.
وما يريده النظام الأمومي أيضاً هو توكيد أن النسوية لا تختلف واقعياً ورمزياً عن الذكورية لأنهما شريكان في التواصل والتفاعل والانتاج والانجاز ومتعديان ما هو دنيوي ومادي إلى ما هو ميتافيزيقي. وإذا ما تمكن النظام الأمومي من إزاحة الحجب والاستار عن النسوية كنظام وتجارب ومسيرة، مغادراً موقعه هامشاً للهامش، فسيترتب على ذلك تعدي الكيان المؤنث مسائل الجنوسة إلى مسائل أعم، منها إثبات تاريخها ..ومنها استرداد حقها ..في التمركز بكل محدداته الوصفية والعقلية. وهذا ما حاولت دينيس رايلي في كتابها (هل أنا هذا الاسم؟)، أن تعبّر عنه وهي تبحث عن التغييرات في مفهوم النسوية والأمومية، فاحصة بأسلوب فوكوي التحول التاريخي للحركات النسوية ومفاهيمها حول المساواة والاختلاف وغيرهما.
وليس خافياً أن النظام الأبوي البطريركي همَّش الطبيعة النسوية وأبعادها الأمومية، متبنيا فلسفة الطمر والطمس، مسايراً بروتوكلات التمركز والسابقية ومعتمداً سياسات الإمحاء والشطب بغية جعل البعد القيمي والثقافي للمرأة متواريا إلى الأبد، ومن ثم غدا النظام الأمومي متوارياً كمسكوت عنه أول في التاريخ البشري وبدرجة لا يكاد أن يفوقها فيه أي مسكوت آخر في هذا التاريخ.
لهذا كله لن يكون هناك إقرار لنظام أمومي والتاريخ الرسمي المدون تاريخ مبتور منه العنصر النسوي في شكل ثغرات وهفوات فيها النساء لا وجود لهن وإنما التاريخ في أغلبه تاريخ رجال.
والسؤال الذي يفترض طرحه هنا هو كيف للنسوية إذن أن تثبت نظامها الأمومي ؟ وما الوسيلة التي بها تجعل النسوية لمفهومها الامومي قاعدة بها يغدو نظاماً قائماً بذاته، فيه للنساء عامة وللمرأة خاصة حضور وفاعلية ؟
من اليسير الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها حين نستدعي إلى أذهاننا ما تتمتع به الجنوسة الأنثوية من سمات إنتاجية تتقدمها السمة الأمومية كنظام عامل منذ أن وجدت الخليقة على وجه الأرض وسيستمر إلى ما شاء الله.
والإنتاجية الأمومية استعداد طبيعي موجه نحو حفظ النوع وهي أيضاً نظام لا تستكمل فاعليته الفيزيولوجية إلا بالتشارك وبمنازع غريزية مع نظام ذكوري ومن خلالهما تكون الملكية الإنتاجية المتمثلة في الطفل أي في عمومية جسمه وليس في فردية وجوده.
ومع تغير الحياة التي فيها صار الذكور هم الأسياد تغيرت أهمية النسوية في قوى الإنتاج والملكية وصارت المرأة وسيلة بيتية للإنتاج ومادة للاستملاك والاستهلاك. لتظل روح العداء للمرأة حية تتضح جلية بينة في عناد بعض الرجال وإصرارهم على رفض كل ما من شأنه إثبات أهمية المرأة.
فكيف يمكن للأمومية كمفهوم نسوي أن تستثمر سمتها الإنتاجية جاعلة الأمومية نظاماً به توجه طاقاتها توجيها استراتيجياً محصلته فكر نسوي قادر على تغيير التزمت الأبوي إلى تسامح اجتماعي؟
إن ذلك يتوقف على عمومية الكينونة المؤنثة التي بها تستطيع أن تجعل من خصوصيتها الجنوسية نظاما تثبت من خلاله شرعية استعادتها لحقها الذي فيه قوتها الإنتاجية مثلما للرجل قوته أيضا. وبتشارك هاتين القوتين يتأكد حضور النظامين الأبوي والأمومي ويتسع نطاق فاعليتهما بتوازن فيه المردود كائن في البنوة التي فيها يتضح حق الأمومة الإنتاجي وباتجاه عمومي أيضاً.
