لابد لأي كتابة علمية أن تكون خاضعة لمنهجية محددة وممنتجة بأساليب واضحة كسياقات نظر علمي، تُستقى من نظريات البحث العلمي وأصول الدرس الأكاديمي، وبما يوصل إلى الدقة والموضوعية كنتائج ومحصلات.
وما الأزمة التي يمر بها النشر العلمي في بعض ميادين العمل الجامعي؛ إلا بسبب التغاضي عن بعض تلك السياقات أو التساهل في إتباعها مما يفضي إلى تدني المستوى المعرفي الذي ينعكس حتماً وبدا على مستوى النشر في المجلات والدوريات الجامعية المحكمة سواء في الأبعاد العلمية التي تبغي تحقيقها أو في الكيفيات والآليات التي تحاول ترسيخها.
وما ضوابط الكتابة البحثية الأكاديمية في الدوريات ذات التخصص الإنساني في حقل اللغة والأدب؛ إلا جزء من منظومة معرفية إنتاجية وضعها باحثون أكاديميون ومارسها مهتمون بحقول المعرفة الإنسانية، عارفين أساسيات البحث والنشر ومناهج الكتابة البحثية ومحددات إنتاجها ومواصفات المنشور العلمي وسمات نجاحه وتكامله.
وهم بذلك لا يقدمون خدمة مهمة للدارسين المستجدين الذين يضعون خطواتهم الأولى على سلم العلم حسب؛ بل هم يضعون للمجلات المستحدثة في مجال النشر الأكاديمي اللبنات التي عليها تشيد بنيانها لتكون في مصاف المجلات العريقة المتمرسة التي رسخت تلك الضوابط في منشوراتها ولم تغفل عنها حتى صارت لها ملامح علمية وأنماط نشر جامعية خاصة واتجاهات أكاديمية واضحة في مجال الكتابة الأدبية، مما لا يمكن للباحث اليوم تخطيها أو التغاضي عن بعضها أو كلها أو القفز على مواضعاتها وأساليبها أو اختراق صرامتها ودقتها.
وليس فيما نقوله اجتهادات شخصية، إنما هي حصيلة مشاهدات وخلاصة متابعات أتاحها لنا اشتغالنا في الحقل النقدي الاكاديمي.
ومع تزايد الإقبال على الدراسات العليا وتوسع ميادين البحث والدرس، أخذنا نشهد في مؤسساتنا التعليمية العليا ومراكزنا البحثية المتقدمة استحداث مجلات ذوات سياقات غير معمول بها في النشر الجامعي؛ بل أخذت هذه السياقات تستشري وتتزايد يوماً بعد يوم لتمرر من داخل العملية التعليمية الجامعية وقد اعتمدت ضوابط خاصة بها باطلاقية وبلا مشروعية كأن تنشر أكثر من بحث في تخصص واحد على وفق آلية الاستثناء والإعفاء بحجة التخفيف عن كاهل هذا أو ذاك من الباحثين أساتذةً وطلبةً ، وهو ما نطلق عليه الضوابط الخفية ونعني تلك المنطقة السوداء التي تقع خارج إطار العلم وضوابطه، والتي تترك ضرراً على أساسيات البحث ومظاهره التي لو سادت فانها ستجعل الجامعة مكاناً لنشر السياقات الهزيلة التي معها تضيع القيم الأصيلة فروعاً وأصولاً ، مما يستدعي الوقوف والتأمل لرصد هذه الحالات وتحديدها وبيان مخاطرها، ومن ثم وضع الحلول الناجعة لاجتثاثها والقضاء عليها.
إن ما نؤشره هنا من ظاهرة إنما ينطلق من حقيقة وجود ضوابط خفية بدأت تخترق بصورة علنية ميادين النشر العلمي في الحقل الإنساني وتحديداً في تخصص الأدب العربي ونقده.
