توطئة
في متابعتي للمقابلة التي أجرتها معه فضائية الشرقية مساء (18/8 /20) تحدث السيد نوري المالكي عن هيبة الدولة،واصفاً إياها بأنها ضائعة ومستشهداً بوجود مدن شبه ساقطة كالناصرية..
ومن استطراده في التفاصيل استنتجت أن هيبة الدولة عند السيد المالكي تعني (طاعته!)،ومن يخالفها فهو فوضوي ومخرّب..وسيكولوجياً ، يعني هذا القول من رجل حكم العراق ثماني سنوات أن في داخله شخصية مستبد،لأن هذه الصفة هي القاسم المشترك عند كل الحكّام الطغاة..قديماً وحديثاً.
في هذه الحلقة نركز على مفاهيم نظرية يبدو لي أنها غائبة عن فهم السيد المالكي أو يتجنب الإشارة لها،فيما توجه الثانية تساؤلات واتهامات وتقديم مؤشرات سيكولوجة لشخصية المسؤول الأول الذي أضاع هيبة الدولة العراقية..وللسيد المالكي الردّ هنا أو في مناظرة تلفزيونية في فضائية محايدة.
هيبة الدولة
لأن مفهوم هيبة الدولة (حمّال أوجه) فان الأمر يتطلب الوصول الى فهم مشترك نبدأه بفك الخلط بين الدولة والحكومة..فالدولة كيان يقوم على ثلاثة مكونات:الشعب والأرض والحكومة،ما يعني أنه لا يصح أن نساوي بين الدولة والحكومة التي تتحدد أهم مسؤوليتين لها في :تحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق القانون.
وما يتصف به كل الحكّام المستبدين( والمستبد لا يعني فقط الحاكم الطاغية أو الدكتاتور،بل يشمل أيضاً كل حاكم يستفرد بالسلطة أو بالثروة أو بالقرار السياسي)،إنهم يساوون بين الحكومة والدولة،فيما يذهب الحكام الطغاة لأبعد من ذلك فيساوون بين أنفسهم والوطن(صدام هو العراق مثال)..ويصدرون القوانين التي تخدم بقاءهم في السلطة ويسوقونها للشعب بأنها الضرورات التي تحفظ هيبة الدولة .
وهيبة الدولة لا تتحقق إلا بشروط نوجزها بالآتي:
تطبيق حكم القانون
ما يشترك به الحكّام المستبدون والدوغمائيون أنهم يفهمون تطبيق القانون في حدود سيادة الأمن المجتمعي وعدم حدوث ما يهدد وجود الحكومة في السلطة،فيما يعني في جوهره أن الدولة يجب أن تكون دولة مؤسسات مدنية يطبق فيها القانون على الحاكم والمحكوم ولا يستثني أحداً بمن فيهم رئيس الحكومة..وبهذ الشرط يشعر المواطن ليس فقط بالخوف من تجاوز القانون بل..والرهبة التي بها تتحقق هيبة الدولة.
الهوية الوطنية
حين يوحد جميع أفراد الشعب مبدأ المواطنة،وحين تعلو الهوية الوطنية على الهويات الفرعية(قومية،طائفة،دين،مذهب،عشيرة..)عندها يشعر الجميع بأنهم ينتمون الى وطن واحد،وبه تتحقق هيبة الدولة.
العدالة الاجتماعية
تعني العدالة الاجتماعية في النظام الديمقراطي أن تكون ثروة الوطن ملكاً لجميع أفراده توزع بطريقة يأخذ فيها المواطن استحقاقه منها ولا يشعر بالحيف..وبهذا الشرط يحترم المواطن الدولة ويهابها
صحيح إن الهيبة تثير مشاعر الخوف الذي يكون زمنه محدوداً، والرهبة التي يكون زمنها طويلاً،ولكنها سيكولوجيا تثير مشاعر التقدير والإجلال والحب..ولهذا يوصف الحاكم العادل بأنه مُهاب الجانب.وبهذا المعنى توجد لدينا نوعان من هيبة الدولة:الدكتاتورية القائمة على الخوف ،والديمقراطية القائمة على التقدير والمحبة
الكفاءة والخبرة والنزاهة
حين يتم انتقاء الخط الأول للقيادات الإدارية في المؤسسات الرسمية من أصحاب الكفاءة والخبرة والنزاهة الذين يحملون هموم الناس ويعملون على تغيير وإصلاح أوضاعهم الحياتية..عندها يتحقق شرط خفي هو قيام الموظف العام بفرض هيبة الدولة.
الشفافية وصدق الأقوال
فهم الحاكم للسلطة
الدولة التي يؤمن فيها الحاكم بأنه سيكون غداً محكوماً تكون مُهابة ، والدولة التي يعمل فيها الحاكم بطريقة مشروعة أو غير مشروعة على البقاء في الحكم ويعتبر نفسه أنه الأفضل في البقاء على كرسي الحكم تضعف فيها هيبة الدولة .
والحاكم الذي يتعامل بشفافية، ولا تتطابق أفعاله مع أقواله، ولا يفي بوعود يتعهد بتنفيذها لما يخدم شعبه والوطن..لا تكون فيه الدولة مُهابة.
الفساد
حين يشيع الفساد(السياسي والمالي والإداري) في مؤسسات الدولة ويقف الحاكم عاجزاً عن الحد منه،أو يعترف بأنه غير قادر على مواجهته..عندها لا تبقى أية هيبة للدولة في نظر شعبها والعالم.