ولا شك أن العصر الذي نعيشه لم يعد عصر القوة الحديدية ولا هو عصر التنارع الاستعماري والتسابق على التسلح النووي وغير النووي وإنما هو عصر العولمة والقوة الناعمة التي فيها وسائل الإنتاج والطاقة منظمة بخوارزميات الذكاء الصناعي ورقميات السايبورغ فائقة التطور. الأمر الذي يفرض حتماً على البشرية أن تعترف بمتغيرات الحركة التاريخية وتعيد حساباتها في ما يتعلق بقوى العمل وتقسيمات الإنتاج وأنظمة الرأسمال المتنوعة والمعقدة التي فيها لم تعد القوة رجولية والعقلية ذكورية وإنما هي مجهود الطاقة والفعل وجدوى النفع والإفادة المسخرة في خدمة الإنسان.
فهل ستبقى للأبوية إمكانية بها تحافظ على صلابة نظامها في ظل عالم فَقَدَ كل صلابة وصار الانفتاح والعبور والتداخل سمات يستوجب عليه التماشي معها حتماً لا فرضاً ؟ وكيف ستتمكن النسوية من إقامة نظامها الامومي على فرضية أنها استطاعت تعميم فاعلية النساء فيها وخصت كل امرأة داخل هذه العمومية بهوية تتبلور فيها كينونتها الفردية بشكل مستقل ؟
نقول إن نجاعة النظام الامومي تتوقف على قدرته في إثبات دعائم أهميته وتوكيد مشروعية استعادته نظاما يعمل ديالكتيكا مع نظام عتيد وصارم هو النظام الأبوي.
وهذه القدرة لن تكون جاهزة ما لم يتخل النظام الأبوي عن المركزية ويتنازل عن الاعتداد متصالحا مع النظام الامومي. وعلى هذا الأخير أيضا أن يتصالح معه متناسياً تاريخاً طويلاً ومريراً فيه استغلت أمومية النساء وضاع حقهن بشتى أساليب الخداع والقهر والاستعباد والتزييف والإلغاء.
وهو ما تعمل عليه أدبيات التفكيك ومناهج القراءة والتأويل المنتقدة للعقل المركزي الغربي وكذلك ما قامت به الحركات النسوية في مرحلة ما بعد الحداثة من أدوار قطعت فيها أشواطاً لا بأس بها في سبيل تدعيم النظام الأمومي وتوكيد هيبته تاريخاً وممارسة، كالتصدي للفصل التعسفي بين العقل والجسد والعمل على إعادة التحام الطبيعي والاجتماعي وإلغاء مواضعات العبودية الموروثة التي تجعل الإنسان عدواً للطبيعة وتجعل من الرجل عدواً للمرأة لا يحبها إلا إذا كانت خاضعة منكسرة مغمضة العين كما تقول د. نوال السعداوي.
ومن الأمثلة العربية ما قامت به كاتبات ليبراليات ومفكرات ومثقفات من محاولات بعضها كان مهما في التنوير النسوي تعريفا بدور المرأة. وهو ما كانت بوادره قد ظهرت في عصر النهضة الأدبية على يد رجال متنورين في مصر والعراق ولبنان مثل الشيخ محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وقاسم أمين والزهاوي ونساء متحررات وأدبيات واعيات مثل مي زيادة وهدى شعراوي ودرية شفيق وبولنيا حسون وأمينة الرحال.
ثم توسعت حركة التنوير النسوي بعد منتصف القرن العشرين مع توسع نضالات الشعوب العربية في سبيل التحرر والاستقلال ونيل الحقوق. وأحرز هذا التنوير في مرحلتنا الراهنة بعض التقدم الذي مثلته المرأة بصور شتى تتعدى المطالبات النسوية المعتادة في التحرر والمساواة إلى الاهتمام بالتشارك الفعلي في النظام والمصير ضمن مرحلة عولمية ناعمة ومتسارعة وانفتاحية فيها لا يقتصر الوعي في حدود الطبقة المثقفة وإنما هي ثقافة ذات وعي عمومي يؤمن فيها الرجل والمرأة بأهمية التشكيل النسوي في تدعيم النظام الذكوري البطريركي.
ومن الأمثلة الغربية اهتمام الدراسات الثقافية والاجتماعية بدراسة النسوية نظاماً أو منظومة، والبغية رفع التهميش عن المرأة والإقرار بأموميتها وأنثويتها. ونذكر في هذا الصدد محاولة هايدا جوكنر ابندروت في وضع نظرية أمومية، اشتغلت عليها مع مجموعة باحثات ألمانيات منذ عام 1976 على وفق توجهات..غايتها مركزة المؤنث ودراسة واقع المرأة في المجتمعات الأمومية الأولى وما ظل منها متوارثاً إلى اليوم.