ومعلوم أن للكتابة العلمية في حقل الأدب والنقد في أقسام اللغة العربية في الجامعات العراقية والعربية ضوابط معلنة مفروغاً منها، لكن للأسف هناك أخرى خفية غير معلنة مستترة توازي المعلنة وتصاحبها. والخطورة تكمن في تداول المنهج الخفي والمضي عليه والأخطر هو نشر كتابات من ينتهجه واعتماده بحثاً محكماً ليكون بديلاً أو موازياً للبحث الملتزم بالضوابط المعلنة وبمرور الزمن سيغدو كأنه هو الأصل أو المثال، مما يترك آثاراً خطيرة على طبيعة العملية التعليمية ومدى نجاحها في بلوغ أهدافها وتحقيق فلسفتها.
إذن المشكلة لا تكمن في النشر نفسه بل في مناهج الكتابة البحثية ومدى التساهل في عدها محكمة وجامعية ولكي تتوضح هذه الخطورة فإننا سنحاول أولاً تشخيص ملامح هذه الظاهرة في مستحدثات النشر العلمي وثانياً بيان ما ستترتب عليه من أزمة، ونبدأ بالملامح وأهمها :
1. غياب واضح للمعايير والنظم والضوابط المتبعة في البحث التي توضح للباحث المسافات والحدود التي ينبغي أن يسير عليها في جوانب العلم المختلفة.
2. إن هناك انتشاراً بيناً لأساليب بحثية هابطة أسهمت في تضييع الهوية العلمية للبحث الأكاديمي أما على شكل فوضى أو عشوائية تجاهلاً وتساهلاً.
3 . تنامي ثقافة المراوغة أو المخاتلة لدى بعض الدارسين من الذين لا يكترثون لإتقان البحث والإبداع فيه. والسبب هو الانحراف والإهمال واللامبالاة، بحثاً عن السهولة في نيل الشهادة العليا.
4. التهاون في بعض أساليب الكتابة العلمية والمنهجية والتلكؤ في متابعة الالتزام بأدواتها مستسهلين التمرير لسلوكيات مغايرة لضوابط المنهجية العلنية، سواء أكان ذلك مقصوداً أم غير مقصود.
أما ما يترتب على هذه الظاهرة فبعض من الاحتمالات الآتية أو كلها :
1. أن يكون هناك عجز حقيقي في امتلاك الرؤى السليمة الواضحة، كمهارات ومعلومات واتجاهات وخبرات كافية.
2 . التنامي الواضح لفئة من الباحثين غير الكفوئين، الذين يتظاهرون بأنهم يمتلكون المعرفة والخبرة بينما هم لا اتقان لديهم ولا خبرة يتحصلون عليها في مضمار البحث، وهذا التنامي يجعل هذه الفئة تعمل كما يحلو لها، غير مكترثة لشيء سوى ما تراه هي وتقتنع به.
ولكي نضع الحلول الناجعة لهذه الظاهرة ونحمي الباحثين الجادين من الوقوع في براثن ضوابطها الخفية التي يراد لها أن تستوطن وتستحوذ على حساب الضوابط المعروفة والمعلنة وأسسها وسياقاتها العلمية الرصينة؛ فإن من المهم مراجعة هذه الظاهرة ومحاولة علاجها انطلاقاً من العملية البحثية والتدريسية بأطرافها الثلاثة: الأستاذ الجامعي والمقرر الدراسي والطالب.
فأما الأستاذ الجامعي وأساليبه في التدريس فإن لها مقومات بها يصبح ناجحاً، ولعل أولها حرصه المنقطع النظير على أن يتحلى بضوابط البحث قولاً وفعلاً داخل قاعة الدرس وخارجها، إلقاءً ومحاضراتٍ وحواراتٍ، مبقيا نفسه في منطقة محمية فلا يجد المنهج الخفي طريقاً إليه.
يتوقف تحقيق هذه الصورة على مدى إمكانيات الاستاذ الجامعي في التدريس وما يتمتع به من مؤهلات علمية، في تقديم المعرفة بأصولها وضوابطها على وفق القيم المعلنة والمفروغ منها، ممارسا عمله بمعايير عالمية تُعتمد في تقويم الأداء وضبط الجودة العلمية.
وما هذه المعايير سوى أساسيات ينبغي أن يخضع لها كل من يمارس التدريس الجامعي العالي بشقيه الحكومي والأهلي مع متابعة حثيثة ترسخ القيم العلمية من جهة وتضمن تحول التوجهات والتعليمات إلى واقع عملي كمؤثرات ومحددات لا يمكن تجاهلها ولا المساس بهيكلية تطبيقها من جهة أخرى.
