ماذا يَجري بالعِراق مِن أعلى زاخو إلى أسفل البَصرة؟! هذا السُّؤال كثيراً ما يواجهه العِراقي مِن قِبل الآخرين، ولا يُفسر واقع الحال بالجُنُون، فهو مرض ليس معدياً، مصطلح يُطلق مجازاً على أيِّ تصرفٍ مخالفٍ للواقع، وينتهي أثره بصاحبه، وليس أشهر مِن المارستانات قديماً والمستشفيات حديثاً الخاصة بالمجانين، لكنّ الجُنُون عندما يتحول إلى ثقافةٍ موجهة لتنسل منها أعرافٍ تُصيب وطناً بالكامل، يصعب وصفها بالجُنُون، فلا بد مِن مصطلح مابعده.
أُذَكرُ بما نظمه صاحب العمامة البيضاء الوزير علي الشَّرقي(ت1964): «أيها البُلبلُ المعلَّقُ في السجنِ/ سلامٌ كم يُوسُفٍ في السّجونِ/بُلبلي هلْ رغبتَ في الرَّبطةِ السَّوداء أم تلكَ شارةُ المحزونِ/إنني قد غدوتُ أَنعمُ في الشَّكِ/لأنّي منغَّصٌ باليقينِ/لم أجد في العِراق ليلى ولكنْ/كلَّ آنٍ أمرُّ في مجنونِ»(الدِّيوان).
كأن بوابة دار مجانين فتحت: رجلٌ عينَ نفسه محافظاً لبغداد، وظل يُمارس منصبه لأسبوعين، والفضائيات العالمية وجدت في المشهد العِراقي سلوةً، معممٌ يُهدد الأميركان ويُحرض، ويُحرض على قتل «البعثيين»، ثم يختفي معتكفاً، لأن الأميركان واجهوه بملفه الأمني السَّابق، يوم كان مخبراً، أساتذة تنتظرهم سيارات القتل يسقطون قتلى عند بوابة الجامعة أمام طلابهم، بينما رابطة دينية تحتل أهم مساجد بغداد تعتبر وجود «القاعدة» لحماية أعراض العراقيين، يقابله آخر يعتبر الميليشيات الولائية تأسست لحماية الأعراض نفسها، وبينهما مَن أُتُمنَّ على أمن البلاد فتحَ السُّجون للقاعدة ويدفع الأموال لتأسيس الميليشيات؟! فمَن دافع عن أعراض العراقيين ومَن انتهكها، عبر التَّفجيرات واغتيال وقنص المتظاهرين؟! صاحب عِمامة ضد الأميركان، لأنهم عطلوا ظهور المهدي المنتظر، المرجو في تلك السَّنة!
تفاقمت الخبرة في القتل، تُحَشْى بطون الكلاب والحمير بالمتفجرات، أو تُربط بها وتدخل بين النَّاس، جثث تنتشل مِن دجلة بلا رؤوس، وشائعة بُثت أنَّ على النَّهر فرامة لحوم ضخمة، لفرم أجساد المعدومين، والشَّائعة أخذت مداها في وقتها، رجلُ دينٍ يتبعه مئات الألوف، وكُتاب وشعراء نسوا الثَّقافة، يُفتي بجواز الغش في المدارس، وبأثرها تلك يظهر برلماني غاضباً مِن محاسبة مزوري الشَّهادات!
رئيس وزراء يستخدم المسبحة(الاستخارة) في تحريك قوة ضد هدفٍ إرهابي! محافظ بغداد يترك مهامه، ليمارس ما اعتاده في موقعه الدِّيني، فيقوم بحفل بلوغ فتيات بغداد سن التَّكليف، بتوزيع الأحجبة، وهذا المحافظ عندما اختلف مع حزبه هُدد بملفات فساد، وهو الآخر هددهم بلمفات، يُهان ويُقتل الطَّبيب عندما يفشل في علاج مريض، وعليه أن يحل القضية عشائرياً.
ابنُ وزير، وصاحب أعرق الميليشيا بالقتل، له صلاحية بتحريك الطَّائرات، فالطَّائرة التي لم تنتظره تُعاد وهي في الأجواء، عضوة برلمان تصرح علانيَّة يجب أن يتناسب عدد المقتولين مِن الشّيعة العدد نفسه مِن السُّنَّة، والدُّستور والقانون تلبسهما حجاباً، تُقدم الأحزاب مرشحيها للعمل الدُّبلوماسي، بهوياتهم القَرائبيَّة، تكون حصة الجزار، وتاجر إطارات السيارات سفراء، والبنجرجي(يصلح الإطارات) قائماً بالأعمال! وبائع «كارتات» التلفونات نائب لرئيس وزراء، والعارض في برامج الطباخة رئيساً لإحدى السّلطات الكبرى، بموافقة الجوار.
يصبح صاحب ورشة تصليح السَّيارات مسؤولاً عن أمن العراق، والمضمد يقوم بمهام وزارة الدَّاخلية، يُحتفل بالقتلة مجاهدين، وتعلق صورهم فوق رؤوس ذوي الضَّحايا، ضباط كبار، ألوية وعمداء، يحاكون قراء المنابر أو المجالس والرُّواديد(المنشدين) وداخل ثُكنات الجيش.
يقف منادون يحمسون النَّاس تحدياً للوباء بالحُسين، كي يكثفوا اللاطمين والمطبرين، شاب معمم، وجد نفسه قائداً، يلعب في عقول الناس، ويتنقل في خطاباته مِن تحريم الرّياضة إلى منع التّظاهرات إلا بشروطه، وتظهر قيادة الدَّولة وتُدعيه ب«سيد المقاومة»! هل هذا جُنُون أم ما بعد الجنون يا أطباء النُّفوس والعقول؟!
أعود إلى الشَّيخ الشَّرقي، وهو يلخص مجد بلادهِ: «أيُّ قُطرٍ نجمتُه الكرامات/بأغلى عفودِها مثلَ قُطري/فالمبادي[s1] كوفيَّةٌ والمعالي/حضنتها بَغْدادُ والفضل بَصْريُّ/ تُربةٌ تنبتُ النُّبوغَ ونهرٍ/دُفَعُ المجدِ في سواقيه تجري». أيصحُ أنَّ هذه البلاد تصل مرحلة ما بعد الجنُونُ، النَّاطقُ فيها معممٌ يختصر ألم شعبها ب«النَّستلة»، ويكذب ويُدلس على الضَّحايا، ومعمم آخر يُبطل الطَّب بتناول «حلاوته» المقدسة!
عن الاتحاد الامارتية