والمرأة إذ تعي حقيقة إمكانياتها وإمكانيات من حولها؛ فإنها تدرك أن لا تغيير سيطال الواقع الموضوعي لهذا النظام العتيد ما لم تتغير عقلية منظومته الاستحواذية التي لن تتزحزح إلا إذا كانت النسوية واثقة بأن لها نظامها وعملها وإرادتها وشجاعتها وقوتها التي ستمكنها من بلوغ غاياتها الفردية والمجتمعية وقبل ذلك مواجهة مشاكلها الداخلية والخارجية ومن دون أدنى خشية من محظور يقتضي غيابها أو خطر يحجم فاعليتها داخل جدران أربعة تختفي وراءها كما لن تثنيها شعارات براقة تبدو في صالح المرأة بينما هي تديف السم بالعسل وقد تجلببت بجلباب التقوى المقنعة بالسياسة والبغية أن تُبقي المرأة مغمضة فلا تكتشف الحقيقة إلا بعد فوات الأوان. وهو ما وجدنا ويلاته عربياً في التطرف الديني والإرهاب الفكري والفتنة الطائفية والنزاعات الأهلية، وفيها كانت المرأة هي الضحية في الأغلب الأعم، فاُضطهدت وحوربت وهُجرت وسبيت وبيعت في أسواق النخاسة.
فكيف بعد ذلك يتاح للنسوية العربية أن تطالب بنظام أمومي بينما المنظومة المجتمعية العربية كلها أبوية تتمركز بصفات راسخة أهمها الأحادية التي فيها يتفرد الرجل سيداً ورئيساً. وهو ما ينطبق على مختلف الميادين الحياتية العربية بما فيها الميدان الثقافي الذي فيه الانتلجينسيا المثقفة رجالا ونساء تخضع في الأغلب لذات المنظومة المتصفة بالأحادية التي فيها المثقف عادة ما يكون مؤدلجا بفكر أحادي يساري تقدمي أو فكر يميني رجعي وبعبودية فكرية فيها يكون مستقطبا لنموذج معين وخاضعا لمسار تاريخي يعيش فيه حاضراً بلا مستقبل.
وبالسير على طريق الفكر البطريركي بشكل جماعي يستمر تجريد المرأة من قدراتها وتحجيم فاعليتها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية من دون أي نظام خاص بها يمثلها وبلا دور واضح لها سوى دورها البيولوجي. أما دورها في التفكير الفلسفي والتغيير الواقعي والفاعلية القيادية والتصدر المجتمعي فليست المرأة ـ بحسب النظام الأبوي ـ أهلا له مهما كان وعيها ومكانتها وأياً كانت صفتها وهويتها.
إن ما ينبغي للنسوية أن تتذكره وهي في سعيها لإثبات نظامها الامومي هو أن الحياة قائمة على المساواة مع نظام أبوي معه ينبغي أن تتناسى تاريخاً طويلاً شوهت خلاله حقيقة المرأة بعد أن" سلبت منها مكانتها الأولى الطبيعية حين كانت مساوية للرجل في كل شيء" وتحاول أيضاً أن تتجاوز فكرة أن عصريتها هي في أن "ترتدي أحدث الأزياء وآخر الموضات وأن تكون تلك المشغولة ليل نهار بشعرها وجسمها وجلدها وأظافرها .. أو المرأة النرجسية" لأن المهم في كيانها اليوم هو كيان بنات جنسها تعوض بفرديتها عن جماعيتها وتحكم بالجماعية على فرديتها.
وذاك التذكر وهذا التجاوز ضروريان من أجل أن تكون النسوية فضاء مفتوحا فيه المرأة قادرة على أن تعبر عن ذاتها من دون الحاجة إلى غرفة خاصة بها تكشف عن مواهبها وتنفض عنها القمع وتنقذ نفسها من الاكتئاب والعزلة، فهي اليوم مع العولمة وما بعد العولمة صار بإمكانها أن تقول كلمتها واقعاً أو افتراضاً غير منتظرة من الآخر أن يعترف أو أن يبارك لأن المنظومة العتيدة لم تعد تلك التي كانت فيما مضى.
