كنا نعرف نصباً للجندي المجهول، وسط بغداد، الذي يُشير إلى حماية الوطن، لكنّ لم يبق لهذا الصَّرح، ولا لهذه التَّسمية مِن وجود، بعد أن حلت محل الجندي كلمة المقاتل والمجاهد، وقد غاب الجندي بل الوطن نفسه.
انتهى زمن حمل الجراب ليلاً، مِن قِبل ملثمٍ مجهول، يدور على بيوت المعوزين، مِن أرامل وأيتام وعاجزين، ليلاً. يوزع الطَّعام والكساء، وقيمته كانت أن يبقى «فاعل الخير المجهول»، وحلَّ محله «الجمعيات الخيرية»، و«المبرات» الدِّعائية التي تفضح مَن يُسَمّوَنهم بـ"المستضعفين".
عندما تقرأ كتاباً لا إمضاء عليه سوى عبارة «مؤلف مجهول»، ومع ما يتضمن مِن وقائع، لكنك لا تأخذُها على محمل الجد، لأن قيمة المعلومة بصاحبها المعلوم ليس بذاتها. ذلك جَهدَ الإخباريون والقصاصون أن ينسبوا أخبارهم وقصصهم لشخصيات ذات سطوة عند النَّاس، فلو تُركت بلا نسبة لا تكون لها حظوة، ولا تُبنى عليها ولاءات، فكم مِن أكاذيب أُسندت وصارت حقائق. عندها ينتهي معنى الحقّ والتَّحقيق الملفق يتحول إلى موثق، ومع تعارض الملفق مع الحياة والعقل إلا أنه يصبح عقيدةً وفلسفةً، ليس بوسعك مناقشته، وكم مِن رأس قُطعَ لأن صاحبه أراد تعرية المجهول الذي يقف وراء المعلوم الملفق الكارثي.
على الرَّغم، أنه غير موجود، لكنّ للمجهول تأثيراً صارخاً في ماضينا وحاضرنا، ومع أنه نُحت مَن مفردة «الجهل» التي يُرمى بها عديم المعرفة وضعيف العقل، وما زلنا نُسَمِّي الطَّفل جاهلاً، يلعب «المجهول» دوراً عندما يتحول إلى معلوم، يتحكم في العقول، ويلعب دوراً لما يتحول المعلوم إلى «مجهول»، ففي الحالتين تبدو كارثة، كلاهما يُمارسان لتدمير ما بقي في النَّاس مِن عقل وعاطفة نظيفة.
كم يتحمل المجهول مِن جرائم! تصفية العقل، بما يُمارس باسم الدِّين والنَّاس أنفسهم بخلق معلوم مِن مجهول، وإيجاد مجهول مِن معلوم، وأعني به القتل والقاتل يبقى مجهولاً. كم مِن مذبحة عظمى سُجلت ضد مجهول؟! وكم مِن مالٍ سُرق علانية، لكنه مسجل ضد مجهول؟! هذا ما يحدث بالبلدان التي ليس لها راعٍ، كلّ متهم له طائفة أو حزب أو جماعة تحميه، وأخطر قضية تُسجلها اللجنة التي تزعم أنها حققت تكون «ضد مجهول». نعم، يمكن الإعلان عن صبي سرق دراجة، ويُهتك عرضه، أمام الملأ. المجهول الذي حُمّل الجرائم الكبرى، خصوصاً في العاصمتين بغداد وبيروت، هو «الذَّئب الذي لم يأكل يوسف» تماماً.
كتب عمرو بن بحر الجاحظ (ت255هجرية): «قال أبو علقمة: كان اسم الذَّئب الذي أكل يوسف رجحون! فقيل له: فإنّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب، وإنما كذبوا على الذِّئب، ولذلك قال اللّه عزَّ وجلّ: (وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كذبٍ)، قال(أبو علقمة): فهذا اسمٌ للذئب الذي لم يأكلْ يوسف»! يعلق الجاحظ قائلاً: «فينبغي أن يكونَ ذلك الاسمُ لجميع الذِّئاب، لأنَّ الذئابَ كلها لم تأكله» (كتاب الحيوان) .
تحمل «الذئب الذي لم يأكل يوسف» قتل أكثر مِن سبعمائة عراقي وعراقية، والقاتل، كرر جريمته سبعمائة مرة، ويبقى مجهولاً؟ تفجير يؤدي إلى مقاتل طائفية فظيعة، وما زال متركب الجريمة مجهولاً مع علمنا أن «داعش» نفسه صار رمزاً للمجهول، ومع أنه لا يعرف غير كيمياء الإرهاب، لكن عندما لا يتحمل المجهول كثيراً يُصار تسجيل الفظائع باسمه.
منذ اغتيال حسين مروة، ومهدي عامل (1987)، ونخب مِن المثقفين اللبنانيين، والقاتل مجهول، مع أنه معلوم لدى أهل القتيل، أما قتل رفيق الحريري (2005)، فالمجهول فيها قد لا يستطيع الاستمرار بمجهوليته، والسَّبب أن القضاء الذي تولى التّحقيق لا يقرّ بفكرة «المجهول»، يؤمن بأن لكلِّ قتيل قاتلاً، ولكلِ تفجير مُفجر!
منذ سبعة عشر عاماً، والعراقيون يُقتلون، فمَن لم تقتلهم «القاعدة» أو «داعش» قتلهم المجهول! أحسب أن تفجير بيروت الأخير الكارثي سيتحمله أيضاً «الذِّئب الذي لم يأكل يوسف»! يجمع شعبي بيروت وبغداد، القاتل المجهول والفاسد المجهول أيضاً. يقول المتنبي (اغتيل354هجرية) في «الدِّينارية»: «أظْمَتْنيَ الدُّنْيا فَلمَّا جِئْتُهَا/ مُسْتَسْقِياً مَطَرتْ عليَّ مَصائِبْا»(الدِّيوان)، هذا هو حال العاصمتين