ومن دون هذه المتابعة والاهتمام فإننا على المدى البعيد سنجد هذا الأستاذ وقد صار مطبقاً للضوابط الخفية ناسياً الضوابط المعلنة في البحث الأكاديمي وبما يؤدي إلى تغييرات جذرية قد تقود بدورها إلى تسفيه البحث العلمي وتقويضه من الأساس.
وليس الخطر في المنهجيات من ناحية قدمها أو حداثتها أو تقليديتها أو مواكبتها للتحديث بل الخطر قائم في نوعية من يمارس تدريسها والقائم على توصيل مادتها المنهجية الى الطلبة وبعكس ذلك لن يتحقق المرجو من البحث العلمي وأهدافه في التطور والارتقاء والتقدم.
وإذا كان الأستاذ الجامعي من نمط الأستاذ المروج - من دون تأن - للقيم التي يستحثها من عنديات تجربته الخاصة في البحث أو من سلوكيات درج عليها حين كان طالبا وحاول نقلها لطلبته نظريا وتطبيقيا؛ فإن هذا سيشيع تقاليد مشوهة وقيما بحثية غير رصينة سيكون من الصعب تصحيحها أو اقتلاعها.
وتظل العودة إلى الأصول الطبيعية التي قام عليها البحث العلمي هي ما ينبغي أن نستبدل به ما يتم ترويجه في قاعات الدرس من قبل مدرسين لم يتفقهوا جيداً في أساسيات البحث والدرس ليس ذلك حسب؛ بل قد يسعون إلى محاولة أن يصبوا أيديولوجياتهم في البحث بدلاً من أن يتحرروا منها ويتحرروا من قيودها انصياعاً لموضوعية البحث ووفاء لحيادته.
فليس للأستاذ الأكاديمي إلا أن يزود طلبته بالمعرفة وفي الوقت نفسه يظل باحثاً عن المعرفة مداوماً على اقتناصها والظفر بها.
ومن صور ممارسة الأستاذ لعكس مهمته منحرفاً عن أداء دوره الأساس مثلاً لا حصراً أن لا يقبل كتابة بحثية مثلا لا تستفتح باستهلال معين أو أن يفرض على الطالب مصادر بعينها فإن خلا البحث منها عد ذلك البحث ناقصاً وغير واف وقد يفرض إدخال عبارات معينة فرضاً وإجباراً بلا مناقشة أو تسبيب.
أما الطالب الذي يفي بكل ذلك؛ فإنه سيكون مقرباً من الأستاذ ومميزاً على الطلبة الآخرين حتى وإن كان الآخرون قد حللوا أدق منه ورصدوا المصادر بدقة وسعة واجتهدوا أكثر منه؛ فإن ذلك لن يشفع لهم عند هذا الأستاذ الذي لا يريد من طلابه إلا التقيد بما يمليه عليهم هو لوحده ويلزمهم به من دون أصل ولا قاعدة علمية أو بحثية سوى قواعده الشخصية.
وأولى حيثيات كتابة البحث العلمي أن يتجرد الأستاذ من كل ما يمت لذاتيته بصلة لكي يكون في منأى عن إيديولوجيته التي يؤمن بها وأن يكون مثالا للباحث العلمي الذي لا يكل ولا يجزع وهو يبحث عن المعلومة الصحيحة يتصيد مظانها كي يحوز عليها، منطلقاً من حقيقة أن العلم مشاع ومستمر لا تحده درجة علمية ولا لقب أكاديمي أو سمة بحثية معينة.
ولعل تحقيق هذا التصور يتوقف على تحلي الأستاذ بمنظور منفتح وموضوعي وعلمي لا تطرف فيه ولا مغالاة ولا تحزب ولا أدلجة معتمداً دوماً سلوكاً وسطياً. وبذلك تترسخ قيم الاعتدال والانفتاح التي هي من أهم الطرق الموصلة لبلوغ نتائج البحث العلمي المرجوة والمبتغاة.