والأساس المنطقي لهذا التصور هو أن النظام الكوني أعطى للإنسان إمكانيات لم يعطها لغيره من الكائنات الحية أعني العقل الذي فيه تتجسد قيمة الإنسان التكوينية الفيزيولوجية على سائر المخلوقات الأخرى التي يمكن له أن يخضعها لقوته فتكون طوع أمره يسخرها لمشيئته وبما يحقق له النفع والتقدم.
وامتلاك الإنسان ذكراً كان أو أنثى العقل يعني أنه الأقوى على وجه الأرض القادر على إخضاع ما لا عقل له لإرادته أحياء وجوامد كي تكون تحت أمره. وهذه القوة في اختلافها خشونة وطراوة تكمن توافقيتها فإذا كان الذكر قد تميز بالخشونة الجسدية التي تظل في فاعليتها رهينة العقل الذي يمكنه أن يجعلها خيرة ذات فائدة أو يجعلها شريرة ذات بلاء.، فإن الأنثى التي تمتلك ما يمتلكه الذكر من العقل ولا تمتلك ما له من القوة البدنية تمتلك النعومة الجسدية لكن هذه النعومة ليست ضعفا أو وبالا عليها بل هي خصيصة طبيعية تخلق لها فاعلية دورها في الحياة.
وما دام قانون القوة يظل غالبا فإن العقل سيظل تاليا للقوة وخاضعا لها، والنتجة استمرار الصراع بين البشر، وفيه الغالب هو صاحب السيادة الذي يمكن للمغلوب ذات يوم أن يسترد سيادته كنوع من الانتقام الذي توجهه الطبيعة للانسان الذي منح العقل ليفيد منه لا أن يكون منافساً للطبيعة يتحدى قوانينها ويصنع قوانينه لوحده. وتوازن هذا العالم الموضوعي لن يختل بالمشاركة بين الجنسين وزوال غلبة الذكورية، لتظل الفاعلية التضادية التي فيها يكون الرجل والمرأة متكاملين وإن اختلافا هي السمة التي بها يتوكد وجودهما الموضوعي في هذا العالم.
ولا تتعدى المرأة اليوم في النظام الابوي أن تكون نصا مكتوبا مخصوصا بقراءات مقصودة بينما المرأة في الأدبيات النسوية ما بعد الكولونيالية عبارة عن تاريخ له حركته ونظام له فرادته وقيمة وجودية لها عموميتها كمعطى إنساني لا يمكن تجاهله. وإننا إذ نتحدث عن المرأة مؤطرة بالأنثى ومؤنثة بجنسانية نقدية محددة؛ فإن ذلك يعني أن المرأة موضوع مكتوب لكن ليس مشروطاً أن تكون فيه هي الكاتبة. وإذا كان هذا التوصيف ينطبق على النسوية كينونة وهوية وأدبا وفكرا فإنه أيضا لا يقتصر على المرأة التي تمسك القلم وتكتب للبنات جنسها؛ بل يشمل الرجل الذي يتقمص كيان المرأة ويتلبس قناعها داعيا الى نظام أمومي يمثلها شاعراً بما تشعر به من اقصاء ومكابداً ما تكابده من حسرة ودانيا منها كدنو المرأة من نفسها كاتبة ومفكرة.
وإذا افترضنا إننا بصدد نظام أمومي فيه النسوية كيان جنساني يستمد إطاره النظري من طروحات راديكالية نسوية أساسها النظر البايولوجي الانثوي أو الأنوثي حسب..فهذا مما لا نوافقه رأيا ولا نستسيغه طرحاً لأن المطلوب هو رؤية ثقافية ذات إطار يتعاضد ولا يتنافى مع التوجه الفكري الانفتاحي الذي ليس فيه إلا الحوار الثقافي والتناظر الجنساني والاعتراف تقبلاً بلا حدود ولا شروط أو قيود تصادر الآخر الذي هو ليس نداً ولا ضداً بل مشارك ومعاضد ..
وليس من غايات المنظومة الأمومية أسلبة الكيان المذكر أو تحجيمه بل بالعكس العمل معه على تحقيق التشاركية التي بها توضع لبنات بناء معمار بشري على خلفية فلسفية انفتاحية تصالحية تكشف الملتبس وتسترد الحق وتظفر بالمحجوب والمتوارى.