تلك ستة معايير أساسية لهيبة الدولة..فمن الذي أضاعها في العراق؟
نتفق على أن الاحتلال الاميركي كان قد أسقط دولة وليس نظاماً فقط كما أعلن،وبه أطاح بهيبة الدولة العراقية..وكان على النظام الديمقراطي في تشكيله لأول حكومة أن يستعيد هيبة الدولة..فما الذي حصل؟
كان السيد نوري المالكي قد كلفه رئيس الجمهورية الراحل جلال الطالباني في نيسان 2006 لرئاسة حكومة تنهي حالة جمود سياسي استمر شهوراً بعد حكومة إياد علاوي المؤقتة(2004-2005) وحكومة إبراهيم الجعفري(2005-2006)اللتين لا يمكن تحميلهما مهمة استعادة هيبة الدولة لقصر المدتين ولهشاشة الوضع السياسي.
وعليه ،يكون السيد نوري المالكي هو المسؤول الأول عن استعادة هيبة الدولة لأنه تولّى رئاسة الوزراء ثماني سنوات (2006 - 2014).صحيح إنه واجه احتراباً طائفياً وحرباً داعشية شرسة..لكن هذا لا يعفيه من إمكانية استعادة هيبة الدولة..فلنبدأ بمساءلته عن أخطر معيار أنهى هيبة الدولة في زمنه..الفساد..وله في العراق حكاية.
ما حصل عندنا زمن الاحتلال الأميركي يشبه ما حصل زمن الاحتلالين العثماني والبريطاني في النصف الأول من القرن الماضي. إذ يذكر معروف الرصافي في كتابه "الرسالة العراقية " ، وهو رجل موثوق وعضو مجلس نواب،ما نصه بخصوص الفساد المالي والإداري:
"وكانت الرشوة فاشية ، فكان الصعلوك اذا تسنم منصباً فلا تمر عليه أيام إلا وقد أصبح من أهل الثراء.وكانت الأمور لا توسّد الى أهلها، فلا الكفاية ولا المقدرة ولا الاستقامة ولا الصدق والأمانة ..إنما توسّد بأحد عوامل ثلاثة "المنسوبية" و"المحسوبية" و"الرشوة" ( ص 55) .
غير أن الحال في عهد المالكي كان أسوأ وأقبح وأوقح ، يثبته أكثر من شاهد موثوق ، نسوق ما ذكرته صحيفة واشنطن بوست بعددها الصادر في ( 23-9-08)بأن (13)مليار دولار من أموال الإعمار في العراق أهدرت أو نهبت عبر مشاريع وهمية وعناصر فاسدة في الحكومة العراقية ، فيما نسبت الإذاعة البريطانية (بي بي سي في 28-9-08)الى لجنة تخصصية في حكومة المالكي وجود ثلاثة آلاف حالة فساد مالي موثقة بأدلة قاطعة ، وانتقل العراق في زمنه من المرتبة 137 عالمياً والأسوأ في الفساد بين الدول العربية الى المرتبة 160 ليحتل المركز الثالث عالمياً والأول عربياً ، وفقا لتقرير المؤشر العالمي للفساد، وشهادة من السفير الامريكي لورانس بنديكت منسق مكافحة الفساد بالسفارة الاميركية في بغداد يحذر فيها بأنه إذا لم تتم السيطرة على الفساد فإنه يهدد استقرار العراق ، وباعترافه في كلمته أمام مجلس محافظة بغداد في( 20 - 9 - 2008) قال المالكي بالنص " كثير من المسؤولين قد أثروا كثيراً"،مع أنه هو رئيس الوزراء المسؤول عن هؤلاء المسؤولين!.
والأخطر من هذا الذي يفترض أن يعرّضه لمساءلة قانونية هو اعترافه علناً بقوله:(لديّ ملفات فساد لو كشفتها لانقلب عاليها سافلها)..لأنها تعد خيانة ذمة..ولا تفسير لها سوى أن بين الفاسدين الكبار من هم أعضاء في حزبه الحاكم،فخشي الخصوم ليعتمد وإياهم مقولة (تسكت عني اسكت عنك) .
وشيوع الفساد لم يسقط فقط هيبة الدولة بل أسقط قيماً أخلاقية ودينية أوجزها المتظاهرون بأهزوجتهم(باسم الدين باكونه الحرامية، نواب الشعب كلهم حرامية) وتحول الفساد في زمنه من فعل كان يعد خزياً الى شطارة، وأسقط المعايير الخمسة الأخرى لهيبة الدولة.. فالقانون انتهك بوجود فصائل مسلحة تتحدى الحكومة ، والعشائر استخدمت السلاح متحدية القوانين التي سنتها الدولة ، والدولة صارت محاصصات وليست دولة مؤسسات ، ولم يعمل بمبدأ الكفاءة والخبرة والنزاهة ، لا في الخط الإداري الأول للدولة ولا حتى في الملحقيات الثقافية في السفارات ، وفي زمنه صارت بغداد العاصمة الأسوأ في العالم،وتحول شارع الرشيد الى طريق قذر تجوب فيه (الستوتات)،رغم أن سعر برميل النفط في زمنه زاد على 140 دولاراً.وظلت الهويات الفرعية(طائفة،عشيرة..) شغالة حتى في التعيينات..ولم تتطابق أفعاله مع أقواله..فهو يصرح مؤكداً إنه مع التظاهرات السلمية ويجب تحقيق مطالبهم المشروعة،ويتجاهل أن التظاهرات بدأت في شباط 2011 أيام كان هو المسؤول الأول..وما استجاب، بل صعد قيادي من حزبه الحاكم على سطح البناية المطلّة على ساحة التحرير ليعطي أوامره باطلاق الرصاص على متظاهرين سلميين مطالبين بحقوق مشروعة!
نتوقف هنا لنكمل الحلقة الثانية في تحليل سيكولوجي لشخصية السيد نوري المالكي.