هذا من جانب ومن جانب آخر تسللت إلى المقرر الدراسي الذي هو ثاني عنصر في العملية الأكاديمية ضوابط لا تمت للجانب العلمي بصلة، ولعل هذا التسلل هو السبب وراء الركود العلمي الذي تعاني منه مؤسساتنا التعليمية من قبيل كلاسيكية الرؤية في ترتيب مفردات المقرر أو غياب الرؤية الثاقبة في انتقاء تلك المفردات وهذا ما يجعلها متخلفة عن مواكبة التقدم الذي بلغته المقررات الجامعية في الدول المتقدمة.
ولأجل إصلاح مقررات الدراسات العليا وبما يتماشى مع المستجدات العلمية؛ فان من المهم جعل المقرر في منأى عن تسرب الضوابط الخفية مع السعي إلى تطوير المقررات باستمرار والمداومة على التذكير بالضوابط الأصلية. والأمر يستدعي أيضاً نقاشاً عميقا حول من ستوكل إليهم مهمة تحديد المقررات ووضع البرامج وتطوير مناهجها التعليمية.ولا بد أن يتمتع أعضاء لجان التطوير بمؤهلات علمية ومهنية كأن يكونوا من ذوي الدراية والخبرة التي لا تجعلهم مقيدين بالماضي وقضاياه ومشكلاته ومفاهيمه ولا من المتنطعين بالتجديد بينما هم بداهة يركنون إلى فكر سكوني يرفض الاعتراف بالصيرورة والتجدد في بعدها الديالكتيكي .
وما نشهده اليوم من معالجات تضعها لجان شكلت لاستحداث المناهج والمقررات لا تفي بالغرض وتكاد لا تقدم ولا تؤخر في هذا المضمار والسبب هو افتقارها إلى مقومات الصياغة والاستحداث كما أن نوعية المنتمين وعدم تمتعهم بمؤهلات العمل يجعلهم بلا نفع لعدم ملاءمة وجودهم للقيام بهذه المهمة.
ولا شك أن تطبيق المستحدثات العالمية في التدريس ستكون مهمة في تطوير المقررات وجعلها مواكبة لتلك المستحدثات ومن ذلك مثلا اعتماد الكتاب الإلكتروني أو تعميم استعمال البرامج الحاسوبية التي تنفع في العملية التعليمية ..وغير ذلك من التقانات والوسائط الاتصالية مع ضرورة التنبه إلى مخاطر تغلغل الضوابط الخفية إلى وسائط التعليم الرقمي من خلال إدراك أولويات استعمالها ومكامن أهميتها ومنافع حسن استخدامها متجنبين مضارها بوصفها سلاحاً ذا حدين.
وليس خافياً أن الكتاب الورقي سيظل هو المصدر المعرفي الأول، في التزود بالمعرفة وتلقيها لكن ذلك وحده ليس كافيا ما لم يدشن أو يدعم بالاستاذ القادر على تنفيذ الخطة العلمية في جانبيها التعليمي والعلمي الورقي والالكتروني.
وليس مهما فيما يخص الطالب ونشاطه البحثي أن يجمع كل الذي كتب في مجال معين يدرسه بل المهم كيف يرصد ما يجمعه ويشخصه ويعالجه، لأن في هذا الرصد تشغيل للعقل وإخراج له من حيز الجمود والركود الى فضاء التحليل والنقاش.
ومن السلوكيات الخفية في النشاطات البحثية والممارسات التي يقوم بها الطالب الجامعي داخل الوسط الاكاديمي اعتياده البحث والكتابة اعتماداً على ما يجده منشوراً بشكل عشوائي على النت فيأخذ منه دون أدنى اهتمام بالمصدر وجودته.
ولإصلاح هذه الحال لا بد من التركيز على فاعلية الجودة المعرفية التي تكسب الطالب شعوراً بالمسؤولية الذاتية في التعلم، وبما يؤهله لممارسة أساليب البحث العلمي مفيدا من المقررات ومضيفا إليها من أفكاره وشروحاته ونقولاته ولربما يقترح موضوعات جديدة، يستكمل بها بعض المعارف الخاصة بذلك المقرر .