ولعل هذه الفلسفة باتساعها وامتدادها واحتمالات صمودها أو استكانتها قد تبدو أشبه بميتا فلسفة؛ فليست الفحولة من السهولة التي معها تتمكن النسوية من غلبتها أو مصادرة منطقها في الاحتكار والقوة كما أن الطروحات النسوية ذات المحتويات الفكرية الأمومية لم تبلغ بعد تلك المرحلة التي تتجلى فيها أبعاد أطرها ومديات غاياتها بوضوح كاف وبجلاء تام إلى الدرجة التي تجعل من الرجل والمرأة قطبين لمعادلة حياتية واحدة.
وليس في إثبات نظام أمومي على المستويات النسوية عموما والمستوى الأدبي تحديدا تنفيرا أو مغالبة، يتقصد فيه الكيان المؤنث تحقيق تمايز نوعي على حساب الكيان المذكر الذي هو نوعي أيضا بناء على رؤية تفرق فكريا وتتصادم إجرائياً؛ بل هي عملية تنظيم فكري وعملي تتوحد فيها الاراء وتتعاضد الافكار وتتكامل المبتغيات. والقصد إثبات تعادلية المعطيات الحياتية بدءاً من الأبجدية الأولى للبشرية وانتهاء بآخر حرف من أبجدية الوجود الكونية.
ونقديا فإن المنظومة الثقافية الإبداعية العربية ما زالت متمسكة بنظرتها الفحولية المعتدة بنظامها الأبوي وهو ما يجعلها في حالة تجاهل مستمر إن لم نقل متحايل على مواكبة التطور العالمي فلسفيا ونقديا لا سيما فيما يخص الماتريكية الأمومية وخطابها العلمي والفكري الإبداعي المتوزع بين حقول المعرفة البشرية على تنوعها. وما ينبغي للنظام الأبوي أن يفعله هو وجوب اكتراثه بالنسوية والاقرار بحتمية إعادة الاعتبار لانساق منظومتها عابرا بها ومعها بوعي وقصدية منطقة الغلبة والهيمنة الى منطقة الاستجابة والتأييد اعترافا منه بأحقية وجودها نظاما أمومياً وكينونة مؤنثة.
وبإمكان المدارس النسوية الليبرالية منها والراديكالية والماركسية وما بعد البنيوية والنسوية السوداء ونسوية العالم الثالث وغيرها أن تمد الدرس الفكري العربي المعاصر بوسائل أو آليات تساعده على تفحص مفاهيم وطروحات تمكنه من تسخيرها بما يناسب تجاربه ومن ثم إعادة توظيفها في تشخيص النسوية كنظرية صالحة لأن تنمو في بيئة عربية وتنتج من ثم طروحات تتماشى مع التجارب العالمية وتوجهاتها الفلسفية والاجرائية مع الحاجة الماسة إلى الدراسات الثقافية التي تسعى لإعطاء النسوية حضورها تاريخاً ونظاماً وانتاجاً جنباً إلى جنب المنظومة الذكورية .
ولن يكون ذلك متحققاً على أرض الواقع ما لم يتم الحفر والتنقيب المعمق والمتمعن في كل ما هو نسوي بحثا عن مرتكزات يمكن الاستناد إليها قاعدة أولاً ثم الاضطلاع بالتشييد على هذه القاعدة ثانيا كمفاهيم وممارسات هي بمثابة معمار يتصاعد مع تصاعد الأصوات النسوية المنادية بنظام كالنظام الأبوي خاص بها وقائم على وفق حاجاتها، تجلية للمسكوت عنه وتعرية للذات المنكسرة في تراجيديا واقعنا المعيش، واقتحاماً إيديولوجياً وجمالياً للخطاب الأحادي تعبيراً عن اختلافية المرأة وخصوصيتها النفسية والفكرية والثقافية سواء على صعيد الموضوعات والقضايا الاجتماعية المختلفة كقضية الهوية وتشظيها والعنف وآثاره والحرب والإرهاب أو على صعيد الفن والأدب وما كُتب فيهما بقصدية نقدية خالصة موجهة لصالح النسوية ومفاهيمها التي بإمكانها خدمة النظام الأمومي، مصححة مسارات الحياة ليسير في ضوئها النظام الأبوي مرتقياً سلالم التطور ومواكباً التقدم الإنساني مغيراً رؤيته الدوغماطية الراديكالية نحو المرأة .