ولا بد من تشجيع الطلبة على إعداد بحوث مصغرة تكون بمثابة حلقة أولى في طريق الكتابة الاكاديمية العلمية، سعياً باتجاه الكتابة العلمية الرصينة التي يتقيد فيه الباحث بضوابط لا سبيل للتهاون في تطبيقها.
وإذا وجد الطالب تلك الشروط حازمة وغير مخترقة فإنه سيحض خطواته كي يطور إمكاناته لعله يحظى بفرصة نشر ، أما إذا وجد الشروط متأرجحة ومتذبذبة وأن من السهل خرقها والقفز عليها؛ فإنه سيتهاون في إعداد بحثه على وفق الضوابط المعلنة، متغاضياً عن بعض الاساسيات لأنه يعلم أن هناك إمكانية التدليس والإخفاء.
وينبغي ألا يغيب عن ذهن طلبتنا لاسيما طلاب الدراسات العليا أن الكتابة البحثية أمانة قبل أن تكون مسؤولية وإذا لم يكن الباحث على قدر القيام بها فإن عليه أن يتركها لأنه لن يطالها مهما فعل وما ذلك إلا بسبب ما تحتاجه منه من الإخلاص في التوثق والجدة في الطرح وضرورة العمق في التشخيص وجدوى التمحيص في التناول والرصد.
وإذا كان هذا الأمر مطلوباً في الدراسات الأدبية والنقدية فإنه مسلمة مفروغ من الحديث عنها أساسا في الدراسات الاكاديمية لكن المتحقق بحسب مشاهداتنا عكس ذلك، فطالب الدراسات العليا يأتي غير مدفوع باي حافز بحثي يحمله على بذل الجهد وإظهار الجدية وما ذلك إلا لأنه موقن سلفاً أن ما هو راغب في بلوغه متحقق له حتماً وفعلاً ومن ثم لا يبحث إلا عن أسهل الطرق وأبسطها في البحث العلمي والكتابة المعرفية متناسياً شرطيّ الإخلاص للمسؤولية والأمانة في أداء المهمة البحثية وأن السطو على جهد من سبقه أو جايله من دون التوثيق واثبات السبق والارجحية مرفوض وممنوع . أما التمادي في التكرار والاجترار في الكتابة البحثية فلا طائل من ورائه ولا تقدم في المستوى العلمي بل هو الثبوت والارتكان عند الخطوة ذاتها التي ارتكن إليها من سبقه في دراسة هذا الموضوع أو ذاك أو هذه الظاهرة أو تلك.
وهذا ما نشهده بازدياد مضطرد من الناحية الكمية في البحوث المقدمة لنيل درجات وشهادات عليا كالدبلوم والماجستير والدكتوراه مع انحسار نوعي ملحوظ في طبيعة تلك البحوث.
ولعل قائلاً يعتذر لهذا الواقع المزري بما تشهده الحياة المعاصرة من تسلط الرقميات وغزو الفضائيات وانتشار غير محسوب للمعلومات بغض النظر عن دقة مصدريتها ورجاحة مرجعياتها الأمر الذي يجعل الطالب أمام مغريات عديدة تفرض عليه أن يختار السهولة وينتقي ما هو طوع اليد ونصب العين ما دامت العين باصرة واليد مخيرة لا ممنوعة.
ناهيك عن الممارسات غير العلمية التي يتبعها بعض المشرفين مع طلبتهم الذين يقومون بتدريسهم متهاونين على حساب العلم وسياقاته الرصينة والجادة مطوعين الاستراق نظراً وسماعاً سامحين بالأخذ من دون ذكر المصدر الأصل أو مجيزين ذلك تذرعاً بالتناص والتعالق والتداخل بين النصوص..
وقد يعتذر عن هذا بمسألة أن الطالب ما زال في بداية مشواره ومن ثم يكون مباحا أمامه فعل ذلك بتوجيه من مشرف أو استاذ باعتبار أنه يتعلم فيخطئ هنا ويصيب هناك ومن ثم سيتعلم من أخطائه وسيعضد تصويباته باتجاه أن يبلغ الإجادة أو شبهها في مشروعه البحثي .
وهلم جرا من الاعذار التي أخذت للأسف تتسع يوما بعد يوم وعلى مرأى ومسمع من ذوي الشأن والقرار في مؤسسات البحث العلمي.
أما إذا كان الحديث الذي قدمناه ينطبق على باحث يتمتع بشهادة جامعية عليا كالدكتوراه منذ ما يربو على ربع قرن ويحظى بلقب علمي عال هو الاستاذية وبمشوار من الممارسة العلمية إشرافاً وخبرة ومناقشات فإن الطامة بالطبع كبيرة والمزلق خطير وعظيم.
ولعل في مقدمة ما نشخصه من ممارسات يقوم بها مثل هذا الذي يتمتع باللقب والشهادة انه يسطو على بحوث طلابه من الذين يدرسهم او يشرف عليهم أو يناقشهم إما ليجبرهم على إشراكه ووضع اسمه على تلك البحوث أو في أن يستحوذ عليها بمفرده مصادراً جهدهم وقد يجبرهم على حذف فصل أو مبحث أو محور عبر الضغط عليهم بدرجة أو توقيع أو إجازة. وعندها لا يكون أمام هؤلاء المساكين إلا أن يرضخوا للضغط فيوافقوا مجبرين ومضطرين كي لا يكون هذا الاستاذ حجر عثرة أمام تطلعاتهم وأحلامهم، حائلاً أمام إكمال مشروعهم البحثي الذي لن يأخذ طريقه نحو الانجاز والإتمام إلا من خلال ذلك الاستاذ.
وفي الحالين يضطر الطالب مسلماً ومحتسبا مطاوعة ذلك الاستاذ متخليا عن البحث بالكامل أو مشرك إياه في بعضه كي يظفر بالطموح وليتجاوز هذه العقبة الكأداء التي وضعها الاستاذ الدكتور أمامه وليواصل طريقه الذي سيستطيع به أن يعوض ما فقده ويتنازل عنه بالضغط والتهديد الذي مارسه هذا الاستاذ الدكتور كأن يكتب بحثاً أو ينجز ما يتمم له عمله أو لعله لن يعمل شيئاً وستصيبه صدمة الدهشة المريرة من هذا السلوك المدبج بالمكر والدهاء ولتزدري نفس هذا الطالب عالم البحث العلمي وقد يحتقر الدراسة قاطبة.
أما الاستاذ الدكتور فسيظل ممارساً هذا المشوار بقوة وثقة لأنه يعرف أن الأمر سينطلي على الطالب حتماً وعلى الزملاء أيضاً لأن لا دليل يمكن أن يتركه وراءه ليمسكه الآخرون عليه ولا اثبات يمكن أن تطاله أيديهم ضده بمشهد يوقعه بالفعل المشهود أو بمقطع صوتي يؤخذ خلسة وهكذا هو متدبر امره دوما محتاط وواع.
وهكذا يظل هذا الدكتور أستاذاً في السطو واللصوصية البحثية ممتهنا للفهلوة. والادهى أن يكون هذا الاستاذ عند الآخرين متمتعاً بالحظوة والمقبولية ضمن الوسط الذي يعمل فيه والذي لا يخلو من ممارسات مشابهة لممارسته متبعاً السلوك عينه من العمل المخاتل والمدلس علمياً..
وفي النتيجة تبقى السمعة الاطرائية الاحتفائية هي المستحوذة على السمعة العلمية وبطريقة تغلب عليها المظهرية والتزويق والتكتلية والفئوية وقد يلتف حوله طارئون كثر ممن لا علاقة لهم بالبحث والدرس لكنهم يطمحون الى التدكتر والتسيد المظهريين واجدين عزاءهم فيه أولاً لأنهم لا يمتلكون مؤهلات النقد والبحث وآخراً إنه سيكون الأداة والوسيلة التي ستخلصهم من نقصهم وضعف قدراتهم وتجد لهم بحوثاً جاهزة أو تدلهم على طرق جديدة مبتكرة في السطو والاستحواذ على جهود الآخرين أو لعله سيفيدهم معنوياً ومادياً مدرباً ومعلماً لهم على أساليب التمثيل والتحايل، متمظهراً بالتميز والنجاح في خارجه ومدارياً النقص والإخفاق واللاتميز في باطنه.